Al-Quds Al-Arabi

زنوج وبدو وفلاحون: حروب أهلية عالمية

-

يقــدم الروائي الأردني الراحل غالب هلســا في قصتــه الطويلة «زنوج وبدو وفلاحون» تشــريحا عرضيّــا للمجتمع الأردني في بدايات نشــوء الدولة الحديثة، حيث يفيض العنف الهائل بــن المكوّنات التي ينظمها هذا الاجتماع البشريّ، وهو عنف مادي يتجلّى في قسوة هائلة ترتكز إلى عنف رمزي هوياتي وجندري، بدءا من الضابــط البريطاني ذي اللكنة الغريبة، الذي يعبّر عن ضجره واحتقاره لهؤلاء «البدائيين الذين هم على اســتعداد للقتل لأدنى ســبب»، إلى شــيخ القبيلة الذي يرفس إحدى زوجاته بعد أن يمارس الجنس معها، مرورا ببدو يحتقرون «الفلاليح» (الفلاحين(، وزنوج يساطون لأي نأمة، ونساء يعاقبن على سماع «حسّ» لهنّ أو من دون سبب، وتنالهم الضرب أو الشتيمة من كل الرجال السابقين، وينال الأطفال حصتهم من الضرب لمجرد وجودهم بين النساء.

يُســتفزّ ســحلول، البدوي في قصة «زنوج وبدو وفلاحون»، من الفلاح ذي الجدائل فيعيّره بتشبهه بالبدو وهو فلاح «بلا أصل»، وحين تعلو نبرة المجادلة بينهما يقوم بقتله، وحين يُخبره أحدهم، بعد فترة أن شقيق القتيل لديه «حرمة تقول شــمعة» متسائلا: «وين عيال البدو اللي يخلوا فلاح ماله أصل يتحلّلها»، فيرد بأنه ســيقوم بـ«لف امرأة الفلاح بحضنه» وأنه «غير أتحلّلها قدام عينه وغير أخلّي فليليحكم يركب لنا إبريق شاي».

تصل الرواية القصيرة إلى ذروة حين يدخل البدوي خيمة الفلاح فيطرده ويرفس زوجته، طالبا منها تســخين المياه ليســتحم في تمهيد لاغتصابها، وإذلال الفــاح. ينتهي الأمر بزيدان الفلاح بقتل البدوي ســحلول والهرب، وبهجــوم عبيد زنوج على شــيخ القبيلة وقتله، قبــل أن يقتلوا، وتلخّص إحدى شــخصيات القصة الأمر بالقول: «العبد ذبح الشــيخ، والفلاح ذبح سحلول. عمرها ما انسمعت. ما ظل غير النسوان».

حكام عرب أمريكيون ومواطنون سود فلسطينيون!

يحمل الذكر البدويّ في كتاب هلســا تصورا اجتماعيــا للهويّة، تعطيه أفضليّة وعلوّا وارتقاء وجوديّا على المختلفين عنه: الفلاح والزنجي والمرأة، وهذا الإحســاس بالتفوّق «الطبيعــي» لفئة أو مرتبة أو طبقــة أو عرق أو جنس موجود في كافة المجتمعات الإنســانيّة، وهو يكتســب أحيانا أشكالا معقّــدة تجمع بين التراتبيات السياســية والاجتماعي­ة والتاريخية، كما هو حال الذكر الأبيــض العنصري في الولايات المتحــدة الأمريكية، في رؤيته لتراتبيته ضمن مجاله السياسي والاجتماعي الداخلي، مصحوبا بإحساس بلاده ودولته بالتفوق الخارجي، وهو حال نظيره العنصري الإســرائي­لي، الذي ينظر باحتقار ليس إلى الفلســطين­يين وحســب، بل للعرب ولأعراق أخرى، لكن المفارقة تحصل في ما يسمّى بـ«التماهي بالمتسلّط»، حيث يقلب حكام دول أدنى ضمن هذه التراتبيات، اســتعلاء الأمريكي أو الإســرائي­لي عليهم، ليستخدموها ضد مواطنيهم، فيصبح المهيمن العربيّ أبيض ويصبح مواطنوه سودا، أو يصبح إسرائيليا ومواطنوه فلسطينيين.

انفتحت هذه القضايا بقوّة مؤخرا، مــع تداعيات مقتل جورج فلويد في أمريكا، الــذي أطلق موجات احتجاج داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفي بلدان أوروبية كثيرة، وهو أمر لــم يترك أثرا كبيرا في الحالة العربيّة، التي اختلطت أحاســيس التعاطف مع الأمريكيين السود فيها، مع قضايا شعوبها الشائكة مع الاســتبدا­د، وكان هناك حدث في المشرق العربيّ أثار جدلا تمثل بانفتاح نقــاش ينتقد دور الأرياف في الثورة الســورية، ويتهمها بنشــر العسكرة والأسلمة فيها.

كوارث الطغاة الريفيين

فتحت الإعلامية الســورية ميســاء آقبيق هــذا الملفّ حــن كتبت على صفحتها على فيســبوك «إن تبعات ثــورة 2011، فتحت المجال لأبناء بعض مــن القرى، لم يعيشــوا أدنى معاييــر المدنية کي يحتلوا مــراکز مهمة في جميع مؤسســات الثورة العســكرية والمدنية». كما قام السياسيّ السوري المعارض سمير النشار بتقديم مقاربة مشابهة متوصلا إلى أن «ثورة الحرية والكرامة في ســوريا فشلت عندما تريفت وتأســلمت من قبل قادة الفصائل الريفية»، ومستنتجا «كل الانقلابات العســكرية بدءا من انقلاب مصر عام 1952 وانقلاب 14 تموز/يوليو عام 1958 في العراق، وانقلاب 8 آذار/مارس 1963 في سوريا وانقلاب ليبيا والسودان لاحقا هي في مضمونها الاجتماعي انقلاب الريف ضــد المدن، وكلها أسســت لحكم الاســتبدا­د المديد وحكمت بذهنية ريفية أقصت النخب المدينية عن المجتمع والدولة.»

قدّم الكاتب الفلسطيني ـ السوري أحمد نسيم برقاوي قراءة أكثر تماسكا لهــذا الموضوع، أكد فيهــا أن «لا قيمة علمية لانطلاق دراســة الاختلاف بين الريف والمدينة، من مبدأ الأحسن والأسوأ»، وأشار برقاوي إلى وجود أحكام ســلبية لدى كل طرف بالآخر، وبعد هذه المقدّمة الاســتدرا­كيّة المهمّة، أجرى برقاوي مقارنة بين حكم العســكر المدنيين والعســكر الريفيين، مشيرا إلى أن ثقافة الســلطة الريفية «قائمة على عصبية العائلة والمنطقة والطائفة،» وخلص إلــى أن «ترييف المدينة كارثــة هائلة، لأن ذلــك يعني تحطيم قيم العمل والعقلانية والفن والموســيق­ى»، وأن «تراجع دور المدينة في أن تكون مصدر القيم الثقافية المدينية، والقيم السياســية المؤسساتية كارثة من أكبر الكوارث التي ارتكبها الطغاة الريفيّون.»

هنــاك اتجاه فكريّ عالمي ســائد للنظر إلى التاريخ البشــري، باعتباره ارتقاء وتصاعدا خطّيا تفاضلياً مستمرّا، وإلى النظر إليه كسلسلة حضارية انتقلت فيها البشريّة من حقبة الصيد والرعي والأرواحية إلى الزراعة والمدن والأديــان التوحيدية، وصولا إلــى الصناعة وأيديولوجي­اتها الإنســاني­ة والقوميّة والشــيوعي­ة، وانتهاء بالعصر الرقميّ المعقّد الذي نعيشــه حاليّا والذي يبشّر بانتقالة هائلة مخيفة.

فاتحون متفوّقون /غزاة متوحشون؟

انتقــد كثير من المفكّرين مناطق «تفوق» بعض الأيديولوج­يات، فكشــف جون غراي الأصول الدينيــة للحداثة الغربية، وفــكك يوفال نوح هراري حدود وأوهام «الأيديولوج­يا الإنســاني­ة» نفسها، وانتقد كارل بوبر أقدس أفكار الحداثــة وهي «الأيديولوج­يــا العلميّة». يختــرق المنطق التفاضلي كل الفكر الإنســاني، وهو موجــود في كل الأديــان والأيديولو­جيات، وإذا كان يمكــن التفرقة، كما فعل برقــاوي، بين التنميطــا­ت العنصريّة للفئات الاجتماعيـ­ـة ضد بعضها بعضا، فإن الإشــكالي­ة الكبــرى تكمن في تمويهها في أطروحات فلســفية وفكرية وسياســية. بينما أشــبعت الأديان انتقادا وتفكيكا، وحصل هجوم كاسح على النازيّة والفاشية والشيوعية، فما زالت أطروحــات التفوق والارتقاء «الطبيعي»، تتمظهر بأشــكال عديدة، بعضها بسيط وواضح وبعضها معقد، يقوم بقلب الفضيلة رذيلة والعكس.

يفيد، في مجــال المقارنات التي تحط مــن البدو )أو تُعلي من شــأنهم( اســتذكار نظرية المؤرخ الماركســي التركي حكمت قفلجملي عن دور القبائل البدويــة الغازية في تغيير التاريخ، وهو دور قامــت النظرية «التفاضلية» باســتخدام­ه مرّة إيجابا )على الطريقة الخلدونية( ومرّة ســلبا )باعتبار العرب المسلمين غزاة متوحشــن إلخ(. لقد قامت الشعوب والقبائل الغازية بإنهــاء حضارات وبــدء حضارات جديــدة ومهّدت لمجمــل التغييرات في التاريخ.

يُفترض فــي الطرح المناصر لقيــم المدنية المتفوقة ضــد تخلّف الريفيين وطغيانهــم )أو البــدو والزنوج( أنه مناصــر لقيم التعــدد والديمقراط­ية الاجتماعيـ­ـة والاقتصادي­ة، وهي قيم تحتوي الآخر وتســتوعبه ولا تعتبر ثقافته أدنــى، أما المنطــق «التفاضلي» (علــى طريقة المجتمــع المتجانس الأسدية(، فهو منطق معارض لقيم المدنية والحضارة المذكورة.

لعل أهــم ما غاب، في المقابلــة بين «همجية طغاة الأرياف»، و«سياســة وحضارة أهل المدن»، أن الطغيان ظاهرة سياســيّة لا ثقافيّة وحســب، وأن المــدن ـ الدول يمكن أن ترتقي من الاســتبدا­د إلــى الديمقراطي­ة وبالعكس، وحين يكون البدو والأقليات )أو الأغلبيات( في الهامش فانقضاضهم الكاسر على الســلطة ورموزها هو أحد عوامل التغيير التاريخي والسياسي، سلبا أو إيجابا.

أصاب أحــد الكتاب باعتبار حركة «حياة الســود مهمة» في أمريكا طورا مســتجدا من الحرب الأهليّة الأمريكية، فنيران الحــروب الأهليّة لا تنتهي، وهي تخرج كل فترة للتعبير عن نفســها ضمن ليس ثنائيات تبسيطية بين الســود والبيض، المدينة والريــف، والمركز والهوامش وحســب، بل كذلك بخطابات تدافع عن أطراف هذه الصراعــات، أحيانا بطريقة فجّة متهافتة، وأحيانا بطريقة متماسكة ومقنعة. ٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

 ??  ?? حسام الدين محمد٭
حسام الدين محمد٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom