ﻛﻬﻒ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ
أﻧﺖ وأﻧﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻰ واﻗﻌﺔ واﺣﺪة، ﻓﺄرى ﺷﻴﺌﴼ وﺗﺮى ﺷﻴﺌﴼ آﺧﺮ. أﻧﺎ وأﻧﺖ ﻻ ﻧﺮى اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ، ﺑﻞ ﻧﺮى ﺻﻮرﺗﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻓﻲ أذﻫﺎﻧﻨﺎ. ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﻟﻨﺎس ﻓﻲ ﺣﻜﻤﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻷﺷــﻴــﺎء ﻷﻧـﻬـﻢ ﻳﺠﻬﻠﻮن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﺑﻞ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺮوﻧﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺻﻮر ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ. ﻗﺪم اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷﳌﺎﻧﻲ ﻣﺎرﺗﻦ ﻫﺎﻳﺪﻏﺮ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻣﺒﺴﻄﺔ ﻟﻬﺬا اﳌﻔﻬﻮم، ﻓﻘﺎل إن ﻛﻞ ﻓﻬﻢ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﺸﺮوط ﺑﺎﻟﻔﻬﻢ اﻟﺴﺎﺑﻖ. وﻻ ﻓﻬﻢ ﻣﻦ دون ﻓﻬﻢ ﻣﺴﺒﻖ. ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻋﻠﻰ اﻷرﺟﺢ رأى ﺗﻮﻣﺎس ﻛــﻮن، اﳌﻔﻜﺮ اﻷﻣﻴﺮﻛﻲ اﳌﻌﺎﺻﺮ، أن ﻣﺎ ﻳﻜﺘﺸﻔﻪ اﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻌﺎدي ﻟﻴﺲ ﺳـﻮى إﻋــﺎدة ﺗﺮﺗﻴﺐ ﳌﺎ ﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻪ ﺳﻠﻔﴼ.
ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ ﺑﺰﻣﻦ ﻃﻮﻳﻞ، رأى أﻓﻼﻃﻮن أن ﻋﺎﻣﺔ اﻟﻨﺎس ﺳﺠﻨﺎء ﻟﻠﺬاﻛﺮة اﻟﻔﺮدﻳﺔ أو اﻟــﺠــﻤــﻌــﻴــﺔ اﻟــــﺘــــﻲ ﺗــــﺤــــﺪد رؤﻳــﺘــﻬــﻢ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ. ﺗﺨﻴﻞ أﻓــﻼﻃــﻮن ﻛﻬﻔﴼ ﻳﺘﺴﻠﻞ إﻟــﻴــﻪ ﺑـﺼـﻴـﺺ ﺿــــﻮء، ﻓـﺘـﻨـﻌـﻜـﺲ ﻋﻠﻰ ﺟـــﺪراﻧـــﻪ ﻇـــﻼل ﻣـــﻦ ﺣــﺮﻛــﺔ اﻟــﺤــﻴــﺎة ﻓﻲ ﺧـــﺎرﺟـــﻪ، ﻓـﻴـﺘـﺨـﻴـﻞ أﻫــــﻞ اﻟــﻜــﻬــﻒ أﻧـﻬـﻢ ﻳﺮون اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺬاﺗﻬﺎ. ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣــﺮ ﻻ ﻳــﺮون ﻏﻴﺮ ﻇﻼﻟﻬﺎ. ﻗﻠﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻣــﻤــﻦ ﻳـﻤـﻠـﻜـﻮن اﻟــﺒــﺼــﻴــﺮة أو ﻳﺘﺤﻠﻮن ﺑﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ، ﻳﺘﻤﺮدون ﻋﻠﻰ ﻛﻬﻒ اﻟﺬاﻛﺮة ﻓـﻴـﺨـﺮﺟـﻮن إﻟــﻰ اﻟــﻨــﻮر، ﻓــﻴــﺮون اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ، وﻳﺮون اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﻫﻲ. وﺣﲔ ﻳﺼﻔﻮﻧﻬﺎ ﻷﻫﻞ اﻟﻜﻬﻒ ﻓﺈن ﻗﻠﻴﻼ ﻣﻨﻬﻢ ﺳـﻴـﺠـﺮأون ﻋﻠﻰ ﺗﻘﺒﻞ ﻓـﻜـﺮة أن ﻫﻨﺎك، ﺧـــــﺎرج ﺟــــــﺪران اﻟــﻜــﻬــﻒ، ﻋــﺎﳌــﴼ ﻳﻨﺒﺾ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة أو ﻳﺘﺤﺮك ﻓﻲ اﺗﺠﺎه ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻋﻤﺎ ﺗﺨﻴﻠﻮه ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ.
أﻋـــــــﺎد ﻓـــﺮاﻧـــﺴـــﻴـــﺲ ﺑـــﻴـــﻜـــﻮن ﺷـــﺮح اﻟﻔﻜﺮة ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺸﻬﻴﺮة ﻋﻦ أﺻﻨﺎم اﻟﻌﻘﻞ اﻷرﺑـﻌـﺔ، أي ﻣﻨﻈﻮﻣﺎت اﻷوﻫــﺎم اﻟﺴﺎﻛﻨﺔ واﻟﻨﺸﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ رؤﻳﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ، وﺑﻴﻨﻬﺎ أﺻﻨﺎم اﻟﻜﻬﻒ.
أﺻــﻨــﺎم اﻟــﻜــﻬــﻒ أو ﻛــﻬــﻒ اﻟــﺬاﻛــﺮة ﺗــﻨــﻄــﺒــﻖ ﺑــــﺼــــﻮرة ﺑــﻴــﻨــﺔ ﻋـــﻠـــﻰ اﳌـــﺴـــﺎر اﻻﺟــﺘــﻤــﺎﻋــﻲ اﻟــــﺬي ﻧـﺴـﻤـﻴـﻪ اﻟـﺘـﻤـﺬﻫـﺐ. ﻧــﺤــﻦ ﻧــﻨــﻈــﺮ إﻟــــﻰ ﻣــﻌــﺘــﻘــﺪاﺗــﻨــﺎ ﻓــﻨــﺮاﻫــﺎ ﺻـﺤـﻴـﺤـﺔ داﺋـــﻤـــﴼ. ﺑـﻴـﻨـﻤـﺎ ﻳـﻨـﻈـﺮ إﻟـﻴـﻬـﺎ أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ ﻣﺨﺘﻠﻒ، ﻓﻴﺮوﻧﻬﺎ ﺧﺎﻃﺌﺔ داﺋﻤﴼ. ﻧﺄﺗﻲ ﺑﺎﻷدﻟﺔ واﻟﺸﻮاﻫﺪ، ﻓﻴﺄﺗﻮن ﺑــﺄدﻟــﺔ وﺷـــﻮاﻫـــﺪ ﻣــﻘــﺎﺑــﻠــﺔ. وﻓـــﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟــﻨــﻘــﺎش، ﻳـــــﺰداد اﻟــﻄــﺮﻓــﺎن ﻗــﻨــﺎﻋــﺔ ﺑﻤﺎ ﻛـــﺎﻧـــﻮا ﻋـﻠـﻴـﻪ أﺻـــــﻼ. وﻛــــﺄن اﻟــﻨــﻘــﺎﺷــﺎت ﻛﻠﻬﺎ ﺣﻮار ﺑﲔ ﻃﺮﺷﺎن أو ﻣﺠﺮد ﻧﻔﺦ ﻓﻲ اﻟﻬﻮاء.
ﻟﻴﺲ ﺑﲔ اﻟﻄﺮﻓﲔ ﺟﺎﻫﻞ أو ﻗﻠﻴﻞ اﻟـــﻌـــﻠـــﻢ، وﻟـــﻴـــﺲ ﺑــﻴــﻨــﻬــﻤــﺎ ﻣــــﻦ ﻻ ﻳـﻔـﻬـﻢ اﻷدﻟـﺔ أو ﻃﺮق اﻻﺳﺘﺪﻻل. اﳌﺴﺄﻟﺔ وﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ أﻧـﻬـﻢ ﻳـﻔـﻜـﺮون ﻓـﻲ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺗﺘﺤﺪ ﻓـﻲ اﻷﺳــﻤــﺎء، وﻗــﺪ ﺗﺘﺤﺪ ﻓـﻲ اﻟﺠﻮﻫﺮ، ﻟـﻜـﻨـﻬـﻢ ﻻ ﻳــﻬــﺘــﻤــﻮن ﺑــﺠــﻮﻫــﺮ اﻷﺷــﻴــﺎء وﻻ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻬﺎ، ﺑـﻞ ﻳﻬﺘﻤﻮن ﺑﺎﳌﻌﺎﻧﻲ اﳌﺘﻮﻟﺪة ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء.
ﻣــﻌــﻨــﻰ اﻟـــﺸـــﻲء ﻫـــﻮ اﻟــﺼــﻠــﺔ اﻟــﺘــﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﺑﻴﻨﻪ وﺑﲔ اﻟﻨﺎس. وﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻷي ﺷﻲء ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﺘﺤﺪد ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺎﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺪاوﻟﻮﻧﻪ. ﺟﺮب أن ﺗﻌﺮض ﻋﻠﻰ ﻃﻔﻞ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ رﻳــﺎل أو ﻟﻌﺒﺔ ﺑﻌﺸﺮة رﻳﺎﻻت، ﻓﻤﺎ اﻟﺬي ﺳﻴﺨﺘﺎر؟ اﳌﺆﻛﺪ أﻧﻪ ﺳﻴﺨﺘﺎر اﻟﻠﻌﺒﺔ، ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﻨﻲ ﻟﻪ ﺷﻴﺌﴼ. أﻣﺎ اﻟﺨﻤﺴﻤﺎﺋﺔ رﻳﺎل ﻓﻠﻴﺴﺖ - ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ - ﺳﻮى ورﻗﺔ.
أﺗـﺒـﺎع اﻷدﻳـــﺎن واﳌــﺬاﻫــﺐ وأﻋـﻀـﺎء اﻟـﺠـﻤـﺎﻋـﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﺑــﻞ ﻛــﻞ اﻟﻨﺎس ﻋـــﻠـــﻰ وﺟــــــﻪ اﻟـــﺘـــﻘـــﺮﻳـــﺐ، ﻻ ﻳـــﺠـــﺎدﻟـــﻮن ﻗﻨﺎﻋﺎﺗﻬﻢ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ، وﻻ ﻳﺘﺨﻠﻮن ﻋﻦ ﻣﺴﻠﻤﺎﺗﻬﻢ، ﺣﺘﻰ ﻟﻮ رآﻫﺎ اﻵﺧﺮون ﻏﻴﺮ ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ. ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﻫﺎﺋﻤﺔ ﻓــﻲ اﻟــﻔــﻀــﺎء، ﺑــﻞ ﻫــﻲ أﺟــــﺰاء ﻣﺘﻨﺎﻏﻤﺔ ﻣﻠﺘﺤﻤﺔ ﻓﻲ ﺻﻮرة ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﺴﺘﻘﺮة ﻓﻲ ذاﻛــﺮﺗــﻬــﻢ، ﺗﺸﻜﻞ ﻛﻬﻔﻬﻢ اﻟــﺨــﺎص، أي ﻋﺎﳌﻬﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، اﻟﺬي ﻗﺪ ﻳﻤﺎﺛﻞ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﺎس أو ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ واﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ.
ﻫــﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺣـــﺪ اﻟـﺒـﺮﻫـﻨـﺔ ﻋﻠﻰ أن ﻋـﺎﳌـﻚ أﻛـﺜـﺮ ﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ﻣـﻦ ﻋـﺎﳌـﻲ، أو أن ﻛﻬﻔﻚ أوﺳﻊ ﻣﻦ ﻛﻬﻔﻲ؟ رﺑﻤﺎ. ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧـﺘـﺤـﺪث ﻓــﻲ ﻧـﻬـﺎﻳـﺔ اﳌــﻄــﺎف ﻋــﻦ ﻛﻬﻒ، واﺳﻌﴼ ﻛﺎن أو ﺿﻴﻘﴼ.