R22 ThisWeek

صناعة العرق البلدي خطوة بخطوة... من القطاف إلى الموّال

- علاء زريفة

«حليب السـباع»، كما يحلو لشـاربيه وصفه. و»المُنكر» كما يسـميه بعض السـاخرين من فكرة تحريمه. أما في اللغـة فهو «الشُّـربِ» أي مـاء العنب، إنه العرق البلدي.. المشـروب الكحولي المعروف شـعبياً في سـوريا ولبنان، والأكثر شُـهرة لدى سـكان منطقة السـاحل السوري. وهو أيضـاً « الماحيـا» أو مـاء الحيـاة في بلاد المغرب، أما تسـميته الفرنسـية فهي الكونياك.

يتـم تصنيعـه في سـوريا منـذ القدم لدى كثير من العائلات ضمن المؤونة. إما لاسـتهلاكه في ليال الشـتاء الباردة أو كنـوع مـن الضيافـة وإكرام الضيـف. وأحياناً لبيعه ضمن دائـرة المعـارف والأصدقاء الضيقة ممن لا يستسـيغون طعـم العرق التجاري.

يجـري اسـتجلاب العنب الأبيـض، بعد الانتهاء من جني محصولـه فـي مناطق ريف حمص الشـرقي وبعض مناطق السـويداء حيث تتم زراعته بعلًا وعلى شـكل أجمات في أرضية غير متعرشـة أو متسـلقة.

تُعـرف تلـك المناطق بتربتها الحمراء وتسـمى «تيراروزا» أي تربـة البحـر المتوسـط الحمراء، وهي الأفضل لزراعة العنـب، يسـاعدها في هـذا المناخ الملائم الذي يعطي ثمـار العنـب الطعم الشـهي، ودرجة الحلاوة المرتفعة المناسـبة لاسـتخراج العرق، والذي يُعرّف كيميائياً بأنه «مشـروب كحولي مقطر يحلّى باليانسـون».

الكبيـس أو «المعصور»

فـي حديثـه لرصيـف22، يروي أبو محمد )55 عاماً( والذي يعمـل مزارعـاً عـن طريقة إعـداد وتحضير العنب في مراحله الأولى قبل أن يغدو عرقاً. ففي شـهر آب/أغسـطس من كل عـام، وبعـد جني محصول العنب واكتسـابه الطعم والحـاوة المناسـبة يتم تجهيـزه للعصر عبر وضعه في أوعية مسـطحة تُسـمى بـ»الطشـت». ليُصار إلى هرسه بالأرجـل بعـد ارتداء أحذية نظيفة من الكاوتشـوك أو أكيـاس جديـدة. خلال عملية الهرس يجب عدم كسـر بذور العنـب كـي لا يكتسـب طعم العـرق فيما بعد مرارة غير مرغوبة.

العنـب المهـروس الذي غدا «كبيسـاً» أو «معصوراً» كما يقـول أبـو محمـد، يتم وضعه فـي براميل خاصة، قد تكون من البلاسـتيك أو الستانلسـت­يل، وهي مخصصة لحفظ المواد الغذائية.

ويوضـح أنـه لا يجوز اسـتخدام براميل حديدية لأن الحديد يتفاعـل مـع الكبيـس المخزن مـا يعطي العرق طعماً غير مستسـاغ فيمـا بعـد. ثم تغطى البراميـل تماماً بالنايلون المقـوى لئـا يدخلها الهـواء. ويجب عدم ملئ البراميل بالكامل والاكتفاء بنسـبة %80 من اسـتيعابها للسـماح بتفاعـل الكبيـس مـع الغازات وبالتالـي دخوله مرحلة التخمر. تحفـظ البراميـل فـي مكان دافـئ بعيداً عن عوامل الرطوبة وأشـعة الشـمس، ويتم عزلها سـواء بالقش أو الألواح الخشـبية لمـدة تتـراوح من 40 إلـى 90 يوماً؛ لتدخل بعدها فـي مرحلـة تُعرف بـ»الكلكـة التقليدية» أو «التكليك».

خطـوة بخطـوة حتى يعلو الموال يتألـف جهـاز الكلكة النحاسـي، المُصنـع محلياً، من طنجرة أو قدرٍ كبير يُسـمى شـعبياً بـ»الدسـت». وهو متصل بغطـاء قُمعي الشـكل، وهـذا الأخير متصل بدورة بأنبوب نحاسـي قطره من الأعلى 10 سـم، وارتفاعه 70سـم. ينتهـي هـذا الغطـاء بخزان محدب القـاع مهمته حبس البخار

المتصاعـد الذي يسـاعد فـي عملية التقطير.

تبـدأ هـذه العمليـة كما يتحدث أبـو محمد دائماً، بملئ الدسـت بنسـبة %75 من حجم اسـتيعابه، بـ 20 كغم من الكبيـس المخمـر مـع إضافـة 10 ليترات من الماء، و15 كغم من اليانسـون الشـامي، وهو المُفضل لدى صُناع العرق البلـدي لنقائـه وخلوه من الشـوائب، وبالطبع لإضفاء الحـاوة على طعم العرق.

فـي الخطـوة التاليـة يُركّب فوقه القمع النحاسـي ثم يغلق بإحـكام باسـتخدام عجينة الرمـاد منعاً لنفاذ البخار. ومع بـدء عمليـة الغليـان يتقطر العرق بصـورة أوتوماتيكي­ة عبر أنبـوب يصـل بين «الكلكة» وعبـوة مخصصة لتعبئة العرق. تسـتمر هذه العملية لمدة أربع سـاعات ينتج خلالها 6 ليتـرات من العرق الصافي.

خلال هذه العملية يتم اسـتبدال النار بشـكل دائم وتبريد السـائل بشـكل مسـتمر.. وهكذا دواليك حتى الانتهاء من تقطيـر كل الكميـة الموجودة في الدسـت الموضوع على النـار، حيـث يتم إفراغه ثم القيـام بالعملية مجدداً.

بالنسـبة لمـازن )23عاماً(، والذي يـدرس حالياً في الجامعة، تعتبـر الكلكـة طقسـاً احتفالياً كما يقول لرصيف22، إذ يجتمـع خـال هـذه العملية الأصدقاء و أفراد العائلات، فـي ليالـي الشـتاء، حيث يتحلقون حـول النار طلباً لدفئها، مصطحبيـن مأكولاتهـم المنزليـة من وجبات خفيفة كالبطاطا المشـوية أو البصل المشـوي، وطبعاً بعض المازات على شـرف تذوق أول إنتاج من عرق الموسـم. ويتجاذبون خلال تلك السـهرات التي تبدأ عند المسـاء وتنتهـي فـي سـاعات الفجر أطراف الحديث والضحك والأغنيات والرقص.

تتـم تعبئـة العـرق في أواني زجاجية خاصة، لها تسـميات شـعبية متعارف عليها. تختلف بحسـب الكمية المعبئة، فـ»النصّيـة» تحـوي ما مقـداره نصف ليتر، و»البطحة» تحـوي ربـع ليتـر فقط، أما «الألفية» فيرتفع اسـتيعابها إلى خمسـة لتيرات تقريباً. وأسـعارها تتراوح من 18 ألف ليرة سـورية أي ما يعادل 4 دولارات لليتر الواحد من العرق المسـحوب مرة واحدة بواسـطة الكلكة إلى 24 ألف ليرة سـورية أي ما يعادل 5 دولارات ونصف، من ليتر العرق «المثلّـث»، أي المسـحوب لثـاث مرات، ويتمتع بجودته العاليـة وطعمه الفريد.

«صبّت كاس، قالتلي تعا سـكار»

يرتبط شـرب العرق غالباَ، بالمناسـبا­ت الاحتفالية كالأعـراس، والجلسـات العائلية الخاصة. أو لقاءات الأصدقـاء للترفيـه وتعديـل المزاج، فالندماء هم من يملـؤون الكـؤوس لتخفيف هم الرؤوس المثقلة بمنغصـات العيـش، وهـم من يتبادلون الأنخاب في لمتهـم حـول صوبة الحطب التي تعمر ليالي الشـتاء.

ترافق تلك الجلسـات، المازات التي تختلف بحسـب المسـتوى المادي لأصحابها. لكن سـواء أكانت مائدة فقراء أم أغنياء لا يغيب الشـنكليش البلدي، وشـرحات البنـدورة والخيـار و»ربي يسـر» كما يقول أهل القرى.

يقول غانم )35 عاماً( لرصيف22 إن سـهرات العرق لا تكتمـل إلا بحضـور الغنـاء الشـعبي وآلة العود، إذ يتناوب الجميـع علـى غناء العتابـا والمواويل -وبغض النظر عن نشـاز بعـض الأصوات-، وتختلـف مواضيع الأغنيات بين الحـب والهجـر وفراق الأحبة والأهل، والتـي يحفظها الكبار والصغـار علـى حدٍ سـواء. ومنها مـا يتصل بموضوع العرق ذاته، مثل:

«جابتلي عرق... قالتلي تعا سـكار»

أو كاس العرق وا كاسـي فيك بينبض إحساسـي أن بعتـك عالمعدة شـو اللي جابك على راسي

أو طلبـت العرق جابتلي عرق تين وصرنـا منرقـص يا غالي ع رقتين بنات السـمر داخل ع رقتين وبنات الشـقر داخل ع التياب

وغالبـاً، بعـد كل مـوال عتابا تطرق أقداح العرق المكسـور بالمـاء بعضهـا ببعـض، حيث يردد الحاضرون عبارات كـ» كاسـك يا حبيب»، وإذا ما بلغت النشـوة ذروتها قد يصيح أحدهـم لأحـد ندمائـه قائلاً:» كاس ربك ع الصافي».

رغم أن الأغلبية من سـكان السـاحل لا يجدون حرجاً في شـرب العرق، إلا أن النظرة الرافضة لمظاهر السّـكر و فقدان الاتزان موجودة بقوة، فالـ»شـريب» المتمرس يعرف كيف يسـتمتع بطقس الشـرب لمعرفته بمقدار شـربه أو «رأسـه»، أي كم قدحاً يحتاج وصولاً إلى النشـوة دونما سُـكر. حيث يصف الجميع الشـخص الذي سـرعان ما يفقد توازنه بـ»الطشـي» أي الشـخص غير الجدير بالشـرب، وغالباً، ما يكون هؤلاء ممن يشـربون «عن قهر» أي نتيجة ظروف نفسـية صعبة يعيشـونها ويهربون مـن الوعـي إلى لا وعي العرق بغرض نسـيانها وتجاوزها ولو مؤقتاً.

اليانسون الشامي هو المفضل لدى صُناع العرق البلدي، بسبب نقائه، وخلوه من الشوائب، وبالطبع لإضفاء الحلاوة على طعم العرق

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Algeria