Al-Quds Al-Arabi

لماذا فشل اتفاق أوسلو ولماذا تسقط صفقة القرن؟

- ٭ استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

■ مر ربع قرن على الاتفاق الذي وقع في أيلول/سبتمبر 1993 بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات من جهة ورئيس الوزراء الاســرائي­لي إســحاق رابين. في ذلك الوقت توفرت بيئة دوليــة واقليمية متفائلة بامكانية ايجاد حــل للصراع العربــي الاســرائي­لي وعلى الاخص للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. وقد تضمن اتفاق أوسلو خطوات، لنشوء ســلطة فلســطينية في مرحلة أولى، ثم يبدأ التفاوض بين هذه الســلطة وإســرائيل على القضايا الشــائكة: اللاجئون و حــق العودة والقــدس والحدود والسيادة والمســتوط­نات وغيرها من القضايا. وقد وضع في اتفاق اوســلو شرط اساســي: أن يتم الانتهاء بإتفاق حول كافة القضايا قبل مرور خمس سنوات على الإتفاق.

وبالفعل نشأت السلطة الفلسطينية حسب الإتفاق وعاد عرفات مع الكثير من المقاتلين وأعضاء حركة فتح ومنظمات العمل الفدائي إلى فلســطين في غزة ورام الله )تجاوز عدد العائدين مــع عائلاتهم المائة الف(. فــي تلك الحقبة كانت الولايات المتحــدة تملك ما يقارب النصف مليون جندي في منطقة الخليج وذلك في اعقــاب تحرير الكويت عام 1991، بل كانت الولايــات المتحدة فــي أوج قوتهــا العالمية بعد إنتصارها المدوي في الحرب الباردة على غريمها التاريخي الإتحاد السوفييتي، خاصة مع إنهيار الشيوعية في معظم دول العالم وخاصة في أوروبا الشرقية.

ومنــذ التوقيع علــى إتفاق أوســلو حــذرت أصوات فلســطينية ومنها صوت إدوارد ســعيد المفكر الفلسطيني الأمريكي من أن الصهيونية عاجزة عن تقديم حل للصراع، وأن الصهيونية لن تقبل بدولة فلســطينية مســتقلة مهما تنازل لهــا الفلســطين­يون، فإســرائيل لــن تتراجع عن المســتوطن­ات وتمددها ولا عن القــدس واحتلالها ولا عن يهودية الدولة وعنصريتها، ولن تقبل بعودة اللاجئين ولن تعترف بكل الكوارث التي بدأت منذ النكبة في العام 1948.

وبالإمكان القول بأن رؤية الزعيم الفلســطين­ي عرفات لم تخرج عن ســعيه لتجربة طريق آخــر خاصة مع تراكم المصاعب أمام الحركة الفلســطين­ية. لهــذا أخذ عرفات من منفاه التونســي بمبدأ بورقيبة: خــذ وطالب، وأخذ بمبدأ تخليــص ما يمكــن تخليصه والقبول بحل يمنع خســارة المزيد من الأرض والحقوق.

لكــن الحقائق على الارض هي التــي فرضت ذاتها على كل الاطراف، فقد إغتال متطرف يميني إســرائيلي رئيس الوزراء إسحاق رابين )الذي وقع على الاتفاق مع عرفات( في العام 1995، متهما رابــن بالخيانة والتنازل عن أرض يهوديــة) الضفــة الغربية(. منــذ تلك اللحظــة تغيرت الموازين وبدأت الاوضاع تســير نحو التراجع الاسرائيلي عن أوســلو. إن المدرســة التــي مثلها نتنياهــو وبالطبع شــارون وزير الدفاع الســابق وجنرالات الليكود وتيار اليمين الإســرائي­لي لم تكن متقبلة لفكرة سلام متوازن مع الفلسطينيي­ن.

تلــك الاجواء خلقــت تناقضــات كبرى في الســاحة الفلســطين­ية، فقد عمقت الشــرخ بين حمــاس وفتح، إذ طورت تلك التطورات تمسك حماس بمشروع العمل المسلح وذلك انطلاقا من أن أوســلو لم ينه الاحتلال ولا يستطيع إيقاف الحروب التي تشــنها إســرائيل. ويمكن القول إن ياسر عرفات اكتشف في لحظة ما خاصة بعد اغتيال رابين بأنه خدع، اذ شــاهد كيف بدأت الأمور تتغير بفضل ضغط اليمين و بفضل وصول نتنياهو لرئاسة الوزراء عام 1997.

ومع ذلــك وافق عرفات بعد ســقوط نتنياهو على مبدأ التوصل لإتفاق سلام منسجم مع اتفاق أوسلو مع الرئيس كلينتون ومــع حكومة حزب العمل برئاســة إيهود باراك الــذي فاز في إنتخابات مبكرة عــام 1999. لكن باراك كان يخشــى من أن يلقي مصير إســحاق رابــن، وهذا دفعه للتشــدد. وعندما وصل عرفات لواشــنطن العاصمة في تلــك المفاوضات من العــام 1999 وجد ســيناريو ونتائج مفاوضــات مجهزة بصــورة مســبقة، ووجــد أن الوفد الأمريكي يتعامل معه تماما كالوفد الاســرائي­لي : محاولة فرض حل من جانب وفق المطالب الاسرائيلي­ة. لهذا لم يكن مقبولا للفلسطينيي­ن ما طرح عليهم في كامب ديفيد، بل اخذ عرفات موقفا صلبا أمام اصرار الرئيس الأمريكي كلينتون.

الاتفاق المطروح لم يكن ليضمن للفلسطينيي­ن السيادة علــى القدس وعلــى كل أراضي الضفــة الغربية ولم يكن يتضمــن الاتفــاق اي جانــب مــن جوانب حــق العودة للفلســطين­يين، كما أن اصرار رئيس الوزراء الاسرائيلي بــاراك على تنازل الفلســطين­يين عــن كل القضايا المعلقة أنهى فرص الاتفاق. لهذا انتهى مؤتمر كامب ديفيد للفشل. وبينما ســبق لعرفات أن قال لكلينتــون عندما وجه اليه الدعــوة الاولى لحضور لقــاء كامب ديفيــد إن الظروف لتحقيق اتفاق نهائي غير متوفــرة، وانه يطالب كلينتون عنــد حضــوره أن لا يلومه لو لــم يقع اتفــاق. وقد وعد كلينتون بذلك لضمان مجيئ عرفات.

لكــن الرئيــس كلينتون إرضــاء لإســرائيل، وخلافا للحقيقــة وللوثائق التــي خرجت عن اللقــاء، أعلن بأن عرفات هو المسؤول الأول عن فشــل المفاوضات. بعد ذلك ســارت الأوضاع نحو المواجهة. فقد ذهب ارييل شــارون )الذي كان قد عزل عن العمل السياســي لســنوات طوال بســبب دوره في مجزرتي صبرا وشــاتيلا عام 1982( في زيارة استفزازية )اقتحام( للمســجد الاقصى عام 2000، وقد شــكل ذلك الاقتحام المدخل لانفجار الأوضاع وبداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

الانتفاضة الفلســطين­ية التي بدأت عــام 2000 لم تكن مســلحة، لكن عرفات شــجع عليها انطلاقا مــن خيبات الأمل منذ وقع على اتفاق أوســلو. لكن الانتفاضة ستنتقل فيمــا بعد للحالة المســلحة وذلك بســبب قيــام الجيش الاســرائي­لي بقتل مئات الفلسطينيي­ن بدم بارد، ثم بسبب وصول شارون للحكم في بداية 2001. ستكون الإنتفاضة الثانية مــع تطورها نحو 2001 بمثابــة حرب حقيقية بين إسرائيل والفلسطيني­ين، وستســتمر لسنوات عدة للعام 2005، أثنــاء الانتفاضــ­ة قتل الــوف الشــبان والمقاتلين الفلســطين­يين وجــرح 48 الف فلســطيني، وأعاد جيش الإحتلال الإســرائي­لي احتلال الضفة الغربية. ومنذ 2002 فرض الجيش الاسرائيلي حصار على ياسر عرفات في مقر قيادته في رام الله، وبدأت اســرائيل بتشييد جدار حول مدن وقرى الضفة الغربية.

الجدير بالذكر ان الاســتيطا­ن في الضفة الغربية وفي القدس الشــرقية العربيــة، وهو من اكثــر القضايا اثارة للرأي العام الفلسطيني، لم يتوقف في أي من المراحل التي جاءت بعد توقيع اتفاق اوســلو، لكن فــي المقابل وصلت وتيرة الاســتيطا­ن لقمتها مع وصول شــارون للحكم عام 2001. في تلــك الحقبة في 2001 ثم في 2002 قام شــارون باغتيال عدد كبير من قادة الفلسطينيي­ن منهم الامين العام للجبهة الشــعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، وفي المقابل وقعت مئات العمليات الفلسطينية في المستوطنات وفي اراضي فلسطين ضد جنود ومواقع الاحتلال. وتشير الكثير من المصادر لتورط شــارون في مقتل ياسر عرفات بالسم اثناء حصاره في رام الله في 2004.

ومنــذ اختفاء شــارون عن الســاحة مع العــام 2006 بسبب الغيبوبة اســتمر الجمود والتدمير المنهجي من قبل حكومات اليمين لكل ما سبق وتم الاتفاق عليه في اوسلو، لهذا تحول الاتفاق مع خلفاء شــارون ومع نتنياهو لهيكل مفــرغ، لا معنى لها و لحكم ذاتي محــدود في ظل الاحتلال الاسرائيلي.

ان صفقة القرن التي كثر الحديث عنها طوال العام 2017 ـ 2018 لــم تكن بالتالــي اكثر من إعلان وفاة أوســلو. إن الفارق بين أوسلو وصفقة القرن كبير. ففي أوســلو قدمت وعود بنقــاش حقيقــي وتأمين حلول لمشــكلات قائمة منهــا الإحتلال والحصار والاستيطان والقدس والانســحا­ب من غزة والضفة الغربية والسيادة ووجود مطار وميناء ومؤسسات وجمارك ومنافذ وسيادة.

أما صفقة القرن فهي لا تقدم شــيئا. الرهان الإسرائيلي كما الأمريكي علــى أن دول عربية كبرى بامكانها ان تصنع سلاما يتجاوز الشعب الفلسطيني مبالغ به على كل صعيد. قد تقترب هذه الدول من التنســيق وقــد تجد لها مصالح محدده، لكنها لأســباب ذاتية وداخلية وعربية وإسلامية لن تستطيع هذه الدول أن تسير في خطة لا تشمل القدس ولا تشــمل موافقة الفلســطين­يين الواضحة. بل مع إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشــنطن، ومع إعتراف أمريكا بالقــدس عاصمة موحدة لاســرائيل فأن فرص الســام ســقطت بالكامل، بل يجد الرئيس أبو مازن وهو من اكثر الفلســطين­يين مرونة انه لا يســتطيع القبول بما تطرحه إدارة ترامب. بل سيســجل التاريخ بأن ترامب انهى حتى الامل بإمكانية السلام. لقد عاد الصراع لابجدياته الأولى.

الحالــة الفلســطين­ية الراهنة مثقلة بالجــراح، لكنها بنفس الوقت شــديدة المعرفة بنقاط قــوة ونقاط ضعف العــدو، وهي بنفــس الوقت تتحلى بالــذكاء الفطري في ظــل أكثر من مائة عام مــن الصراع، هذا الــذكاء الفطري يفرض على الشعب الفلسطيني أن تبقى على الارض وان يتمســك بالحقوق والمنازل والمدن والمناطــق، كما يفرض عليه تطوير ألية مؤسساته وان يعتني بالمعرفة والتعليم وبناء القدرات. بيد الفلسطينيي­ن أوراق هامة في غزة وفي الضفة وبين الفلســطين­يين في المناطق التــي قامت عليها اســرائيل كما وفي القدس المحتلة وفي الشــتات الواسع. لدى الفلســطين­يين ايضا اوراق أساسية تتلخص بعدالة قضيتهم ودعم الشعوب العربية والإسلامية بل والكثير من شعوب العالم لقضيتهم. لازال الشعب العربي الفلسطيني حتى اللحظة منافس حقيقي للصهيونية على ذات الارض وفي الجغرافيا الممتدة عبر فلسطين من النهر للبحر. حتى اللحظة فالحد الأدنى من الشرعية الإسرائيلي­ة غير مكتمل لأنه متوقف على قبول الفلســطين­يين بالســام وفق قيم واضحة للعدالة والحقوق.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom