Al-Quds Al-Arabi

حرب اغتيالات إيرانية ضد أصدقاء أمريكا في العراق

- *كاتب مصري

في العــراق نهران، دجلة والفرات، كاد ماؤهمــا يجف بســبب الســدود التركيــة، لكن نهــر الــدم العراقي لا يغيض أبدا، بل يفيض دائما على دورات متســارعة، فبعد ثلاثة شهور لا تزيد على توقف موقوت لموجات الاغتيالات السياســية، وقد توالت وذهبت بالمئات من قادة انتفاضة أكتوبــر 2019، التــي راح ضحيتها نحو ثلاثــن ألفا من الشــهداء والجرحى والمعاقين، ثم هدأت جبراً مع تداعيات وطوارئ وإغلاقــات جائحة كورونا، مع أمــل واهن بعد تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي، التي وعدت بالقصاص لدم الشــهداء، لكن الاغتيالات عــادت من جديد، وضربت هذه المــرة واحدا من أشــد المتفائلين بحكومــة الكاظمي، وأنهت حياة المحلل الأمني المعروف هشــام الهاشمي، على بعد أمتار من منزله في قلب بغداد، وتماما كما نص تهديد، أخير قيل إن الهاشــمي تلقاه علــى هاتفه الجوال، توعده بالقتل العاجل في منزله.

وبالطبــع، فلا أحــد يتوقــع أن يكون الهاشــمي آخر المغتالين غدرا في العراق، ولا آخر الذين تقيد قضايا قتلهم ضد مجهولين، حتى لو برّ الكاظمي بوعده، واعتقل المتهمين بالقتل، فسوف تنتهي القصة غالبا إلى إجراءات صورية، ويكتفي الكاظمي بشراء حياته، فلا شيء صار حقيقيا في العراق اليوم، فالحكومــة افتراضية، والجيش افتراضي، والشرطة والقضاء إلى آخره، والحقيقة التي تبقى صادمة صامدة حتى إشعار لا يجيء، هي تحول العراق إلى ملعب

مفتوح للقتلة، وتلك مأســاة متصلة متفاقمة منذ الاحتلال والغزو الأمريكي للعــراق في إبريــل 2003، فلا دولة ولا وعاء حافظ للعراقيين، والاحتلال الأمريكي تبعته الهيمنة المسلحة والاقتصادي­ة والاجتماعي­ة والدينية الإيرانية، في ما ضاع العراقيون بين شقي الرحى، انفصل شمال العراق الكردي بصورة عملية تامة، وتحــت خط الفصل، لم يعد من تعريف للعراقي كعراقي، فهذا سني وهذا شيعي، وهذا عربي وذاك كردي، أو مســيحي أو تركمانــي أو أيزيدي، أو من عبــدة النار، وتحت كل طائفــة تفريعاتها، وفي كل عشيرة ســنتها وشــيعتها، ولم يعد يجمع بين العراقيين ســوى حد القتل، إضافة إلى الفقر والتشريد والهوان، في بلد كان الأغنى بموارده الطبيعيــة المائية والبترولية في المنطقــة كلها، لكن لا أحد يرحمك مــن القتل، حتى لو كنت فقيرا ومهانــا ومحروما من نعمة الشــعور بهوية وطنية جامعة، والفرصــة الوحيدة عندك لتوقــي القتل، هي أن تكون قاتلا أو مســتعدا للقتــل، أو أن تكون عندك رخصة حماية من عصابة قتلة، وما أكثر جماعات القتل في العراق، فقد ولغوا جميعا في الدم العراقي، وحولوا أنهار الدم إلى بحار ومحيطات بلا شــواطئ، ملايين العراقيين هربوا من المقتلة الكبرى إلى خارج حدود العراق، وملايين العراقيين الأكثر عجزوا عن الهــروب، واعتصرتهم المحنة الدموية، وبكل أســلحة القتل قديمهــا وحديثها، بحد الســكين، أو بطلقة رصاص، أو بالكاتيوشا أو بصواريخ «كروز».

قوات الاحتلال قتلت مئات الآلاف بل الملايين، وحروب الأعراق والطوائف قتلت أكثر، جماعات القتل )الشــيعي( الصفــوي طــردت وشــرّدت وقتلــت لحســاب الهيمنة الإيرانية، وجماعات القتل )السني( على طريقة «القاعدة» و»داعش» وأخواتهــا، زايدت في بورصة القتل إلى أقصى حد، ولم تعف أحدا، لا سنيا ولا شيعيا، من مصائر التدمير والسبي والاغتصاب وقطع الرقاب، وكلهم يصيحون )الله أكبــر( لحظة القتل، وفي نشــوة إيمانية مــزورة ملتاثة، وتحت رايات )لا إله إلا الله( و)آل البيت( و)يا حســن(، أو غيرها من الســرديات المتوحشة باســم الإسلام، بينما لا علاقة لهم جميعا لا بالإســام ولا بالإنسانية من أصله، وبما قد يذكــرك بمقولات قديمة لعالــم الاجتماع العراقي الشهير علي الوردي، كان الوردي يبحث عن أصل القسوة فــي التكوين العراقــي، وكان يركز علــى اختلاط معاني البــداوة والتحضر، وظواهر الأصــوات الزاعقة بالمبادئ والمثل العليا، التي تضادها حقائق التعصب والقتل باسم الطائفة والدين، بينما قد يكون القاتل في الغالب «ملحدا»

بسيرة حياته وسلوكه اليومي.

وقد لا تكون القصة في الشخصية العراقية، وازدواجها الحــاد على ما ذهب إليــه الوردي، ولا فــي النفاق القاتل المعتق، الذي ينســبه البعض لأقوال وعظات من ســيرة الإمام الجليل علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، وتجاربه المريــرة القاســية مع أهــل الكوفة، أو ما جــرى من بعده فــي مقتلة الإمام الحســن، ودموية الحجاج بن يوســف الثقفي، من فوق منابر المســاجد، فقــد كان العراق لآلاف الســنين تعبيرا جغرافيا لا سياســيا، وكانــت حاضرته )بغداد( واســطة العقد في أعظم مراحــل ترقي الحضارة الإســامية، في الفقه والعلم والتصوف والفلسفة والفن والموســيق­ى والغناء، كما في الشــعر العربي، الذي يظل المتنبــي )العراقي( أميره وملكه المتــوج على مرّ العصور، وإن كان مقتل المتنبي في ذاته إشــارة دالــة على المصير الدموي المتكــرر، وقد راحت بغداد الحضارة الإســامية العربية ضحية الاجتياح المغولي، وضحية مكائد القصور والأعاجــم، إلــى أن ذوت خلافــة العباســيي­ن بالضمور العائلــي والتآكل والمــوات الطويل، وإلــى أن دخلنا في عصور العثمانيين المترعة بالتخلــف، وظل العراق معنى جغرافيا لا حقيقة سياسية، وإلى أن تكوّن العراق الحديث الذي نعرفه منذ نحو مئة سنة، وعلى مراحل ثلاث، ملكية اســتعماري­ة، فجمهورية ديكتاتوريـ­ـة، فاحتلالية إفنائية متصلة إلى اليوم، وكان تكوين العراق السياســي هجينا مختلطا، وشــبيها بلقاء الخناجر و)الغــدارات( المختزنة تاريخيــا في النفــوس، وبغير عمود فقري ناظم متســق متجانس فــي طبيعته، وأقــرب إلى «بواقي الفســاتين» الإثنية والطائفية، فالفستان الكردي )التركي والإيراني( ممتد في رأس العراق، والفســتان السني ممتد من نواحى الشــام والجزيرة العربية، والفســتان الشيعي ممتد من إيران، بتشــيعها الصفوي الغالب، المخالــف في تكوينه للتشــيع العلوي العربي بطبع نشــأته، وتكوين مختلط خطر مــن هذا النوع، يحتــاج إلى أفران صهــر، قد تكون بلغت ذروة حرارتها الخانقة في عهد صدام حسين بالذات، اســتنادا إلى كون )العروبة( هي القاسم المشترك الأعظم في الاختلاط العراقي، وفي تطوير لذات الفكرة التي نشــأ بها العراق كتكوين سياســي، إذ جرى استقدام ملك عربي من خــارج العراق، وقبل به العراقيون العرب من الســنة والشــيعة، وبحكم رخو نسبيا تحت ســيطرة الاستعمار البريطاني.

ورغــم الانتقال فــي ما بعد مــن الرخــاوة الملكية إلى الاستبداد الجمهوري، والانتقال إلى حكم العراق بعراقيين، إلا أن خيط الدم لم يغب أبدا، فيندر أن تجد حاكما للعراق مات على ســريره، وحتى صدام حســن، الذي صعد إلى الســلطة بانقلاب عســكري أيديولوجي، بدا كأنه يطارد أقدار اغتياله، فقد كان محكوما عليه بالإعدام قبل أن يصل إلى الحكم، ثم انتهى إلى قدره المكتوب على المشــنقة بعد الاحتلال الأمريكي، وقد لايصــح أن ينكر أحد دموية حكم صــدام، فقد كان الرجــل قوميا عربيا بامتيــاز، لكنه كان عراقيا مطبوعا بطبــع حوادث بلــده وتاريخه ودولته، كان بدويا ومتحضرا في الوقت نفســه، مندفعا وشجاعا وقليل الاكتراث، حتى على حبل المشــنقة، لكن الحســاب الدموي لصــدام على وطأته، يظل محــدودا لو قورن بما جرى بعد شــنقه واحتلال العراق، ربمــا لأن حكم صدام كان المتعهد الوحيد لأحكام القتل في زمانه، وكان القتل من نصيب معارضيه غالبا، أما ما جرى من بعده، فكان شــيئا آخر تمامــا، فقد تكاثر المتعهدون بالقتــل، وصاروا جهات وعصابات بــالآلاف، ودونما فرصة نجــاة محققة لطرف بذاته، إلا بقدر ما لديه من سلاح، يدفع به الخطر عن نفسه وأهلــه، وهذا هو المعنى الذي قصدنــاه بتعبير «الاحتلال الإفنائي» الحاضر في العراق، فقد ذهبت الدولة الحارسة إلــى قبرها، بقــرارات الاحتلال، حل الجيــش، واجتثاث حزب البعث، وتهجير وتقتيل كــوادر الاحتراف في إدارة جهــاز الدولة، وإحلال الخــراب الشــامل، والتحول إلى معاني دولة صورية وافتراضية تماما، والابتلاء بفســاد وتوحش جماعات اليمين الدينــي، وحروب الطرد والفرز الطائفي الهمجــي، وتنصيب حكومات الدمــى الأمريكية والإيرانية على التوازي أو بالتتابع، وتسييد مليارديرات النهب المحمية بعصابات الســاح المنفلت، وجعل العراق حلالا للأطيــار من كل جنــس، إلا للعراقيــن الوطنيين، وجعــل الســاحة العراقيــة «عناوين بريــد» لصدامات الآخريــن، وهكذا دخــل العراق كتكوين سياســي وطني جامع إلى مرحلة الإفناء شــبه الكلــي، التي لا عاصم منها سوى بمعجزات وثورات غضب كاسح للاحتلالين، توالت على طريقها انتفاضات النــاس، بفوائض حنين مضاعف إلى العراق الذي كان عزيــزا مقتدرا، وصار مغدورا غارقا في دمه، كما الإمام الحسين، لا يطلب سوى التشيع للعراق لا التشيع عليه، فالعراق اليوم في أمس الاحتياج لعراقيين يشبهون ألمه.

دخل العراق كتكوين سياسي وطني إلى مرحلة الإفناء شبه الكلي، التي لا عاصم منها سوى بمعجزات وثورات غضب كاسح للاحتلالين

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom