Trending Events

Stop

ما هي أكبر مشكلة في منطقة الشرق الأوسط؟

- د.محمد عبدالسلام

كانت ورشة عمل عادية تهدف إلى الإعداد لجلسة خاصة في مؤتمر تقليدي حول "الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط"، إلى أن طرح سؤال شديد البساطة والتعقيد معاً كعنوان مقترح لتلك الجلسة: ما هي أكبر مشكلة في منطقة الشرق الأوسط؟، وانطلقت على الفور كل "المدافع الأكاديمية" من جانب فيلق يعتقد أن السؤال– بهذه الصورة– شعبوي أو غير علمي، فا توجد مؤشرات لما يمكناعتبار­ه"أكبر"،وما الذيتعنيهك­لمة "مشكلة"بالضبط،وما هو أصاً تعريفالإقل­يمحالياً،لكن السؤال كان جذاباً على ما هو عليه، لإخراج ما في النفوس على الأقل، فما هي أكبر مشكلة في الشرق الأوسط؟

ومن دون إغراق في محددات نظرية، كان على كل مشارك أن يختار مشكلة واحدة يعتبرها– وفق معاييره الخاصة– الأخطر، سواء كانت قضايا، أو تهديدات، أو حتى أشخاص، ووضح بسرعة أن أحداً لن يبتعد عن "مجال اهتمامه" إذا كان أكاديمياً أو "قائمة استهدافه" إذا كان سياسياً، وهو ما جعل "المشكلة الأكبر" تبدو وكأنها وجهة نظر أو تصفية حسابات. كما أن الاختافات بين التيارات والأجيال كانت واسعة بدرجة لا تتيح توافقاً حول ما كان يطلق عليه "نظام أمن إقليمي" نهائياً، والأهم أن الأمور وصلت أحياناً إلى حالات من اليأس أو السخرية، وفضل أحدهم القول: "نسأل عن مشكلة كبيرة، إنها في القاعة".

م �ستنقعاتالإ­قليم

هنا، يجب الصبر قلياً، من دون توقعات مسبقة أو انطباعات سريعة أو قفز إلى النهايات، فما جرى هو ما يحث عادة في معظم نقاشات حالة الإقليم، إذ سيطر في البداية تيار شديد التشاؤم، مفهوم ومتوقع، معظم ممثليه من الدول العربية التي تواجه انهيارات مزمنة، أو جماعات المنفى من إيرانيين وأتراك، يوضح إلى أين تصل التوجهات عندما "تتبدد الآمال"، فقد قيل: 1- إن المشكلة الأكبر هي الشرق الأوسط نفسه، كان دائماً هكذا، ولم يتم التمكن من إصاحه أبداً، فكل "حرب تلد أخرى" وكل تسوية تخلق مشاكل، وبالتالي "علينا أن نترك الشرق الأوسط!". وقد يبدو هذا التوجه غريباً لمن يعيشون في دول مستقرة، لكنه ليس كذلك على الإطاق، لاجئين يعبرون الحدود بعشرات الآلاف، أو أشخاص لا يريدون العودة إلى بلدانهم كلما خرجوا منها، وأحياناً قيادات وسيطة ب "مناطق مأزومة" تفكر في خيارات خارجية لمستقبلها الأسرى. 2- إن المشكلة هي "نحن"، سكان الشرق الأوسط، وليست الأطراف الأخرى، التي نقول إنها تتدخل في شؤونها أو تتآمر علينا، فحتى قبل ظهور القوى الكبرى "كنا نقتل أنفسنا". هناك شيء ‪Deep Rotted"‬ " خاطئ في هيكل أو ثقافة الإقليم، وعلينا أن نتخلص منه، أو سنقضي على أنفسنا. كانت العبارات تقال بشكل أكثر حدة من ذلك، لكن ذلك يكفي لتحليل – إضافة لفهم الميول الانعزالية والعشوائية – دوافع محاولات المراجعة والإصاح والتغيير من أعلى في بعض دول المنطقة.

ال �سوارع الخلفية

ولكي لا يتواصل السير في هذه المستنقعات، بدأ إصاح مسار النقاش، بتحديد أضيق لما يقصد بالمشكلة الأكبر، فليس عملياً أن تطرح سمات عميقة الجذور في بنية الإقليم، أو معضات ترتبط بمرفقات مثل Geo() هي بحكم التعريف لا تحل، أو حتى ظواهر كبرى متعددة الأبعاد تكاد تشبه الأعاصير، وإنما مشكات يمكن تعريفها وتحليلها، وربما صياغة سياسات قابلة للتطبيق بشأنها. وقاد ذلك إلى اتجاهين: 1- إن هناك مشكلات عامة، بعضها عائد وبعضها حديث، هي التي تسبب التصدعات الإقليمية، وستظل مصدر توتر ما لم تحل، كالقضية الفلسطينية، والسياسة الإيرانية، والسلوكيات القطرية، والتوجهات التركية، والسياسات المتصلبة وصراعات الموارد، وتوجهات ترامب. لكن شدد البعض على أن "مشكلة سوريا" هي مصدر التوتر الأول في المنطقة، وأنه إذا كانت ثمة حرب إقليمية يمكن أن تنفجر، أو صدام دولي يمكن أن يقع، أو انتشار إرهاب يمكن أن يتسع، فإنه سيكون على المسرح السوري أو بفعل تداعيات التطورات فيه. 2- إن هناك قضايا شديدة التحديد متصاعدة الأهمية، تمثل "المشكات الحقيقية" التي– حسبما يقال مع طرحها عادة– لا ينتبه جيل المحللين القدامى لها، ولا يوليها محللو الأمن ما تستحقه من اهتمام، كالمشكات الاقتصادية، والأجيال الجديدة، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، وعدم العدالة، وإصاح قطاع الأمن، والفساد والشفافية. ويثار ذلك عادة من جانب جيل من الناشطين، والعاملين في منظمات مختلفة، والذين لم يتوقفوا، بالطبع، عن إثارة "الكارثة" التي تتعرض لها الديمقراطي­ة عبر العالم.

الطرق الدائرية

وبعيداً عن الحالة المشار إليها، كانت هناك دائماً نقاشات حول كيفية تحديد التهديدات الأكثر خطورة في أي إقليم، وهي غالباً "المشكلة الأكبر" نظرياً، لكن حدث تقدم كبير، فعلى الرغم من أن مصطلح "أطر منهجية" يبدو ثقياً على الأسماع، ولا يمثل، بالطبع، "نظرية النظريات"، فإنه واحد من مفاتيح التفكير المنظم أو حسب تعبير متخصص مهم "النظمي"، الذي تتجاوز أهميته مجرد ضبط التحليات الأكاديمية– التي

تتعرض أصاً لضربات متتالية في العالم الجديد– إلى توجيه السياسات العملية.

في الفترة الحالية، مثاً، تتصاعد أهمية "موجهات تفكير"، كالعودة إلى تحليل سلوكيات الاعب الرئيسي، صانع المشاكل، وهو الدول، والانتباه لحالة عدم اليقين السائدة في ظل عدم القدرة على معرفة الحقائق أصاً، وانتشار الأخبار الكاذبة، والتفكير في أساليب لتقدير "الأزمات المعقدة"، التي يصعب معها تحديد اتجاهات الأحداث، والاهتمام بما هو قادم للمنطقة من أعاصير عاتية تتعلق بالمجتمع والتكنولوج­يا. وأن المشكلة الأكبر هي التي يمكن أن تسبب خسائر أكبر، أو يجب اختبار هذا التعريف.

في إطار ذلك وغيره، تبلورت اتجاهات رئيسية لنقاشات دارت خال الفترة الماضية حول مشكات كبيرة تشهدها المنطقة، وتؤثر أكثر من غيرها، على مسارات 2018، منها ما يلي: 1- الصراعات تتحول إلى "اجتماعية ممتدة"، فالتطور المعتاد للخافات في اتجاه أزمات ثم صراعات، لم يعد "أكبر مشكلة"، وإنما تحول الصراعات ذاتها من إطار السياسة إلى نطاق التاريخ، ومن المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، لتتخذ أبعاداً تجعل من الصعب حلها حتى لو تمت تسوية جوانب الخاف التي فجرتها، فالعودة إلى "الحالة العادية" أصبحت متعذرة، وهو ما جعل منطقة الشرق الأوسط تعاني عبر عقود عدم الاستقرار، فالصراعات تبدأ وتنفلت ولا تنتهي. 2- لم تعد هناك قواعد اشتباك محددة تحكم تفاعلات دول الإقليم، وأصبحت الدول الرئيسية ذاتها غير قادرة على تحديد خطوط حمراء يمثل تجاوزها مشكلة تتطلب منها الرد العنيف، كما لم تعد هناك قناعة أو إدراك من الأطراف المناوئة بعدم الاقتراب؛ مما يمثل مصلحة حيوية للدول الأخرى، وساد وضع شديد الحدة أدى إلى صدامات مباشرة بين قوى رئيسية، وضربات مفاجئة من دون مقدمات، وأعمال استفزاز لا يعرف أحد كيف ستمر، واحتمالات مستمرة لانزلاق إلى عمليات عسكرية واسعة. 3- إن "المشكلة الأكبر" تتعلق بحالة المجتمعات داخل الدول المستقرة والمنهارة، فهناك حالة قلق تستند على مؤشرات مؤكدة بشأن سلوك المجتمعات، التي سبق أن قامت بثورات في عدة دول، أو التي تعاني ضغوطاً اقتصادية حادة، أو التي "تفككت" من الداخل لتسيطر عليها حالة من فقدان القيم أو المعايير وأحياناً "العبثية"، وأدى ذلك إلى صعوبة شديدة في توقع سلوكيات الأفراد وفئات مختلفة، وأسئلة مقلقة من دون إجابة حول ما يفعله "الناس"، أو ما يمكن أن يفعلوه، وكفى. 4- إن التكنولوجي­ا تضرب دول الإقليم بأكبر وأسرع من قدرتها على استيعابها أو التحكم فيها أو التنبؤ بما قد تحمله مستقبلاً، فالتقدم التكنولوجي من المسلمات، ويمثل فرصة هائلة، لكن بعض قطاعاته أصبحت تثير احتمالات مقلقة، كالذكاء الصناعي والهجمات الإلكتروني­ة، إضافة إلى الظهور السريع لتأثيرات بعض الابتكارات الحديثة، أمنياً. وفيما عدا ثاث دول تقريباً في الإقليم، قد تتعرض دول كثيرة لضربات تكنولوجية حادة، مع آثار غير محسوبة طويلة المدى، ولا يمكن تجنبها أصاً. 5- إن الجانب المظلم لوسائل التواصل الاجتماعي يمثل مشكلة، يعتبرها البعض هي الأكبر، لأنها جديدة إلى حد ما، ويتسع نطاقها بسرعة، وتتوغل في كل منزل وقطاع، في ظل حالة انفات غير مسبوقة، وعدم انضباط يصعب فهمه، فقد أصبح لكل شخص لديه "حساب إلكتروني" وسيلة إعام شخصية تمثل "جناح فراشة" قد تقود إلى موجة توتر سياسي أو اجتماعي لاحقاً. وتدخلت الكتائب الإلكتروني­ة وشركات البيانات ومؤسسات نافذة، لتتاعب بالعقول والنفسيات والانتخابا­ت، فيما أصبح يعتبر شكاً جديداً من الحروب.

الإنقاذ ال�سريع

بالطبع، يمكن الاستمرار في رصد مشكات إضافية، ربما أكثر حدة، لكن ما سبق يكفي لتوضيح حالة المنطقة، إلا أنه وفقاً لتقديرات كثيرة، تتمثل المشكلة الكبرى، ببساطة شديدة، في أن سياسات الدول في المنطقة أصبحت شديدة التعقيد، سواء بحكم المحددات المحيطة بها، أو هياكل صنع القرارات داخلها، وبالتالي يحتاج الأمر إلى جهد حقيقي لفهم ما يجرى في واقع الأمر، فهناك سلوكيات لدول لا يمكن فهمها على أسس منضبطة بالفعل.

في ظل هذا الوضع، وطالما لم يحدث تحول كبير في نظم أو سياسات الأطراف المؤثرة إقليمياً، ستظل القضية هي القدرة على إدارة مشاكل وأزمات وصراعات متتالية، لوقت طويل، من دون أن تخرج التفاعات أو المواجهات عن نطاق السيطرة، إلى أن تتبلور الاتجاهات التي ستشكل مامح الشرق الأوسط.

الجديد هذه المرة، هي أن الشرق الأوسط لم يعد هو الإقليم الوحيد الذي يحمل لافتة "عدم الاستقرار" في العالم، فقد أصبحت "الأزمات" تضرب معظم أقاليم العالم، بما فيها الاتحاد الأوروبي، الذي يعتقد "جورج سوروس" الشهير أنه يواجه– مستخدماً مصطلحات أمنية– " تهديداً وجودياً وشيكاً"، في ظل أوضاع سيئة ترتبط بالاقتصادا­ت الناشئة )تركيا( وأزمة الاجئين وسياسات التقشف والخروج البريطاني وصعود الشعبويين ومعاناة اليورو، مع احتمال حدوث أزمة اقتصادية كبيرة.

ويظل الفارق بين إقليم وآخر– حتى لا يبدو ما أثير بشأن الشرق الأوسط خارج التاريخ– يتعلق بالطريقة التي ستتم إدارة مشكاته بها من جانب دوله، خاصة مع سياسات الإرباك المنظم التي يتبعها الرئيس ترامب، فبصورة ما تحاول دول شمال شرق آسيا "مساعدة نفسها"، بما فيها زعيم الدولة التي لم تتوقف عن إزعاج وابتزاز الجوار، كوريا الشمالية، الذى قام بتحويل سياساتها بزاوية 180 درجة، في الوقت الذي لا تبدو فيه أوروبا قادرة على الحفاظ على الاستقرار أو استعادة التوازن داخلها، على الرغم من كل التقاليد التي حكمت عقانيتها الراسخة منذ نهاية الحرب الباردة، أما بالنسبة للمنطقة التي نعيش فيها، فإنه يجب إعادة التذكير بالسؤال مرة أخرى: ما هي أكبر مشكلة في الشرق الأوسط؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates