R22 ThisWeek

ما يمكنني قوله كفلسطيني عن إسرائيل في إسرائيل، لا أستطيع قوله في ألمانيا

- نواف رضوان

أن تعـرّف عـن نفسـك على أنك فلسـطيني فـي ألمانيا ليـس بالأمـر السـهل، خاصة عندمـا يتعلق هذا «الأمر» بكافّـة تفاصيـل حياتـك، بـدءاً من البحث عن غرفة للسـكن أو إيجـاد عمـل أو خـوض أي نقـاش عابر مـع غرباء عابرين. ببسـاطة، أنـت فلسـطيني. إذاً أنـت تُهمـة متحركة حتى يُثبـت عكسـها، وعلـى الأغلب، لن يثبـت هذا العكس علـى الإطـاق. وكلمـا خطونا خطوة إلى الأمام تتسـع المسـافة وتكبـر، لكننـا لـم نكن نـدرك قبل ذلك أن هذا الأمـام لـم يكـن إلا خطـوة أخرى نحو الجحيـم. وجحيمنا بـاردة هذه المرة.

لطالمـا كانـت معاداة السـامية هـي التهمة الجاهزة والمغلفـة بعنايـة تجـاه أي نقـد ممكن لإسـرائيل في هذا البلـد. بالطبـع، نسـتطيع تفهم الأسـباب التاريخيـة العميقة وراء ذلـك، خاصـة أن قطارات الموت ومعسـكرات الاعتقـال وأفـران الغـاز لا تزال شـاهدة على حفلة الهولوكسـت الكبيـرة، وهـي واحدة من أبشـع الحقب الدمويـة فـي تاريخ البشـرية، وكذلك نسـتطيع تفهم الشـعور الألمانـي العميـق بالذنـب بعد انتهـاء حفلتهم الصاخبـة، هـذا كلـه مفهوم بالنسـبة لـي ولا غرابة فيه. لكـن مـا هـو غيـر مفهوم، لماذا علي أن أشـعر بعقدة الذنـب هـذه؟ لمـاذا يجـب علي - كفلسـطيني يعيش في ألمانيـا - أن أدفـع هذا الثمن؟

فـي عـام 2019 أعلـن البرلمـان الألماني أن «حركة مقاطعة إسـرائيل وسـحب الاسـتثمار­ات منها وفرض العقوبات عليها، تسـتخدم أسـاليب معادية للسـامية لتحقيـق أهـداف سياسـية» أو هذا ما اسـتوعبته على الأقـل، نعـم. كل عطسـة هُنـا قد تصبح معادية للسـامية، وهـذا قـد يقلب حياتك رأسـاً علـى عقب. كان الأمر بسـيطاً إلى هذا الحد بالنسـبة لي. ما تسـتطيع قوله عن

نستطيع تفهم الشعور الألماني العميق بالذنب بعد انتهاء حفلتهم الصاخبة، هذا كله مفهوم بالنسبة لي ولا غرابة فيه. لكن ما هو غير مفهوم، لماذا علي أن أشعر بعقدة الذنب هذه؟ لماذا يجب علي - كفلسطيني يعيش في ألمانيا - أن أدفع هذا الثمن؟

إسـرائيل في إسـرائيل، لا تسـتطيع قوله في ألمانيا، وهـو مـا كان مضحـكاً بشـدة في البدايـة، ولكن مع مرور الوقـت، بـدأ الأمـر يتحول إلى كابوس مزعـج حتى على المسـتوى الشخصي.

تحـاول المؤسسـة الألمانيـة جاهدة للسـيطرة على فضـاء اللغـة، ومـن هُنا تسـتطيع إحكام سـيطرتها على مـا قـد ينتـج من أفكار في أذهـان دافعي الضرائب. ثمـة مصطلحـات وكلمـات ومفاهيم وأفـكار جاهزة يمكن تداولهـا، فـي مقابـل بعض الأفـكار والكلمات التي يمكـن أن تعرضـك للمسـاءلة القانونيـة. ومـن هُنا، تبدأ ماكينـة الخـراء الهائلـة بالـدوران، هناك مـا يمكنك قوله وهنـاك مـا لا يمكنـك قولـه. تجنب الحديث عن إسـرائيل واليهـود… لا تتحـدث عـن النازيـة… تجنـب الحديث عن غزة والقـدس… مـاذا تقولـون؟ إنه حق إسـرائيل في الوجود. إسـرائيل ديمقراطيـة ويهودية في الوقت نفسـه… الهولوكوسـ­ت… هششـش أخفض صوتك... حتى لم يعـد بإمـكان أحـد أن يشـتم إسـرائيل دون أن يواجه عواقب هذا التهوّر.

شـيئاً فشـيئاً، يبـدأ دافـع الضرائب المحتـرم بالتماهي مع دورة الهـراء هـذه، ويقـوم بإعـادة إنتاجها بوعي أو دون وعـي، وفـي لحظـة مـا، يصبح الفصل بيـن اللغة والأفكار الناتجـة عنهـا مجـرد وهـم، إذ تفرض عليـك هذه اللغة «المسـموحة» طريقـة مـا لتعريف نفسـك داخل هذه المنظومـة، حيـث تشـكّل الكلمـات وجهة نظـرك عن الحياة كمـا تشـكّل الطريقـة التي تشـعر بها تجاه نفسـك والعالم. وكذلـك تفعـل الكلمـات التي لا نجـرؤ على قولها.

الأمثلـة أكثـر مـن أن تُحصى فيمـا يتعلق بمحاولات السـيطرة علـى اللغـة والنقـاش العام، ولعـل أبرز الأمثلة هـو الوثيقـة التي سُـربت من مكاتب «دويشـته فيله» فـي أيـار/ مايـو 2021 أثناء العدوان الإسـرائيل­ي على غزة.

سياسـة التحريـر التـي وُزعت علـى الصحافيين والموظفيـن فـي المؤسسـة من قبل رئيسـة التحرير مانويـا كاسـبر كلاريـدج تقول «نحن في دويشـته فيله لا نشـكك يوماً بحق إسـرائيل في الوجود… نحن لا نشـير إلـى نظـام الفصل العنصري في إسـرائيل. إننا نتجنب الإشـارة إلى الاسـتعمار أو المسـتعمري­ن»،

وتابعـت الوثيقـة: «نحـن نحترم حرية الـرأي والتعبير، وحـق النـاس فـي انتقاد أي من الأطـراف المعنية. ومع ذلـك، فـإن انتقـاد إسـرائيل يصبح معاداة للسـامية عندما تحاول تلطيخ وتشـويه السـمعة ونزع الشـرعية عن دولة إسرائيل » .

لا أعـرف إن كان ثمـة كوميديـا يمكنهـا التعبيـر عن الوضع كمـا جـاء في هذه الرسـالة! وهذا بـدوره مهّد لفصل صحافييـن فلسـطينيين وعـرب من المؤسسـة، بالإضافة إلـى مـا حـدث فـي أيار/ مايو الماضي مـن منع تظاهرات للتضامـن مـع فلسـطين وإلغـاء فعاليـات مختلفة واعتقال وملاحقـة ناشـطين فلسـطينيين فـي برليـن، ومنع عمل فنـي بعنـوان «عدالة الشـعب» للمجموعة الإندنوسـي­ة ‪Taring Padi‬ في الدورة الخامسـة عشـرة من معرض دوكومنتـا العالمـي فـي مدينة كاسـل الألمانية، وفي أواخـر أبريـل/ نيسـان 2022، اقتحـم مجهولون قاعة عرض لمجموعـة مـن الأعمال الفلسـطينيّة «‪the Question‬ ‪of Funding‬ » وغطّـوا الجـدران بمـادّة إطفاء الحريق وكتبـوا عليهـا «178»، وهـو رمز للتهديـد بالقتل في الولايـات المتّحـدة الأمريكيّـة، وتمّ اتّهام بعـض العاملين الثقافيّيـن ممـن عملـوا سـابقًا في مركز خليل السـكاكيني فـي رام اللـه بـ»عـداء السـاميّة»، فيما دعـا المركز في بيـان إلـى وقـف الحملـة العنصريّة ضد الفـن والفنانين الفلسـطيني­ين فـي ألمانيـا ومؤخـراً، منـع معهد غوته الألماني الناشـط الفلسـطيني محمد الكرد من المشـاركة فـي مؤتمـر «أبعـد مـن الجاني الوحيد - ‪Beyond the‬ ‪Lone Offender‬ »... كل ذلـك كان بالتهمـة السـخيفة والممجوجـة ذاتهـا «معاداة السـامية». إذ أعلـن المعهد عبـر تغريـدة فـي تويتـر: «بعد القليل مـن التفكير، قرر معهـد غوتـه أن محمـد الكـرد لم يكن المتحدث المناسـب. إذ أدلى في منشـورات سـابقة على وسـائل التواصل الاجتماعـي بتعليقـات حـول إسـرائيل لا يجدهـا معهد غوته مقبولة » .

هنـاك أشـياء غيـر مقبولـة أيضاً. من غيـر المقبول أن يُقتل 67 طفـاً ويتقطعـوا أشـاءً تحت القصف الإسـرائيل­ي فـي غـزة ويصبح اسـمهم «بنك أهـداف للجيش الإسـرائيل­ي»، وأن يُسـمى اغتيال الناس في الشـوارع «تحييـداً»، وأن يتحـول «مقتل شـيرين أبـو عاقلة» على الشاشـات الألمانيـة إلى «وفاة شـيرين أبـو عاقلة». من غيـر المقبـول أيضاً أن تُسـمى «دولـة اليهود» بـ»دولة ديمقراطيـة»، وأن تصبـح مناهضـة الاحتـال والتطهير العرقي في فلسـطين «معاداة للسـامية». وأن يسـمّي الإعـام الألمانـي العائـات العربية في برلين وإيسـن بـ»عشـائر الإجـرام العربيـة»، وأن تعني كلمة مسـلم بالنسـبة لهـذا الإعـام «طالبـان»، وفي بعض الأوقات، يختلـط الأمـر عليهـم، ولا يفرقـون بين Palestine و Pakistan. إنه سـيرك كبير وصاخب... شـيء ما يشـبه أوركسـترا من الأبقار النشـيطة التي يُسـمع صدى خوارها فـي الأرجـاء ولا تجـد حرجاً فـي اللعب بمصائر البشـر كما تلعب فـي الكلمات.

تسـيطر اللغـة علـى التعريفات ووجهـات النظر وحدود التفكيـر، ومـن خـال العبث في هـذه اللغة، تحاول الماكينـة الألمانيـة أن تحـول نفسـها إلى ضحيـة جرائمها

أن تعرّف عن نفسـك على أنك فلسطيني في ألمانيا ليس بالأمر السهل، خاصة عندما يتعلق هذا «الأمر» بكافّة تفاصيل حياتك.

المتراكمـة علـى مـر التاريـخ، وتتنصـل منها عبر إحداث شـرخ حـاد وقطيعـة تاريخيـة معها، بحيـث تصبح هذه الفتـرة النازيـة «حالـة اسـتثنائية» في تاريـخ هذا البلد، لكـن فـي الحقيقـة، ما النازية سـوى اسـتمرار طبيعي للحالـة الاسـتعمار­ية الأوروبيـة، وتتويج لمجـازر التطهير العرقـي فـي مختلـف الدول التي اسـتُعمرت خلال القرن الماضي.

بالطبـع، كان لهزيمـة النازييـن فـي الحرب العالميـة الثانية الأثـر الكبيـر والمزلـزل علـى الوعي الجمعـي لكل ما هو «ألمانـي»، إذ تحولـت هـذه الدولـة المرعبة إلى كائن رقيـق يرتـدي جرابـات ملونـة وبالكاد يملك جيشـاً، ويحاول الاغتسـال جاهـداً مـن هـذا الذنب الهائـل، ولكن مثل كل مـرة، لا تغتسـل الفوقيـة البيضـاء مـن ذنوبها إلا من خلال دعم اسـتعمار يشـبهها، وفي هذه الحالة بالنسـبة لهما، لـم يكـن هنـاك أفضـل من دعم نظام الفصـل العنصري الاسـتيطان­ي الإسرائيلي.

هـذه الفكـرة كذلك ليسـت سـوى تتويج للعنصريـة البيضاء المسـتمرة تجـاه اليهـود. إذا كنـت معنيّـاً حقاً الدفاع عن حـق اليهـود فعليـك الدفاع عـن وجودهم في أوروبا، عدا ذلـك، فـإن كل هـذا الخطاب البائس ما هو سـوى اسـتمرار فـي الكراهيـة والعنصريـة الألمانيـة ضـد اليهود من أجل إقصائهـم عـن بلدهـم الحقيقـي الذي تعرضوا فيه لأبشـع المجـازر علـى مر التاريخ.

لا ينسـحب الأمر على المؤسسـات الرسـمية ووسـائل الإعـام الألمانيـة فقـط. إذ تمتد هـذه العنصرية إلى مـا هـو أبعـد مـن ذلك بكثيـر. جميعنا شـاهدنا تلك النبرة الاسـتعلائ­ية والتصريحـا­ت العنصريـة مع اشـتعال الحرب الروسـية الأوكرانيـ­ة، وتوافد مئـات آلاف اللاجئين الأوكرانيي­ـن الفاريـن مـن الحرب، إذ وصلـت عناوين الأخبار فـي كثيـر من وسـائل الإعـام العالميّة والأوروبيّة إلى وضـع مخـزٍ: «اللاجئـون المتحضرون مقارنة بأفغانسـتا­ن والعـراق… لاجئـو أوكرانيا المسـيحيون… لاجئون بشـعر وعيون زرق… لاجئون يشـبهوننا». هذا كان حال لسـان كثيـر من وسـائل الإعلام الأوروبيـة والأمريكية، ولم تقتصـر العنصريـة علـى التصريحـات فقـط، إذ انتقلت إلى مسـتويات أخـرى لتتمثـل علـى أرض الواقع، مثـل التقارير التـي تحدثـت عن طـرد اللاجئين الأفغان من مسـاكنهم لاسـتبداله­م باللاجئيـن الأوكرانيي­ـن، وذلك حسـب قرار «إدارة الاندمـاج والعمـل والخدمـات الاجتماعية» في ولايـة برليـن، معلليـن ذلك بأنـه «اعتبارات ضرورية وصعبـة مـن الناحية التشـغيلية».

أذكـر ذلـك المشـهد جيداً حين وضعـت قدمي في هذه المدينـة للمـرة الأولـى. أكوام من المشـردين في كل مـكان، تسـتطيع رؤيتهـم على الأرصفـة ومداخل الحدائق والمحطـات وتحـت الجسـور الصدئة، يغنـون ويضحكون ويشـربون البيـرة، يقفـون مثل مزهريـات جميلة في صالـون هـذا العالـم المتحضـر، ولكن مـع مرور الوقت، لم أعـد أراهـم أو أنتبـه إلـى وجودهم. لقـد تحولوا إلى ديكور للمدينة. كل شـيء هُنـا يحـدث فـي الخلفيـة، حتى فوجئت ذات يـوم بأننـي محشـور داخل هـذه الخلفية بدون أن أدري. فـي ذلـك الوقـت، تعرفـت إلى كريم. كنتُ قـد التقيته صدفـة فـي الثالثـة صباحـاً بالقرب مـن أحد البارات في منطقـة كرويزبـرغ. بعد سـاعات طويلة من المشـي في الشـوارع بدون هدف، قفز أمامي مثل فكرة رشـيقة وسـألني بالألمانيـ­ة ‪Hast du Feuerzeug‬ - هـل لديك قداحـة؟ قلـت لـه بالطبـع. وفعلًا، هـذا كان كل ما تبقى لـي بعـد سـرقة حقيبتـي من محطة القطارات فـي الليلة الماضية.

كان رجـاً مشـرداً مـن أمازيغيي المغرب، ويناديـه الجميع بـ»كريـم برلينـر»، ربمـا تيمّناً باسـم البيرة التـي يحبها ويشـربها، أو أنـه فعـاً تحـول إلى برلينـي حقيقي بعد سـنوات طويلة قضاها مشـرداً في شـوارع المدينة الطويلة. أشـعلتُ له السـيجارة ومن ثم اشـتعلت حياتي بأكملهـا، وبـدون تفكيـر، حملـت كاميرتـي الثقيلة وبدأت بالركـض بيـن جمـوع المشـردين في المدينـة كمن ماتت أمـه للتـو، لتصويـر «فيلم وثائقي» حـول ضحايا هذه المنظومـة الهائلـة التـي تطحن الأخضـر واليابس بدون رحمـة. القلـوب التي تُشـبهنا ونشـبهها، بغض النظر عـن الألـوان والأعراق وهراء «الصعوبات فـي الناحية التشغيلية » .

قـال لـي كريـم ذات يوم «حتى الـكلاب لديها تأمين هُنـا وتدفـع الضرائـب يا رجل». هنـاك ضريبة الكلاب Hundsteuer((، والتأميـن ضد مسـؤولية الكلاب Hundshaftp­flichtvers­icherung((، والجدارة الائتمانيـ­ة )Kreditwürd­igkeit( والتقريـر الائتماني ‪bonitätsau­skunft Schufa(‬ ( الـذي يمكنـه أن يحول بينـك وبيـن اسـتئجار منزل حرفياً.

أقـول فـي نفسـي، ربمـا لهذا السـبب لا يمكننا رؤية كلـب مشـرد واحـد فـي ألمانيا، في الوقت الـذي تمتلئ فيـه الأرصفـة والحدائق بالمشـردين «الذين يشـبهوننا»، ولهـذا السـبب أيضـاً، ترى صحافياً أبيـض يصف طفلًا فلسـطينياً في السادسـة من عمره أمام دبابة إسـرائيلية بأنـه معـادٍ للسـامية، لكنـه لا يرى في الدبابة إلّا «شـيئاً طبيعيـاً» لا يسـتحق الوقـوف عنده.

أذكر ذلك المشهد جيداً حين وضعت قدمي في هذه المدينة للمرة الأولى. أكوام من المشردين في كل مكان.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Algeria