Okaz

السقوط ألعلى

- بدر عبدالعزيز Badr.alghamdi.kfsh@hotmail.com

انــطــلــ­ق رعــيــلــ­نــا الــفــنــ­ي األول بـــهـــدو­ء نــســبــي ألسباب تكوينية ال دخل لهم بها، وأسباب مجتمعية ال انفكاك لهم عنها، فمضوا يصارعون داخل محيطهم الجغرافي وإطارهم التاريخي املرسوم لهم سلفًا. حتى ظهر من بينهم فتى يحمل أفكارًا خاصة عن املوسيقى، وفلسفة غريبة حولها، يتصف بالذكاء الذي يبعث على اإلبداع. سعى هـذا الفتى اليافع إلعــادة تشكيل تمثال األغنية غير املكتمل، محاوال إبـراز مالمحها وتدوير زواياها الـــحـــا­دة، تـــرك عـقـلـه لـقـلـبـه ونــفــســ­ه ألنــامــل­ــه بــاحــثــًا في الجمال راغبًا في الخلود، مثبتًا نظرية «أرسـطـو» أن الفن أرقى من الطبيعة! حباه املولى صوتا نقيا يشبه تغريد العصافير، أعذب األصوات رقة وأكثرها تأثيرًا، جمع بن حالوة الصوت واألداء معًا، انطلقت موجات صوته في أوساط ميتافيزيقي­ة وكأنها ظالل يقي حرقة الحياة، غير الواقع وبدل الطبيعة وأخرجها من اإلطار التقليدي تمامًا كما فعل «زرياب» في األندلس، فجاوز اسمه حدود الندرة وذاع صيته في اآلفاق كقمة عالية وإطاللة جميلة للفن، حتى أضحى صوتًا لألرض. املـوسـيـق­ـى ال تقتصر عـلـى تـصـويـر املـظـهـر الخارجي للشعور والسلوك اإلنساني، بل تمثل الداللة الباطنة والــحــيـ­ـاة االنـفـعـا­لـيـة ألحــــوال اإلنــســا­ن وأفــعــال­ــه، لذلك عندما تصدر األلـحـان عـن نفس مليئة بالشجن فهي تــعــبــر عـــن لــحــظــة واحــــــد­ة مـــن الـــزمـــ­ن تثبت الــحــركـ­ـة عـنـدهـا أشــبــه بـتـمـاثـي­ـل يونانية، وهـــنـــا تــكــمــن عــبــقــر­يــة صــــوت األرض في بـسـاطـة ألـحـانـه وعمقها مــع عــدم تكلفها، لذلك رسخت في ذهن السامع. إن موسيقاه نبع يتدفق ليستردنا إلى فردوس الطفولة، عندما يـشـدو يشعرنا بـأنـه ميزنا عـن كل الــنــاس، يغني مستطردًا باسمًا فــي حياء مسيطرًا على أذهاننا وكأن ال هم له سوى توفير أسـبـاب الهناء والــســرو­ر لنا، يشيع فـي أمسياته البشر والحبور حتى يبدو الجو خاليا من كل املاديات التافهة، لم يصدمنا بروعة أغنياته بل زجها إلينا مستساغة يحس بها القلب قبل أن تسمعها األذن، أغرق نفسه في متعة الفن حتى أصبحت أغنياته بديال معنويًا يصرف للعشاق لقاء معاناتهم. تــســنــم صــــوت األرض ذروة الـــرجـــ­ولـــة، وانـــحـــ­در نحو الكهولة، استرق الزمن الخطى ال يبالي وال يمهل، أصاب اإلجـهـاد قلبه، وبــدأ جسده يطالب بحظه مـن الراحة، نصحه األطــبــا­ء بـالـراحـة الـتـامـة، لكن الـسـوء لـم يصب صوته قط! لذا أرغم نفسه على البذل، وقف عـلـى املــســرح وابـتـسـم، وقـلـبـه بـــاك موجع، دوت عــاصــفــ­ة مـــن الــهــتــ­اف والتصفيق، وضـع العبقري نظارته فـوق عينيه، يرى حفاوة الناس به كرمًا من عند أنفسهم ال دليال على نبوغه، جلس محتضنًا عوده وبدا وكأنه انتصر في صراعه مع الزمن، تجلد وغنى ولم يدع األلم يشمت به، كانت نـفـسـه تـتـوثـب كشخصية مـيـثـولـو­جـيـة ال يـمـكـن تــفــســي­ــرهــا، حــتــى ســقــط كأسطورة «بروميثيوس»، لم يهب للبشر النار كبروميثيوس بل وهـب لهم الحب وذهــب. ذهـب مشيعًا بألم آسـر تحول إلى (أنثروبولوج­يا) اجتماعية تنتقل من جيل لجيل كحكاية شعبية لكنها عميقة فلسفيًا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia