Al-Quds Al-Arabi

أمريكا وثورة 1919... سراب وعد بلفور

- ٭ روائي من مصر

عرضت هنا من قبل أكثر من كتاب عــن ثورة 1919 وعن مصر في الحقبة الليبرالية، كان آخرها كتاب «ســعديون أم عدليون» لعمرو ســميح طلعت، وقبله كتاب «مصطفى النحــاس.. مذكرات النفي»، الــذي قام بتحقيقه والتقديم له عماد أبو غازي. ســتظل ثورة 1919 ملهمة لأعمــال جديدة كثيرة، فقــد انتهى في مصــر الزمن الذي تم فيه تشــويهها ونزع صفة الثــورة عنها. هنا كتاب شــديد الأهمية كتبه محمد أبو الغــار، العالم الجليل في الطب النســائي، والمثقف محب الآداب والفنون وصاحب كتاب «يهــود مصر من الازدهار إلى الشتات»، وكتاب «على هامش الرحلة» وغيرها من المؤلفات الطبية، والذي يذكرك بجيل الليبرالية المصرية، يمتد نشاطه إلى كل مناحي الفكر في محاولة لبناء الوطن والبشــر. هنا موضوع لم تتم الكتابة عنه بشــكل واســع، فالحديث عن أمريكا وثــورة 1919 لم يزد عن إشــارات بين مذكرات القادة، وكتب المؤرخين للثورة. اكتشــاف أبو الغار المذهل هو لآلاف من الوثائق فــي مكتبة الكونغرس الأمريكي، قــام بقراءتها واعتمــد عليها، وترجــم الكثير منهــا، فنعرف كيف حاول قادة الثورة الاتصال بالرئاســة الأمريكيــ­ة، وكيف صار لهم مندوب بالأجر، ســنتحدث عنه لشــرح الوضع المصري، وما انتهى إليه الحال. قام بالتقديم للكتاب أحمد زكريا الشــلق المتخصص في التاريــخ الحديث، وصاحب المؤلفات المهمة فيه، أشــار بوضوح إلى جدية الموضوع، الذي لم يلق العناية الواجبة من المؤرخين على كثرة ما كتب عــن ثورة 1919، وعن العلاقات المصريــة الأمريكية، ويثمن المعلومات التاريخيــ­ة الموثقة، التي توصل إليها أبــو الغار، تثمينا عظيما والأمر كذلك فعلا. ثم مقدمة المؤلف نفسه وكيف كان اهتمامه بثورة 1919 ناتجا من اهتمامه بثورة يناير/كانون الثاني، وشــكره لكل من ساعده في الوصول إلى الوثائق.

الكتاب من عشــرة فصول، لن أقف عندها بالترتيب والتفاصيل، وما يهمني كيف كان الأمل كبيرا لدى قادة الثورة والشــعب المصري في مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ويلســون، التي أعلنها في يناير 1918، لتكــون بداية لعالم جديد بعد الحــرب العالمية الأولى، وحق تقريرالمصي­ر للشــعوب، قبل مؤتمر فرساي في باريس، الذي عقدته الدول المنتصــرة. كانت هذه المبادئ أحد الدوافع الكبيرة للأمل لمصر وغيرها، حتــى أن المصريين في مظاهراتهم، أثناء ثورة 1919، رفعوا العلم الأمريكي.

الرحلة مع هــذا الأمل صفحات كثيرة وتفاصيــل عن كيف تبخر الحلم، وتراجع ويلسون، في ما يخص المسألة المصرية، تحت ضغط بريطانيا في مؤتمر فرساي، والصراع بينه وبين منافسيه في أمريكا نفســها، وكيف تم توزيع مســتعمرات ألمانيا على الدول المنتصرة، إنكلترا وفرنســا، وكيف تقرر إنشــاء عصبة الأمم، لبدء عالم جديد من الســام، هذا ما يحدث فــي العالم. ومتابعــة للوفد المصري في فرنسا في مؤتمر فرساي ومحاولة المصريين استقطاب الرأي العالم الفرنســي، وعدم ســماح بريطانيا لعدد من الوفد بالســفر لأمريكا لعرض القضية علــى الكونغرس، وخطابات ســعد زغلول الكثيرة لويلســون، التي لــم يرد عليهــا، وإن جاء الرد لســعد زغلول أنها وصلته. بعد بحث عمن يســافر إلى أمريكا ومن سافر، ومتى وكيف انتهى الأمــر بتوكيل المحامي الأمريكي جوزيــف فولك. كان الاتفاق بينه وبين محمد محمود باشا على تقاضي ألف جنيه مصري )5000) دولار شــهريا، وقد علم الوفد في ما بعد عــام 1926 أن محمد محمود باشا، كان قد تعهد بدفع مبلغ مئة ألف جنيه للمحامي فولك في حالة حصــول مصر على الاســتقلا­ل. صفحات رائعة مــن دفاع فولك عن القضية المصرية في مجلس الشــيوخ الأمريكي، ونص محضر لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشــيوخ، وهنا يظهر حديث فولك، وبالمناســ­بة كان الحاكم الســابق لولاية ميزوري، ومــن هنا أهمية واحتــرام حديثه. يتحدث عن اللجنة المصريــة التي هي في باريس في ما هو أشبه بالسجن ـ يقصد الوفد المصري لمؤتمر فرساي ـ وعن سعد زغلول، وتعنت إنكلترا في سفر عدد منهم لأمريكا، ويجيب عن أســئلة كثيرة عن الجمعية التشــريعي­ة المصرية، التي كان يرأسها ســعد زغلول، وكيف يريد الشعب المصري من عصبة الأمم الجديدة، أن تحمي اســتقلاله، وعن تاريخ مصر المعاصر مــع إنكلترا، وتصل معرفته حتى بعدد الســكان، وكيف لم يحدث الاحتلال تطورا فيهم، وكيف أن موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي على الحماية البريطانية ســيكون خطأ كبيرا، فمصر تريد الاســتقلا­ل، وعلى أمريكا تأييدها، وتفاصيل عن شكل الحكم في مصر، الذي تديره بريطانيا، وتخلع من تشاء من الحكام، وتضع من تشاء وضرورة التحفظات على الحماية البريطانية، ومتابعة مدهشــة جديدة لأبو الغار، لذلك كله من خلال ما عثر عليــه من وثائق، وترى كما يقول أبو الغار متعة الديمقراطي­ة في أمريكا من فضلك.

جانب آخر هــو التغطية الصحافية الأمريكيــ­ة لأزمة مصر، التي كانت من ناحية غير رسمية مؤيدة لمصر، بينما كان القنصل الأمريكي العام في مصر مع إنكلترا وتوجهاتها، ويقدم المؤلف نماذج كثيرة من الاثنين. تأتي المفاجأة التي نعرفها مثل كل ما قبلها لأول مرة، أنه بعد وفــاة جوزيف فولك عام 1923، وكانت مصر قد حصلت على تصريح 28 فبراير/شــباط الشــهير، الذي أقر بالاســتقل­ال رغــم تحفظاته الأربعة، فإذا بأرملته تصل إلى مصر عام 1926 وهي السيدة غيرترود فولــك، لتتقاضي بقية أتعاب زوجها من حزب الوفد وبعض زعمائه. كان هدفهــا أن تحصل على مئة ألف جنيه مصــري، وعده بها محمد محمود باشــا، إذا حصلت مصر على اســتقلاله­ا، فضلا عن عشرين ألف جنيه بقية مســتحقاته، لدى محمد محمود باشــا، الذي كان قد تعهد بدفع 5000 دولار شــهريا، ومعها إيصالات بما تقاضاه زوجها، وما لــم يتقاضاه. رفعت الزوجــة القضية أمام المحكمــة الابتدائية المختلطة، وكان دفاع محاميها أن لا أحد يستطيع أن يقول إن مصر لم تحصل على استقلالها كاملا، ومن ثم يرجو الدفع لأرملة فولك بدون تأخير. كان اسم المحامي مورزينباخ، وعلى الناحية الأخرى واصف باشا ومحام اســمه جربوعة، يمثلان حزب الوفد المصري، وينتهي الأمر بحكم المحكمة الابتدائية المختلطــة برفض الدعوى المقامة على ســعد زغلول، ومحمد محمود باشــا، لكنها حكمت على سعد زغلول باعتباره رئيسا لحزب الوفد بدفع مبلغ 55000 دولار، أي ما يساوي 11000 جنيه، ذلــك الوقت ومصاريف التقاضي. تســتأنف الزوجة الحكم في محكمة الاستئناف المختلطة في الإسكندرية، ويصدر الحكم بتأييد الحكم السابق لا أكثر. يأتي الفصل العاشر والأخير عن تطور العلاقات المصرية الأمريكية بعد ثورة 1919، التي تجلت في جانبين، الأول هو رفض مصر للمحاكم المختلطة، وكيف اســتطاعت أمريكا أن تتفق مع مصر على طريقة لحل التفاهم والمنازعات، بعيدا عن وجود بريطانيــا، كما اتفقا على التبادل الدبلوماسـ­ـي، واتفاق حول الآثار المكتشــفة في مصر من البعثات الأمريكية، مــا أغضب إنكلترا. كانت اتفاقية الآثار من قبل تســمح للمكتشفين بالحصول على خمسين في المئــة، لكن الحكومــة المصرية غيرت ذلك، وجعلــت ما تحصل عليه الــدول صاحبة البعثة يكون مما يبقى بعــد اكتفاء مصر بما تحتاج. كان هذا التفاهم بين مصر وأمريكا قد تم بذكاء من الحكومة المصرية، وأدى إلى تحسن وضع مصر الدولي، وبداية الانسلاخ التدريجي من القبضة الإنكليزية، وســاعد على ذلك التنافس بين أمريكا وإنكلترا على النفوذ فــي المنطقة، فبدأ صعود النفــوذ الأمريكي، وانخفاض النفوذ البريطاني.

في النهاية ومما جــرى يرد أبو الغار الأمر كلــه إلى ثورة 1919، وكفاح المصريــن وهذا حقيقي. فلا أحد يعطيــك إكراما لكن ما تصرّ عليــه. روعة الكتــاب هي في البحــث والتحليل طبعــا، وأيضا في اكتشــاف هذا الكنز من الوثائق الذي جعلنــا نعرف موضوعا غائبا عن كل ما كتب عن ثورة 1919 أعظم ثورات المصريين.

 ??  ?? إبراهيم عبد المجيد٭
إبراهيم عبد المجيد٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom