Trending Events

العولمة الصينية:

ملامح خريطة استثمارات بكين عبر أقاليم العالم

- تامر بدوي

تسعى الصين لشغل الفراغ الناجم عن الارتداد الأمريكي للداخل والعداء المتزايد للتجارة الدولية من خلال ضخ استثمارات ضخمة في مناطق متباعدة من العالم، حيث زادت الصين من استثماراته­ا في قطاعات البنية التحتية والطاقة في الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، واتجهت للاستحواذ على الشركات الكبرى داخل الاتحاد الأوروبي.

فرضت التحولات في السياسة الأمريكية بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، أن تقوم الصين بدور الراعي الأول للعولمة الاقتصادية في العالم، حيث استخدمت الصين الفوائض المالية لديها في الإحلال محل الولايات المتحدة لتعزيز تدفقات التجارة والاستثمار عبر الحدود، وهو ما يتجلى في سعي الصين لشغل مكانة الولايات المتحدة في اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي، والسعي لتغيير أنماط حركة التجارة العالمية، بحيث تصبح الصين في قلب العالم.

�أولاً: دو�فع �لتمدد �لا�ستثماري �ل�سيني

تأثرت سياسات التوسع الاستثماري الصينية بعدة عوامل دولية تتمثل في السياسة الاقتصادية الأمريكية، وأخرى داخلية ترتبط بسياسات تغيير بنية الاقتصاد الصيني والتحولات في أنماط الاستهلاك، وتتمثل أهم العوامل المؤثرة على التمدد الاستثماري للصين فيما يلي:

-1 تغير السياسة الاقتصادية الأمريكية: تستهدف الأجندة الاقتصادية المثيرة للجدل التي يطرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغيير السياسات الضريبية بشكل يؤثر على اتجاهات التجارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. الشق الأول من عملية التغيير يستهدف تقليص الضرائب المفروضة على القطاع الخاص من 35% إلى 20% أو 15‪(. 1 (%‬والشق الثاني يستهدف فرض ضريبة حدودية Border-( ‪Adjustment Tax‬ ) تجعل الواردات أكثر تكلفة، ولكن مع إعفاء عوائد الصادرات من الضرائب بهدف تنمية الصادرات الأمريكية)2.) ومع الأخذ في الاعتبار التداعيات الخطرة التي يشير مراقبون إلى احتمال حدوثها نتيجة هذه السياسات، كإرباك سياسة الفائدة على الدولار، قد تؤدي إلى تفاقم الخلافات بين واشنطن وبكين حول سياسات سعر الصرف، وتأثر الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية سلباً.

وعلى الرغم من التحول الاقتصادي المهم الذي تشهده الصين، الساعية إلى تقليص الاعتماد على التصدير كنموذج تنموي مستقبلاً، من المرجح أن تتغير وجهات

وأسواق الصادرات الصينية على المدى القصير، على الأقل، في مواجهة النزعة الحمائية الأمريكية المتزايدة.

ويترك الانسحاب الأمريكي من اتفاقية الشراكة عبر للمحيط الهادئ TPP() مساحة أكبر للنفوذ الاقتصادي الصيني بآسيا في ظل وجود كتلة اقتصادية منافسة لازالت في طور التشكل في شرق آسيا تشترك فيها الصين، وهي الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP() التي انطلقت مفاوضات تأسيسها في عام 3( 2012(. وإلى جانب آسيا، ستكون أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا اللاتينية مسارح لاستراتيجي­ات استثمارية وتجارية جديدة للصين. 2- اختلالات سعر الصرف: تراجعت قيمة العملة الصينية من 6.2 مقابل الدولار الأمريكي في نهاية عام 2014 إلى 6.95 في نهاية عام 4( 2016(، ويرجع ذلك للإصلاحات الاقتصادية وتحول الصين باتجاه التركيز على الطلب المحلي والاستهلاك بدلاً من الاعتماد على التصدير، وهو ما يرجع لتغير واقع الاقتصاد والاستهلاك العالمي والضغوط ضد الاستيراد في مختلف دول العالم)5.)

وفي المقابل اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بالتلاعب العمدي في قيمة عملتها، على الرغم من تأكيدات المحللين الاقتصاديي­ن قيام الصين بضخ تريليون دولار تقريباً من احتياطاتها)6(، للحفاظ على استقرار العملة الصينية والحد من هبوط الاحتياطات الأجنبية لدى الصين. 3- تغير أنماط الاستهلاك: يلعب تغير أنماط الاستهلاك في سياق التحول الاقتصادي الذي تشهده الصين دوراً في ترشيد وتوزيع الاستثمارا­ت الصينية في الخارج، ويتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين من 38% في عام 2015 إلى 43% في عام 7( 2021(، كما يُتوقع أن تتراجع نسبة الادخار في الصين خلال الفترة نفسها من 47.9% إلى 8(% 41.6.)

وسيترافق مع هذه التغيرات تحول في نمط الطلب السلعي من التركيز على السلع الصناعية الثقيلة إلى التركيز على السلع الاستهلاكي­ة والخدمية. ويلعب تطور تكنولوجيا المعلومات في الصين دوراً في تنمية هذا الاتجاه من خلال توسع سوق التجزئة الإلكتروني الذي استحوذ على 12.9% من مجموع مبيعات التجزئة في عام 2015، مقارنة بنسبة 6.3% في عام 9( 2012(. ومن المتوقع أن يستحوذ سوق التجزئة الإلكتروني على 40% من مجموع مبيعات التجزئة في الصين بحلول عام 10( 2020.)

ودفعت هذه التحولات الصين للتركيز على قطاعات التصنيع في الدول النامية للوفاء مستقبلاً بحاجات بكين من السلع الاستهلاكي­ة على حساب استيراد المواد الخام، بالإضافة إلى تركيز الاستثمارا­ت الصينية على تطوير البنى التحتية لقطاعات النقل، خاصة في الأسواق الناشئة.

ثانياً: محاور ��ستثمار�ت طريق �لحرير

توسعت الصين في ضخ استثماراته­ا في مختلف أقاليم العالم بهدف توظيف الفوائض المالية لديها وإعادة هيكلة اقتصادها ليقوم على القطاعات الاستهلاكي­ة والخدمية والاستثمار في تنمية القطاعات الصناعية في الدول النامية، وتتمثل أهم الأقاليم الأكثر استقبالاً للاستثمارا­ت الصينية في إطار مشروع طريق الحرير فيما يلي:

1- أوراسيا: أعلن الرئيس الصيني تشي جين بينج في عام 2013 مشروع طريق الحرير الجديد، الذي يربط الصين بأوروبا تجارياً، عبر طريق برى وآخر بحري، بحيث يمر الطريق البري عبر آسيا الوسطى إلى غرب أوروبا، ويمر الطريق البحري بالمحيط الهندي وأفريقيا، وصولاً إلى غرب أوروبا أيضاً، وتتمثل أهم الأهداف الصينية من هذا المشروع الاستثماري، الذي سوف تنفق عليه ما يقارب التريليون دولار أمريكي، في تحقيق استقرار إقليمي في محيطها، خاصة في دول كأفغانستان وباكستان من خلال تنمية اقتصادية ممنهجة صينياً، وتأمين ممرات تجارية في آسيا الوسطى، تستطيع مدها باحتياجاته­ا من الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي، وضخ الاستثمارا­ت في النطاق الممتد من جوارها الجغرافي، وحتى غرب أوروبا وتعزيز التعاملات التجارية بين الصين وأوروبا، مما يسهم في تدويل العملة الصينية كعملة احتياط دولية، ومن المتوقع أن يلعب الممر بشقيه البري والبحري دوراً في الوفاء بحاجات الصين السلعية مستقبلاً، مع تحول أنماط استهلاكها في سياق عملية إعادة التوازن الاقتصادي)11.)

وتستحوذ منطقة شرق ووسط أوروبا على اهتمام بكين في تطوير مشروع طريق الحريري البري، لما يمثله موقع المنطقة من أهمية كمدخل للقارة الأوروبية، وربما لما تمثله من ورقة ضغط جيوسياسية مؤثرة على كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وتوسع الصين وجودها الاقتصادي في هذه المنطقة من خلال مبادرة ‪+16 1‬)الصين و11 دولة من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، و 5 دول في منطقة البلقان(، التي تأسست في عام 12( 2012(. فمنذ عام 2009 إلى عام 2014، قفز الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد إلى الصين في منطقة شرق ووسط أوروبا من 400 مليون إلى 1.7 مليار دولار سنوياً)13.)

وفي مقابل مساعي الصين للتوسع في منطقة شرق ووسط أوروبا، هناك تحليلات تشير إلى مساعٍ صينية لتقويض بعض الكيانات الأوروبية، كآلية لتقويض الوحدة والتكامل الأوروبي، من خلال التعامل الثنائي مع بعض دول الاتحاد دون الأخرى وبعيداً عن الإطار الشامل للاتحاد ذاته)14.) وتزداد المخاوف الأوروبية من هذه المساعي الصينية مع صعود اليمين الشعبوي في أوروبا، وتصويت بريطانيا على

الخروج من الاتحاد الأوروبي. وما يشير إلى وجود هذه المخاوف الأوروبية وتزايدها، هو أنه في فبراير 2017 طالبت كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا المفوضية الأوروبية بمنح دول الاتحاد حق الفيتو لمنع الشركات الصينية من الاستحواذ على الشركات الحيوية التي تعمل في المجال التقني) 15 .)

2- الشرق الأوسط: حرصت الصين على تعزيز حضورها الاقتصادي، ومن ثم الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط بسبب أهمية الإقليم، خاصة منطقة الخليج، في استمرار تأمين إمدادات النفط والغاز الطبيعي المُسال إلى الأسواق العالمية، وكذلك بسبب مرور طريق الحرير البري في المنطقة، عبر إيران وتركيا؛ ومرور الطريق البحري عبر مصر.

وقد قام الرئيس الصيني تشي جين بينج، في يناير 2016، بزيارة إلى المنطقة، وتعهد خلال زيارته للقاهرة، بتقديم دعم مالي إلى مشروعات استثمارية في المنطقة بقيمة 55 مليار دولار أمريكي)16(، كما اتفقت الصين مع كل من دولة الإمارات ودولة قطر على تأسيس صناديق استثمارية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي)17(، وفي أغسطس 2016، وقعت الصين والسعودية سلسلة من مذكرات التفاهم لتنفيذ مشروعات في المملكة)18.)

ويأتي الاهتمام الاستثماري الصيني بمنطقة الخليج، في ضوء مساعي التنويع الاقتصادي وتوفير تلك السياسات فرصاً استثمارية منخفضة المخاطر بالنسبة للصين. ويعد قطاع البتروكيما­ويات أحد أبرز القطاعات الحيوية التي تهتم بها الصين في منطقة الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج بشكل خاص نظراً للطلب العالمي القوي على المواد البتروكيما­وية، كما أنها تعد عنصراً أساسياً يدخل في تصنيع السلع الاستهلاكي­ة، التي يتزايد الطلب عليها في الصين. ومع توسيع قواعد إنتاج السيارات النظيفة في الصين، يزيد الاعتماد بصورة أكبر على استيراد المواد البتروكيما­وية التي تستخدم بصورة كثيفة في صناعتها)19.)

ثالثاً: �لا�ستثمار في �لاقت�ساد�ت عالية �لمخاطر

اتجهت الصين لضخ استثمارات ضخمة في الدول الأقل نمواً في أفريقيا جنوب الصحراء، وفي بؤر الأزمات وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وتعد الصين من أكثر الدول استثماراً في الاقتصادات عالية المخاطر لتحقيق مكاسب ضخمة والاستحواذ على الشركات والمشروعات بتكلفة منخفضة والحصول على امتيازات استثنائية في مقابل الاستثمارا­ت، وتتمثل أهم نماذج هذه المناطق التي تستثمر بها الصين فيما يلي: 1- أفريقيا جنوب الصحراء: تعد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ساحة تقليدية للتنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، من أجل كسب النفوذ السياسي، وباعتبارها سوقاً مهماً للسلع الاستهلاكي­ة، وذلك على الرغم من تراجع الاستثمارا­ت الصينية في المنطقة في السنوات القليلة الماضية)20(. وخلال زيارته للمنطقة، في أواخر عام 2015، تعهد الرئيس الصيني باستثمار 60 مليار دولار أمريكي في أفريقيا)21(. وتتركز الاستثمارا­ت الصينية في أفريقيا في الدول الغنية بالمصادر الطبيعية، إذ يستحوذ قطاع التعدين على 33.6% تقريباً من مجموع الاستثمارا­ت الصينية) 22 .)

وفقاً للبنك الدولي، ونظراً لكون الجزء الأكبر من صادرات دول القارة الأفريقية إلى الصين هي من المواد الخام والأولية، فسوف تتأثر دول جنوب الصحراء الكبرى بالتحولات الاقتصادية في الداخل الصيني، ما لم تقم بتطوير قطاعات التصنيع لتتجه لإنتاج سلع استهلاكية)23.) ولكن يظل تطوير البنية التحتية لقطاع النقل في هذه المنطقة أولوية بالنسبة لبكين، حتى تستطيع الوصول بصورة أكبر إلى الأسواق الأفريقية، لاسيما مع تزايد حاجاتها الاستيرادي­ة من السلع الاستهلاكي­ة مستقبلاً، وكذلك حاجتها لتنمية صادراتها وتوزيع أسواقها على المدى القصير. 2- أمريكا اللاتينية: برز الحضور الاقتصادي للصين في أمريكا اللاتينية منذ نهايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لسببين هما: الرغبة الصينية في التوسع الاستثماري في أسواق ناشئة، والثاني: ضمان دعم دول أمريكا اللاتينية القريبة من النهج الصيني في المنصات الدولية، خاصة في ملفي تايوان والصراع في بحر الصين الجنوبي.

تستحوذ منطقة شرق ووسط أوروبا على اهتمام بكين في تطوير مشروع طريق الحريري البري، لما يمثله موقع المنطقة من أهمية كمدخل للقارة الأوروبية، وربما لما تمثله من ورقة ضغط جيوسياسية مؤثرة على كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

وعقب صعود النزعة الحمائية للولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصين وتصعيد خطابها المعادي لسياسات الصين في بحر الصين الجنوبي، أُتيح للصين فرصة أكبر للتوسع اقتصادياً جنوباً لتنويع أسواق صادراتها ومزاحمة واشنطن جيوسياسياً في المجال الجغرافي المحاذي لها، ويبرز النفوذ الاقتصادي الصيني في الأكوادور الذي تصاعد خلال السنوات الماضية مؤكداً مدى قدرة بكين على التوسع جنوباً. إذ قدمت الصين 61% من القروض الحكومية للأكوادور مقابل تصدير الأخيرة 90% من نفطها إلى الصين في عام ‪.) 24( 2014‬

وعلى عكس أفريقيا، تتمتع دول أمريكا اللاتينية باقتصادات أكثر تنوعاً وبنية تحتية أكثر تطوراً تتيح لأسواقها الناشئة الاستجابة بصورة أكبر للتطورات الاقتصادية في الداخل

الصيني. حيث تزايدت الاستثمارا­ت والاستحواذ­ات الصينية المتزايدة في قطاعات حيوية كالطاقة النووية في الأرجنتين، والنفط في البرازيل، وتوليد الكهرباء في الأكوادور، والنقل في البرازيل وكولومبيا.

ولقد أسهمت الأزمات الاقتصادية في التوسع الصيني في أمريكا اللاتينية، ففي سياق الأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها فنزويلا على خلفية انخفاض أسعار النفط، تستمر الصين في الاستحواذ سواء على مستوى الشركات أو من خلال الاستثمار بتسهيلات من الحكومة الفنزويلية مع تسديد الأخيرة القروض الميسرة التي تقدمها الصين من خلال شحنات نفطية.

كما مثلت أزمة الديون البرازيلية فرصة للصين للاستحواذ على شركات برازيلية عملاقة في قطاعات حيوية)25(، كما أدت التوترات السياسية بين واشنطن والمكسيك حول مصنعي السيارات والهجرة غير الشرعية، لدخول الاستثمارا­ت الصينية إلى المكسيك كنتيجة للضغوط الأمريكية. وفي ديسمبر 2016، التقي مسؤولون صينيون ومكسيكيون لبحث تطوير التعاون الاقتصادي)26(. ولاحقاً، في فبراير 2017 اتفق الجانبان على إنشاء صندوق استثماري بقيمة 2.4 مليار دولار يستهدف قطاعات تصنيع السيارات، والنقل البحري، والبنية التحتية)27.)

وختاماً، من المرجح أن يؤدي التوسع الاستثماري الصيني وسعي الصين للإحلال محل الولايات المتحدة في دعم موجات العولمة وتدفقات التجارة والاستثمار، وبناء تكتلات اقتصادية بديلة، لحدوث تصعيد في التوترات بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي وقضية تايوان، وهو ما قد يدفع الصين لتبني سياسات "التحوط الاستراتيج­ي" عبر تأسيس شراكات اقتصادية وسياسية إقليمية وعالمية لمواجهة السياسات الأمريكية الضاغطة وغير المتوقعة في عهد ترامب، وفي الوقت ذاته محاولة التأثير على توجهات الرئيس الأمريكي من خلال الاستثمار في دعم الاقتصاد الأمريكي والإسهام في إقامة مشروعات لخلق فرص عمل في القطاعات الصناعية والخدمية الأمريكية.

3- الاستخدام :)Use( ويرتبط هذا المؤشر بدرجة استخدام الأدوات الرقمية لتنفيذ المهام، ويرتبط ارتباطاً طردياً بذلك، ثقة الأفراد في التكنولوجي­ا، فكلما كان الأفراد أكثر ثقة في مهاراتهم، اتجهوا لاستخدام الأدوات التكنولوجي­ة بالفعل. وقد اعتمد التقرير على نتائج مسح أجراه المركز في أكتوبر/ نوفمبر 2015 على 2752 أمريكياً ممن يبلغون 18 عاماً فأكثر، لاستكشاف العوامل التي تحدد استعداد الأفراد البالغين وقبولهم لاستخدام الأدوات الرقمية لأغراض التعلم، واستخدم أسلوب التحليل العنقودي لتصنيف المبحوثين في خمس فئات: 1- غير الجاهزين :)Unprepared( وهم من يحملون المعدلات الأقل لتبني التكنولوجي­ا ويحتاجون للمساعدة في استخدامها. 2- المتعلمون التقليديون ‪:)Traditiona­l Learners(‬ وتشمل هذه الفئة المتعلمين النشطين الذين يملكون التكنولوجي­ا ولكنهم أقل احتمالاً لاستخدامها في التعلم. 3- الممانعون :)Reluctant( وهم من يتمتعون بمهارات تكنولوجية أكبر من فئة غير الجاهزين ولكنهم أقل وعياً بمفاهيم تكنولوجيا التعليم الجديدة. 4- المستخدمون الحذرون ‪:)Cautious Clickers(‬ ويندرج ضمن هذه الفئة من يمتلكون المهارات والثقة والقدرة اللازمة لاستخدام التكنولوجي­ا ولكنهم أقل وعياً بتطبيقات واستخدامات التكنولوجي­ا. 5- المستعدون رقمياً ‪:)Digitally Ready(‬ يحققون أعلى الدرجات في الأبعاد الثلاثة المتمثلة في المهارات والثقة والاستخدام، وقد تم وضع هاتين الفئتين تحت مسمى ”المستعدون نسبياً“.

وقد توصل التقرير إلى أن 52% ممن شملهم الاستبيان يندرجون تحت فئة ”المترددين نسبياً“، أي أنهم لا يستخدمون موارد التعليم الرقمي على الرغم من توافرها وإتاحتها بسبب عدم ”جاهزيتهم“، وهو ما يعني أن التحول المجتمعي نحو تقنيات أكثر تعقيداً، مثل إنترنت الأشياء والاعتماد عليها في إتمام العديد من المعاملات اليومية، سوف يتسبب في حرمان قطاعات مجتمعية واسعة من عوائد تلك التقنيات في تحسين حياتهم، ليس بسبب عدم توافرها وفق التعريفات التقليدية للفجوة الرقمية، ولكن بسبب عدم جاهزية الأفراد لها)5.)

ويركز مفهوم الجاهزية الرقمية على ضرورة تبني معايير للتنمية لا تنفصل عن الأطر الاجتماعية لتطبيق التكنولوجي­ا والتي تؤثر بشكل بالغ في ثقة الأفراد ومدركاتهم حول فاعلية تبني الحلول التكنولوجي­ة لإتمام أنشطتهم اليومية والحصول على الخدمات وغيرها من الأمور، وهو ما يرتبط إلى حد كبير بنظرية انتشار الابتكارات ‪Diffusion of innova-(‬ tions) التي وضعها عالم الاجتماع إيفرت روجرز، والتي اعتبر فيها تبني الأفراد مستحدثات عملية تشمل خمسة مراحل تبدأ بالمعرفة والعلم، ثم الاقتناع، واتخاذ القرار، والتطبيق، وأخيراً التأكيد بقرار الاستمرار في استخدام ذلك الابتكار أي تبنيه كحل، وهو ما يعني أن وجود الابتكار المستحدث ومعرفة الناس به ليس كافياً تماماً لتبنيهم له.

ثانياً: تد�عيات �لجاهزية �لرقمية على �لتنمية

ترتبط الجاهزية الرقمية بمدى توافر بيئة مؤهلة لاستيعاب الاستثمارا­ت وتحقيق التنمية، خاصة في مجالات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وهو ما ينعكس إيجاباً على حالة التنمية في الدولة، ووفقاً لتقرير البنك الدولي في عام 2010 فإن كل 10 نقاط مئوية إضافية في نسبة انتشار التكنولوجي­ا بالدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط تسرع من نموها الاقتصادي بمعدل 1.38% بما يعني أن التكنولوجي­ا تعد من أهم محفزات النمو الاقتصادي)6.)

وأضحت العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية تركز على إصدار مؤشرات لقياس الجاهزية الرقمية لضمان وجود بيئة مؤهلة للاستثمار والتنمية، كما باتت العديد من المؤشرات تركز على الجاهزية لاستيعاب تقنيات بعينها مثل مقياس الجاهزية للحوسبة السحابية ‪)Cloud Readiness Index(‬ الذي تصدره الجمعية الآسيوية للحوسبة السحابية ويعنى بقياس معايير البنية التقنية والقانونية والأعمال وحرية المعلومات التي تخلق أكثر بيئة ”أكثر جاهزية“لتلك التكنولوجي­ا الآخذة في التوسع والانتشار)7.)

وفي السياق نفسه جاء الاهتمام بمفهوم ”الجاهزية الرقمية“باعتبارها من محفزات التنمية، حيث إن ارتفاع معدلات الجاهزية الرقمية يعني تبني أسرع للتقنيات الحديثة وسوقاً أكبر للتكنولوجي­ا، وخدمات حكومية أفضل تعتمد على الرقمنة، وقوة عاملة أكثر كفاءة، وعوائد اقتصادية مستقبلية بفضل الاستثمار في المهارات الرقمية، والتي تسهم في رفع معدلات الابتكار والإنتاجية، وتتمثل أهم تأثيرات الجاهزية التكنولوجي­ة على التنمية الاقتصادية فيما يلي: 1- تزايد الاستثمارا­ت التكنولوجي­ة: حيث تعتمد المنتجات التقنية التي تطرحها الشركات الابتكارية على قبول الأسواق لتلك المنتجات وتبنيها بما يخلق فرصاً استثمارية أكبر أمام هذه المنتجات، ولكن إذا كان سوق المستهلكين أقل مهارة أو لم تحظ تلك التكنولوجي­ا بثقتهم وتدني شعورهم بقدرتها على تحسين حياتهم وحل مشكلاتهم، فلن تستحوذ تلك الابتكارات على أسواق تساعدها على النمو والانتشار.

وتعد المعاملات المالية الرقمية من النماذج المعبرة عن تأثير القبول والثقة المجتمعية في حجم سوق المنتج الرقمي، فعلى الرغم من توافر وسائل متعددة للدفع عبر الموبايل وانتشار استخدام الهواتف الذكية، فإنها مازالت خيارات غير رائجة في إتمام المعاملات بسبب عدم انتشار الثقة في هذه التقنيات، مما يؤثر على رواج المنتجات التكنولوجي­ة. 2- تطوير الخدمات العامة: يؤدي دمج التكنولوجي­ا في قطاعات الخدمات العامة ضمن مشروعات الحكومات الإلكتروني­ة لإحداث طفرة في أنماط وآليات تقديم الخدمات للمتعاملين، حيث إن دمج قواعد البيانات التفاعلية في قطاعات الخدمات والتواصل عبر التطبيقات الذكية يؤدي لتيسير تقديم

الخدمات، ويزيد من رضا المتعاملين، ويعزز الثقة في فاعلية النظم الذكية لتقديم الخدمات، وهو ما ينعكس على تطوير بيئة الاستثمار داخل الدولة. 3- مواجهة التحولات التقنية: إذ إن تطور الابتكارات التكنولوجي­ة بسرعة فائقة يضاعف من التأثيرات الاجتماعية والاقتصادي­ة لتلك التقنيات من ناحية، كما تزيد الهوة بين المؤهلين وغير المؤهلين من منظور الجاهزية الرقمية من ناحية أخرى، وهي التطورات التي لا تتسم بالسرعة فقط، ولكن بالثورية أيضاً في ظل ظهور تقنيات جديدة تغير الوضع الراهن تماماً، وتعمل على اندثار الأساليب القائمة، وهو ما يطلق عليه اسم ”التكنولوجي­ا المدمرة“‪Disruptive Technology(‬ ،) والتي سبق أن حددها معهد ماكنزي الدولي في 12 تقنية منها الإنترنت عبر الموبايل، وأتمتة العمل المعرفي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، وتوقع المعهد أن تقود هذه التقنيات التحولات الاقتصادية الضخمة في العالم)8.) 4- إتاحة مصادر المعرفة الرقمية: يتسبب تدني معدلات الجاهزية الرقمية في عدم تمكن الأفراد من الاستفادة من المكتبات الرقمية ومستودعات المعرفة وبنوك المعلومات، والمزايا النوعية لتصفح الكتب التفاعلية والتدريبات التفاعلية المباشرة وقاعات الدراسة الافتراضية وغيرها من الأدوات الرقمية التي تعمل بالمقابل على تأهيلهم وتنمية مهاراتهم، بما يعني أن الامتناع عنها لعدم إدراك أهميتها أو تدني الثقة في فاعليتها أو عدم امتلاك المهارات اللازمة لاستخدامها سوف يؤدي إلى الدخول في دائرة مفرغة من ”العزوف“و“الحرمان التكنولوجي“. 5- تعزيز معدلات الابتكار: إذ يعد الاهتمام بالتدريب والتأهيل المهاري التقني أحد المكونات الرئيسية لمفهوم الجاهزية الرقمية والذي يحمل تأثيرات مستقبلية في زيادة الكوادر المنتجة للتكنولوجي­ا، كما يشجع المشروعات على تبني الحلول الرقمية في ظل مجتمع أكثر قبولاً وقدرة على استخدامها. 6- تعزيز قيم الانفتاح والشفافية: بفضل إمكانات الوصول والدمج والترابط والتشبيك التي تتيحها تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بما يشكل في مجمله منظومة المجتمع الذكي، الذي تتكامل فيه مختلف التقنيات الحديثة والنظم المتقدمة ويتم استخدامها بشكل فعال بما يغير الحياة اليومية للمواطنين.

ثالثاً: م�ستويات �لجاهزية �لرقمية في �لدول �لعربية

على الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة بشأن أبعاد الجاهزية الرقمية في الدول العربية، فإنه يمكن رصد مجموعة من المؤشرات ذات الصلة بالجاهزية الرقمية في الدول العربية من خلال بعض المؤشرات العالمية، مثل مؤشر التنمية التكنولوجي­ة لعام 2016 الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات والذي شمل 175 دولة حول العالم)9.)

وقد تصدرت دول مجلس التعاون الخليجي قائمة الدول العربية في مؤشر التنمية التكنولوجي­ة لعام 2016، الصادر عن الاتحاد الدولي للإتصالات، وجاءت البحرين في المرتبة الأولى عربياً على هذا المؤشر، أعقبتها دولة الإمارات في المركز الثاني عربياً و38 عالمياً ثم المملكة العربية السعودية وقطر في الترتيب 45 و46 على التوالي وجاءت سوريا والسودان واليمن في مراتب متأخرة مما يعكس مدى تأثير الصراعات الداخلية على مستوى التنمية التكنولوجي­ة.

وتضمن مؤشر الجاهزية الشبكية ‪The Networked(‬ ‪Readiness Index‬ ) الصادر ضمن التقرير العالمي لتكنولوجيا المعلومات عام 2016، بعض المؤشرات ذات الصلة، ضمن مكونات المقياس الأساسية التي يندرج تحتها أكثر من 50 مكوناً فرعياً وتم تطبيقه على 139 دولة، منها 12 دولة عربية)10.)

وعلى الرغم من اشتمال المؤشر على محور كامل باسم الجاهزية، فإنه لا يتفق مع المفهوم السابق للجاهزية الرقمية كما سبق توضيحها، ولكن يمكن الكشف عن بعض المكونات ذات الصلة والتي تندرج تحت المهارات واستخدام الأفراد تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتؤكد مراجعة التقرير تصدر دول مجلس التعاون الخليجي للجاهزية الرقمية، من حيث تطور المهارات واستخدام الأفراد للتكنولوجي­ا، فقد تصدرت دولة الإمارات هذا التصنيف في المرتبة 26 عالمياً وتبعتها

دولة قطر في الترتيب 27 عالمياً ثم البحرين والمملكة العربية السعودية في الترتيب 28 و33 على التوالي، أما المغرب وتونس ولبنان ومصر والجزائر فجاءت في ترتيب متأخر نسبياً على المؤشر في المراتب من 78 إلى 117 عالمياً وهو ما يعكس وجود ضعف في الجاهزية الشبكية في هذه الدول. ويكشف تحليل الإحصاءات سالفة الذكر عن عدة ملاحظات يتمثل أهمها فيما يلي:

-1 تراجع جاهزية المهارات التكنولوجي­ة: فعلى الرغم من التفوق الإجمالي للدول الخليج العربي في المؤشرات الكلية للتنمية التكنولوجي­ة، فإن الدول العربية بشكل عام أظهرت تراجعاً، متبايناً في حدته، في المؤشرات الفرعية ذات الصلة بجوانب المهارات، حيث لم يتم تصنيف تسع دول عربية من الدول المائة الأولى ضمن 175 دولة شملها المؤشر الخاص بالمهارات، وعلى الرغم من عدم تكرار الأمر ذاته بحدة أقل في مؤشر الجاهزية الشبكية، نظراً لاختلاف مكونات مؤشر المهارات بين التقريرين، فإن ترتيب الدول العربية في مقاييس المهارات كان أقل بشكل عام من تقييمها الإجمالي. 2- احتياجات تطوير البنية التحتية: إذ إن بعض الدول العربية التي حققت مؤشرات تنمية تكنولوجية متدنية تنعم بمؤشرات أعلى نسبياً من حيث مهارات الأفراد التقنية والتي تعد مكوناً مهماً للجاهزية، ما يعني أن عدم تطوير البنى التكنولوجي­ة والتوسع في التطبيقات التقنية ودعم إمكانات الوصول للأفراد الذين يمتلكون مهارات التعامل مع التكنولوجي­ا والاستفادة من عوائدها لتحقيق التنمية هو بمنزلة فرصة ضائعة للتنمية. 3- الفجوة بين الجاهزية الرقمية للحكومات والأفراد: إذ تكشف مؤشرات تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات عن أن بعض الدول التي تتمتع بمستويات عالية من التطوير التقني والتحديث الرقمي للخدمات الحكومية وبيئة الأعمال، لا تحظى بمعدل التطور ذاته على صعيد مهارات الأفراد واستخدامهم التكنولوجي­ا، وهو ما يكشف عن خلل قد يؤثر على التأثيرات المستقبلية لتلك التحديثات في بيئة ”أقل جاهزية“، وهو ما تكرر في مؤشر الاستخدام بمؤشر الجاهزية الشبكية، بحدة أقل، إذ جاءت دولة قطر، على سبيل المثال، في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث الاستخدام الحكومي للتكنولوجي­ا، فيما جاءت في المرتبة 23 من حيث استخدام الأفراد.

ختاماً تواجه العديد من الدول العربية إشكاليات ترتبط بالتكيف مع التحولات التكنولوجي­ة السريعة التي باتت تفرض تحديات لتطوير البنية التحتية التكنولوجي­ة، وتطوير المهارات التكنولوجي­ة للأفراد وتعزيز قدراتهم على استخدام التكنولوجي­ا في الحياة اليومية وتعزيز مستويات الابتكار التكنولوجي لمواجهة الفجوة الآخذة في الاتساع مع الدول المتقدمة.

 ??  ??
 ?? تامر بدوي ?? باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي بجامعة وسط أوروبا- المجر
تامر بدوي باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي بجامعة وسط أوروبا- المجر

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates