Trending Events

لماذا يبدو فهم الثقافة الصينية صعباً؟

- يوتينج وانج

يعد من الصعب فهم الثقافة الصينية، نظراً لتعدد الثقافات واللغات المندرجة في إطارها، ارتباطاً بالحجم السكاني الهائل والبالغ 1.4 مليار نسمة، فضلاً عن لعب العديد من العوامل والمتغيرات دوراً في تشكيلها، مثل الإرث الاستعماري، والسياسات التنموية، وغيرها الكثير.

تعد الثقافة مصطلحاً شديد العمومية، فهو يشمل الجوانب المادية والملموسة، فضلاً عن الأبعاد غير المادية وغير الملموسة. ومن جهة ثانية، لا تعد الثقافة مفهوماً ثابتاً، إذ إنها عنصر متغير باستمرار، الأمر الذي يجعل أي نقاش يدور حولها يتسم بالجدل. وتنطوي محاولة الإلمام بالثقافة الصينية على تعقيدات كبيرة، إذ تشتهر الصين بتنوعها الداخلي الهائل، نظراً لكونها دولة مترامية الأطراف، تمتلك تاريخاً يعود لخمسة آلاف عام، ويعيش بها ما يزيد على 1.4 مليار شخص.

وساهمت الطبيعة الجغرافية المتباينة والتضاريس الوعرة في الصين في لعب دور في إنتاج هذا التنوع، بل وساهمت

في الحفاظ على تعددية اللغات، وتنوع العادات، واختلاف الطقوس الدينية. كما لعب التاريخ الإمبيريال­ي المعقد رافداً مهماً في تشكيل هذه الهوية، خاصة مع ما صاحبه الكفاح المرير ضد الاستعمار الأجنبي من محاولات لبناء هوية وطنية متماسكة.

ولذلك فإن محاولة الإلمام بالثقافة الصينية يعد أمراً يتسم بالصعوبة الشديدة، نظراً لتعدد العوامل التي لعبت دوراً في تشكيل هوية الشعب الصيني.

حاجزاللغة الرمزية"

طبقاً لنظرية "سابير – ورف" الشهيرة ‪،)Sapir-Whorf hypothesis(‬ المعروفة أيضاً باسم نظرية "النسبية اللغوية"، تعكس كل لغةٍ رؤية محددة للعالم، وهي رؤية خاصة بها، إذ إنه وفقاً لهذين العالمين، فإن اللغة تسبق الأفكار، وهو ما يعني أن بنية اللغة ومفرداتها اللغوية تؤثران على طريقة تفكير المتحدثين بها، وتشكلان كيفية رؤية متحدثيها للعالم من حولهم. لذا فإن تعلم لغة شعب ما يفتح الباب لفهم السلوكيات الاجتماعية والمعايير والمعتقدات والفنون والعادات وغيرها من الجوانب الأخرى التي تميز مجموعة من البشر عن غيرهم. وبالتالي فإن أكبر عقبة تحول دون الوصول لفهم عميق للثقافة الصينية هي ضعف الأدوات اللغوية.

وتتألف اللغة الصينية، خلافاً للعديد من اللغات، من نظام معقد من الرموز، بدلاً من الحروف الهجائية. وغالباً ما تمتزج العبارات المكونة من رمزين أو ثلاثة أو أربعة رموز بحكايات تاريخية غامضة وقصص أخلاقية. ويستغرق الأمر سنوات عديدة من الدراسة الجادة والمنتظمة لإتقان مثل هذه اللغة، حتى بالنسبة لمتحدث اللغة الأصلي.

ومن دون كسر حاجز اللغة، فلن تكون معرفة الفرد عن الصين وثقافتها سوى معرفة سطحية في أحسن الأحوال، وهي إشكالية، لاسيما أن مصدر المعلومات الوحيد عن الصين هو وسائل الإعلام التي تميل إلى تقديم صورة مبسّطة، وأحياناً خاطئة، عن الثقافة الصينية.

وبعد قول ما تقدم، يلاحظ أيضاً أن المهارات اللغوية الفائقة لا تعكس بالضرورة معرفة عميقة بثقافة أخرى، ما لم يتخذ الشخص خطوة جريئة

ليغرق في الثقافة الأخرى لفترة طويلة من الزمن.

ويمكن القول إن شجاعة العيش وسط شعب آخر هي أفضل طريقة لاكتساب معرفة وثيقة بثقافته، ولا توجد طريقة لفهم التفاصيل الدقيقة لأي ثقافة، إلا بالانغماس في عاميتها. ومع ذلك، قليلون من يملكون الشجاعة للخروج من بيئتهم التي اعتادوها ليستغرقوا في تجربة أخرى.

غمو�س الثقافة ال�شينية

تعد أحد العوامل التي تزيد من تعقيد مهمة فهم الثقافة الصينية حقيقة أن عبارة "الثقافة الصينية" نفسها هي عبارة غامضة، إذ لا توجد إجابات واضحة وسهلة لأسئلة مثل "ما هي الصين؟" و"من هم الصينيون؟"، فلقد تغيرت حدود الدولة إلى حد كبير على مدار آلاف السنين، حيث توسعت وتقلصت نتيجة لتغيير الحكام.

وأدت دائرة من الاحتلال والمقاومة والاندماج والتطبع الثقافي إلى خلق شعب متنوع وغير متجانس. وتم توحيد الشعب الصيني، وإن بصورة ليست كاملة، تحت لواء الكونفوشيو­سية، حتى انهارت أسرة تشينغ الحاكمة )1644 - 1912( في أوائل القرن العشرين.

وهكذا كان تاريخ الصين الحديث عبارة عن رحلة بحث عن هوية كوسيلة لتحقيق الوحدة. ومثلت الأراضي الحدودية الصينية أكبر التحديات على الإطلاق بما تضمه من أقليات عرقية متنوعة ومتعددة. ولا تزال هذه التوترات المستمرة منذ قرون، وقائمة بوضوح حتى اليوم، فلا توجد ثقافة صينية واحدة، بل ثقافات صينية متعددة. ولا تعد إقامة جمهورية الصين الشعبية نهاية الكفاح من أجل الوصول لهوية متماسكة، فلا تزال الجهود مستمرة حتى الآن، وكذلك الصراعات والخلافات.

ولذا يجب فهم الثقافة الصينية باعتبارها كائناً مستمراً في النمو والتطور. ولا يوجد طريق مختصر لفهمه سوى بالغوص في تاريخ الصين القديم الغني، ثم العودة بمعرفة وثيقة بأمجادها ومعاناتها وهزائمها وإنجازاتها

وتطلعاتها وطموحاتها.

ا �شتيعاب الثقافات الأجنبية

لا يجب إغفال أنه على الرغم من التضاريس الوعرة التي ساهمت في تشكيل الحضارة الصينية، فإن بكين لم تكن بمعزل قط عن بقية العالم، إذ إنها أقامت علاقات مع عدد لا يحصى من القوى الخارجية على مدار تاريخها، من الهون والرومان والفرس إلى البريطانيي­ن والسوفييت والأمريكيي­ن، وتركت هذه العلاقات جميعها آثاراً عميقة في تركيبة الثقافة الصينية وطبيعتها. وترجع صعوبة فهم الثقافة الصينية جزئياً إلى صعوبة تشريح هذا الكائن الحي الذي يهضم باستمرار كل ما هو أجنبي ودخيل ثم يحوله إلى جزء منه. وما البوذية إلا واحدة من الأمثلة على ذلك.

وأثار مد العولمة وانحسارها الكثير من مشاعر الإثارة والقلق. ولقد تخلت الصين منذ عام 1978 عن نموذج الاقتصاد الاشتراكي المخطط لصالح اقتصاد السوق الحرة، مما جعلها مثالاً واضحاً على رأسمالية الدولة، أو الاشتراكية ذات الطابع الصيني. وبعد انضمام بكين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001، دخلت عقداً ذهبياً من التنمية شهدت فيه معدلات النمو طفرة هائلة، وأصبح اقتصادها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وبحلول عام 2012، تحولت الصين من مجتمع ريفي في أغلبه إلى مجتمع حضري، مما يشير إلى احتمال وقوع تغييرات وشيكة في الاتجاهات الديموغراف­ية، وأخيراً في السياسات الاجتماعية، وبما يرتبه ذلك من تأثيرات على الثقافة الصينية.

الجيتو ال�شيني

لن يكتمل النقاش حول الثقافة الصينية من دون النظر إلى تجارب المهاجرين الصينيين حول العالم. وتشير التقديرات إلى أن هناك ما يزيد على 50 مليون مواطن من أصل صيني يعيشون خارج الصين، في تايوان وهونج كونج وماكاو على سبيل المثال، ويتركز أغلبهم في جنوب شرق آسيا، بينما يتفرق الباقون في جميع أنحاء أوروبا والأمريكيت­ين

وأوقيانوسي­ا وغيرها من المناطق.

وتعرض المهاجرون الصينيون لأنواع مختلفة من التمييز والعنصرية في سياقات مختلفة، ولطالما أُطلقت عليهم ألقاب ساخرة مثل "الخطر الأصفر"، على سبيل المثال لا الحصر، الأمر الذى دفعهم للتكتل داخل الأحياء الصينية العرقية، التي تعزز فيها الصورة الثابتة للثقافة الصينية، غير أنه في الوقت ذاته لا يمثل الثقافة الصينية تمثيلاً صحيحاً، كما يقدم تبسيطاً مخلاً لها.

ولكن المحاولات المضنية من أجل الحصول على المساواة وكسب الاحترام في المهجر، لاسيما من جانب الأجيال الشابة الأكثر اندماجاً في المجتمعات الجديدة، يساعد الآن في تصحيح بعض الأساطير والقوالب النمطية التي كانت سائدة عن الثقافة الصينية.

وستصبح الأجيال الصينية الأصغر هي حتماً الوجوه الجديدة الممثلة للثقافة الصينية أينما كانوا. ويواجه هؤلاء بعضاً من أكبر التحديات التي لم يشهدها المجتمع البشري من قبل، فلقد نشأوا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وشبكات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي. وفي الوقت الذي قد تزداد فيه قوة الدولة، يزداد كذلك الاستقلال الفردي.

وستساعد رقمنة السجلات التاريخية والتحف الفنية ومشروعات الحفاظ على الثقافة مساعدة كبيرة في حماية الثقافة الصينية وتنوعها. وبمقدور التكنولوجي­ا نفسها أيضاً أن تخلق ثقافة شعبية عالمية بمحتوى بسيط.

وفي نهاية المطاف، سيتشكل جوهر الثقافة الصينية لهذا الجيل الجديد من خلال المحادثات بينهم وبين أسلافهم، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه الحكومة الصينية في بلورة الهوية الثقافية الصينية، ودور العولمة، وهو ما يضفي صعوبة أكبر في فهم الثقافة الصينية. وستستمر الثقافة الصينية في التطور، والحفاظ على حيويتها وأهميتها، شأنها في ذلك شأن التحوّل أو التغير من ظاهرة إلى أخرى في العالم المادي.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates