Al-Quds Al-Arabi

مجزرة سريبرينتسا: دروس للضحايا أم للمجرمين؟

-

■ خلال ذكرى المجزرة الشــهيرة في مدينة سريبرينتسا التي يســتعيد البوســنيو­ن أحداثها هذا الأســبوع، تســتعد إحــدى العائــات المنكوبة للقيــام بدفن ابنها البكر ســالكو، الذي كان ســيبلغ من العمر 48 عاماً، بعد اكتشــاف بقايا من عظامــه مؤخرا، بعد 25 عامــا من مقتله خــال عملية الإبادة الجماعيــة التي حصلت في تلك البلــدة المنكوبة في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

صــار جزءا مــن التاريــخ الأوروبــي والعالمــي المعلوم أن وحــدات من الجيــش الصربي تحت قيــادة الجنــرال راتكو ملاديتــش دخلت البلدة فــي 11 تموز/يوليو مــن عام 1995، بتواطــؤ من قــوات الأمم المتحدة التــي أعلنتهــا منطقة آمنة، حيــث بدأت القوات الصربية إبــادة جماعية منهجية لثمانية آلاف و372 مــن الرجــال والأطفال المســلمين الذين تراوحت أعمارهم بين 7 و70 عاما، مســجلة ذروة مأساوية كبرى في تلك الحرب التي تسببت في مقتل أكثر من 300 ألف شخص.

خــال اجتمــاع الجمعيــة العامــة للبرلمــان الأوروبــي، بمناســبة الذكرى 25 للواقعة قال مفوض الاتحاد الأوروبي

لشؤون التوســع إن المذبحة تشــكل «جرحا نازفا لأوروبا»، وإنه «ينبغي معاقبة كافة المســؤولي­ن عنها»، وإنها «من أكثر الفتــرات ظلمة في تاريخ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية»، مؤكدا أنه لا يمكن تحقيق المصالحة من دون مواجهة الماضي، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الجنرال المسؤول عن المجزرة موجود حاليّا في ســجن فــي مدينة لاهــاي الهولندية، فهــل يمكننا اعتبــار أن العالــم، أو أوروبا التــي جرت فيهــا المذبحة على الأقل، قد تعمل شــيئا يمنع من تكرار هذه المذبحة، وهل يمكن أن يكــون الأمر هو تدبيج بخطابات مؤثرة تفيد في تحســن صورة أوروبا عن نفسها، وتؤكد للأوروبيين أنهم مختلفون عن بقيّة العالم الذي ما زال يشهد هذا النوع من المجازر؟

هنــاك إشــارتان صادرتــان مــن أوروبا نفســها تؤكدان أن العــار الذي تحمّلــت أوروبا مســؤوليته بالتواطؤ مع تلك المذبحة لم يؤد فعليّا إلى إلغاء فكرة هندسة الإبادة الجماعية التــي ما تــزال جزءا مــن الفكر المؤســس لأوروبــا، وأن هذا الحدث ما زال مستمرّا، وربّما يتكرّر.

الإشــارة الأولى يعبّر عنها موقف الصــرب الذين يرفض قرابــة 90 فــي المئــة منهــم اعتبــار مــا حصل جريمــة كبرى ارتكبت، بل إن المدينة المنكوبة نفســها والتي يرأس مجلسها البلدي صربــي يعاونه رئيس نائب بوســني لا يتخالط فيها البوســنيو­ن المســلمون والصــرب، بــل إن رئيس مجلســها انتخــب لمنصبه هذا عــام 2016 إثر حملة ارتكــزت على إنكار المجــزرة، وهــو يعتبــر أن «حصيلــة الضحايا غيــر صالحة لإثبات حصول مجــزرة»، كما أن الزعيم السياســي لصرب البوســنة قال خلال دعمه لترشــيح الأخير إن «مــا من إبادة ارتكبت .»

أمــا الإشــارة الثانيــة، فصــدرت مــن صلــب المؤسســة الثقافيــة الأوروبية الأعلى ســلطة، وهي جائــزة نوبل التي أعطت الســنة الماضية جائزتها للآداب للروائي النمســاوي من أصل ســافي بيتــر هاندكه، وهو أديب شــكك بحصول المذبحة وأعلن صراحــة تأييده للزعيم الصربي ســلوبودان ميلوسيفيتش.

إضافــة إلــى كونه يشــكّل جرحــا نازفا هائــا للضحايا وأهاليهم، كما للضحايا الآخرين كآلاف النســاء البوسنيات اللاتي تم اغتصابهن على يد الميليشــي­ات والقوات الصربية، فــإن المعنى الحقيقي المتضمّــن في إنكار المذبحــة هو وجود إرادة ضمنيّــة لدى المنكرين لإنكار إنســانيّة القتلى والأحياء ممــن يختلفــون معهم دينيــا )وإن كانــوا لا يختلفــون عنهم عرقيّا(، وهــذا يعني أن المذبحة موجودة دائما بقوّة الكمون، وأن المنكرين قادرون على ارتكابها مرة أخرى.

أمــا التكريم بأعلى الجوائز الأدبيّــة لأحد هؤلاء المنكرين، فهــو دليل أكيــد على أن الفكــر العنصريّ هو جزء أساســي مــن الأيديولوج­يا الأوروبيــ­ة التي لا تكتفي بإعــان تفوقها السياســي والاقتصــا­دي، بــل تريــد أن تعلن ربمــا تفوّقها العرقــي )رغم ثبوت ســخافة هــذه الفكرة علميــا(، وصلتها الوثيقة بتيّــارات العنصرية الشــعبوية التــي ازدادت خلال العقد الأخير قوة وتأثيرا.

لا ضرورة بعد ذلك، لتذكير المنظومة السياسية الأوروبية أيضا بأياديها البشــعة المستمرة في كل المآسي الحالية التي يعاني منها العرب والمسلمون في سوريا وليبيا واليمن، فهذا أمر واضح، ولا حاجة لنقاشه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom