قدسية الزمان واملكان

مــا زلـــت فــي أجــــواء الـشـهـر الـفـضـيـل، غـمـرتـنـا أيــامــه ولـيـالـيـه بعبق روحانيتها فلم نفق إال ونحن على وشك وداعه. استقبلنا قبل ليال ذكـرى موقعة بدر الكبرى وسنبدأ الليلة العشر األواخــر، هنيئا ملن سيعطيها حقها طلبا للظفر بشهود أعظم لياليها، وفقنا الله جميعا لثوابها وخيرها العميم، ليلة واحدة هي عمر لإلنسان املسلم. أحدث من هو خارج مكة املكرمة عن رمضان مكة، نكهته هنا خاصة وأجواؤه ال تجدها في أي مدينة أخرى، صمت كثيرا في غيرها من املــدن بحكم الـدراسـة أو العمل لكن لم أجـد مـوازيـا لهذه الروحانية املعطرة بقدسية املكان والزمان. هنا ترى العالم كله حولك باختالف لغاته وألوانه وسماته، تقف للصالة في الحرم في دوائــر متراصة ال صفوف مستقيمة كما في غيره، ترفع رأسك لكعبته فتنهال عليك ذكرياتها، أول من وقف مكانها تسمعا لتهليل مالئكة الرحمن ألنها أقرب بقع األرض لعرش الرحمن، أول من أعاد بنيان أركانها، أول من رفـع حجرها األسعد، تشدك الجموع تتبتل عندها، وتلفتك عظمة اإلنجاز حولها ليتسع املكان لهذه الجموع. تصلي في غير الحرم من املساجد حوله فتشعر بعمق االمتزاج بني املاضي والحاضر، تشارك مجموعة فـي إفـطـار رمضاني بأحدها، فترى البهجة فـي النفوس املبتسمة حيث الكل يخدم الكل، تنتهي وأنت تسبح الله وتدعو أن يزيد عدد املسلمني وتزيد بركتهم وإنتاجهم. تسير فـي شــوارع وأزقــة مكة فتكاد تتلمس الـتـاريـخ يجري خلفك كظلك، تتلفت فـإذا الشعب أمامك حيث ولـد ونشأ رسـول الله صلى الـلـه عليه وسـلـم، غير بعيد تــرى ديــار أهـلـه وصحابته، رضــي الله عنهم، مـعـروف مواقعها بـرغـم كـل آثــار التحديث والـبـنـاء الجديد. تبحث أكثر تجد مساجد لها ذكر سواء مع الرسول عليه السالم أو صحابته الــكــرام، تسير وأنــت تتنشق الـتـاريـخ وتتنفس صفحاته، تتذكر هذا الـوادي األجرد الذي دعا له إبراهيم عليه السالم بالرزق والثمر، تتبسم عندما تتذكر سؤاله عليه السالم عندما أمر أن يؤذن في الناس بالحج: وما يبلغ صوتي يا رب في هذا الخالء؟ فيجيبه الرب سبحانه أذن وسيأتون رجاال وعلى كل ضامر، وها هي الوفود ما زالت تترى، والوادي قد أصبح قبلة الناس ومهوى أفئدتهم. ترفع رأسك شرقا فتجد جبل النور فتتذكر بدايات الدعوة، تتجه جنوبا فينتصب أمامك جبل ثور فتعرف سر تأريخك الهجري، وغيرها من معالم تزخر بها مكة. ليست القضية آثــــارا، فــاآلثــار قــد تطمس أو يـدرسـهـا الــزمــن، لكنه اإلحساس الذي يتملك كل زائر ملكة، فضال عمن يسكنها، أنه يعايش التاريخ موثقا أمامه مربوطة أحداثه زمانيا مترابطة مكانيا، فيعود بـعـد عـمـرتـه أو حجته ليقص عـلـى أهــلــه وصـحـبـه كـيـف أنــه تقرى صفحات التاريخ بلمس، وأن خطواته في شعاب مكة ربما تطابقت مع خطوات الرسول عليه السالم أو أحد صحبه الكرام.