Al-Watan (Saudi)

مجاهد عبدالمتعال­ي

العبرة ليست بشعارات تدعيها كل الحضارات البائدة عن نفسها بصفتها العرق الأنقى والأتقى، بل بنظام يرى فيه الناس خلاصا نسبيا لأقدارهم البائسة

- Mujahed@alwatan.com.sa

لم أتعرف على دروس الديالكتيك المادي من كتب مترجمة لأرسطو أو ماركس، بل عرفتها بموت أبي قبل خمس عشرة سنة، فقد كنت أعلم أنه مريض بالسكر والقلب وأصيب بجلطة نجا منها ولن ينجو من القادمة، بالإضافة إلى ضعف في عضلة القلب، كل هذا كنت أعرفه (معرفة نظرية) قبل وفاته، وكنت أعرف أنه سيموت، وكنت أحاول استيعاب معنى موته وهو حي، وقد قدَّمت لي الفلسفات المثالية كل تفسيراتها ومعطياتها التي تجعلني متماسكا أمام الواقع القادم في أن أبي سيموت كي (لا أبكي)، ثم ارتطمت بموته فهويت من سماء الفلسفة المثالية بأنواعها لأرتطم بأرض الواقع (فبكيت)، لأكتشف أن معنى الموت كان غائبا عني حتى عشته بشكل حقيقي وأنا أغسله بيدي، ثم أكفنه وأكبِّر عليه أربعا في صلاتي عليه مع المصلين، ثم أنزل بنفسي إلى القبر لأستقبل جثمانه ثم أصعد بعد ذلك لأهيل عليه التراب مع الدافنين، هنا سقطت كل الفلسفات المثالية ليصعد أمامي نموذج الديالكتيك المادي، على المستوى التاريخي، فأكتشف الفراغ الذي لم أكن أراه وهو حي، وأكتشف معنى أن يصبح البيت بلا عمود، ومعنى عجزي في أن أملأ مكان أبي أمام حتى زوجتي وابنتي الصغيرة التي كان يلاعبها جدها قبل موته، كل ذلك ساعدني في حياتي على أن لا أستمع لأي فلسفة مثالية ترانسندنتا­لية/متعالية على الواقع، ثم زادت قراءتي ففهمت الكتب وفق منطق حياتي وواقعي، وليس وفق منطق المذاكرة المدرسية لكتب العلماء والمفكرين، وساعدني في ذلك تخرجي في كلية الشريعة بمستوى ضعيف يؤهلني لأكون طالب علم متواضع للمعرفة طيلة عمره، يعاني عقدة النقص الدائمة في أنه ما زال لا يعرف ما فيه الكفاية، تلك المعرفة التي أجدها في داخل الكتب بأنواعها وعلى ألسنة الناس باختلاف أجناسهم ومللهم.

كنت أريد أن أفهم السياسة فانشغلت أول أمري بالسياسيين وخطاباتهم، غافلا عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لشعوبهم، فكنت كمن يراقب الساحر غافلا عن حقيقة قبعته وصندوقه وما فيهما من ورق ومناديل وطيور محشورة وأرانب خائفة، لسان السياسي خفيف كيد الساحر في ألعاب الخفة، فمرونة اليد في الإخفاء والإظهار هي ما يبهر الناس، والسياسي أحيانا يتقاطع مع لاعب استعراضات خفة اليد، فليس هناك شيء حقيقي في ما يفعل، رغم أن الحمامة التي خرجت من تحت منديله حقيقية، ورغم أن الأرنب الذي خرج من القبعة حقيقي، لكنها رغم كل هذا ليست سوى خفة يد لكسب إعجاب الجمهور، في استعراض باهر، وكذلك يفعل بعض السياسيين عبر حذلقة اللسان التي تفضحها لغة الجسد.

بعد هذا أعدت السؤال عن الدين هل هو صراع في صف المدنية والحضارة أم صراع ضدها؟ فعندما جاءت الإصلاحات العثمانية بهدف اللحاق بالحضارة الأوروبية حاول أيضا الإسلاميون منذ ذلك الحين التأسيس لهذا المعنى وكانت المحاولة على يد جمال الدين الأفغاني متحمسا للمدنية كمعنى إسلامي، ويبقى السؤال: هل فعلا الدين هو حالة مدنية؟ وقد يبدو السؤال غريبا في تلك الفترة، ولكنه ليس غريبا في عصرنا هذا مع تقاليد الإسلام السياسي وهوسه بأسلمة كل شيء، من قنوات الفضاء، مرورا بالبنوك، وصولا إلى ملابس السباحة.

ما نحاول مقاربته هي فكرة الإسلام السياسي ضد المدنية الحديثة التي تأسست في أدبيات سيد قطب كعراب فكري متأخر مقارنة بالأوائل أمثال الأفغاني ومحمد عبده، فبدلا من أن يصل سيد قطب إلى قامة الأفغاني في حواره مع رينان الفرنسي، عاد محملا بالصدمة الحضارية في (جاهلية القرن العشرين)، ليصنع حالة من اليوتوبيا الفكرية، تحاول بمجرد الادعاء أن تلحق بركب الحضارة الإنسانية وطبعا اليوتوبيا تبقى كذلك مع استحالة تطبيقها، لترى الأتباع يتساءلون عن فشلهم في إنزال المشروع على الأرض، فإذا نزل أصابه ما أصاب المشاريع الأخرى من نكسات وخيبات والسبب ببساطة أن طبيعة الأفكار الطوباوية لا تقبل الهبوط على الأرض، وإلا كيف تكون طوباوية بالأصل، وبقاؤها في شكلها الطوباوي ضمان للترافع التكراري الذي نسمعه دائما: (العيب ليس في المشروع الإسلامي ولكن العيب في التطبيق)، متناسين أن الإسلام كدين لم يعان من مشكلة تطبيق أبدا، فالمسلم بإمكانه أن يكون مسلما في أرض الفاتيكان أو أرض بوذا أو الجامع الأزهر، لا علاقة للجغرافيا بدينه، فلا يوجد دولة في العالم المتحضر ليس فيها مسجد، فالمساجد تملأ الأرض، لكن أفكار الإسلاميين عن السياسة لا علاقة لها بدين الشخص، وميدانها ميدان العمل السياسي الذي يتقنه إردوغان العلماني ــــ إردوغان يفخر بالعلمانية كعمود للحياة السياسية في تركيا أتاتورك ــــ وهنا يتجلى الفرق بين لحية الخميني وشارب أتاتورك الذي ما زال إردوغان يحافظ عليه، متنازلا عن عمامة الخليفة العثماني، مع إبقاء المسألة في حدود الفلكلور مع استثمار الإرث الثقافي لهذه الحضارة العثمانية التي لم تقدم للبشرية اختراعا واحدا يحسب لها ضمن مخترعات المائة والخمسين السنة الماضية في عمر البشرية، هذا القرن والنصف الذي أنتج من المخترعات ما لم تنتجه عشرة آلاف سنة، فعن أي تخريجات يتحدث الإسلاميون، متناسين أن بعض أبناء أميركا الجنوبية ما زال يفاخر بأنه سليل حضارة المايا فماذا لديها لتضيفه للحضارة الحديثة سوى رومانسيات يفضحها تاريخ الجماجم الأحفورية لتلك الحقبة من تاريخ الحضارة البائدة، فالعبرة ليست بشعارات تدعيها كل الحضارات البائدة عن نفسها بصفتها العرق الأنقى والأتقى، بل بنظام يرى فيه الناس خلاصا نسبيا لأقدارهم البائسة في بلدانهم وبين شعوبهم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia