R22 ThisWeek

«كنُت من رّواد دور البغاء الّرسمي والسّري»... نجيب محفوظ وعالقته بالمرأة

- زيزي شوشة

تنطـوي العالقـة بيـن الرجل والمرأة- حتى وإن كانت تقليديـة- علـى تعقيٍد مـا، يتفاقم هذا التعقيد ويزداد حـدًة إذا كان أحـد الطرفيـن، مبدعـًا أو فنانًا، وُيصبح الوضع جحيميـًا- فـي بعض الحاالت- إذا كان االثنان ُيمارسـان األدب والفـن؛ فغالبـا ما ُتسـحق المرأة المبدعة، وتتوارى خلـف الرجـل -حتـى لو كانت أعلـى منه موهبة-، حين تجد نفسـها فـي مواجهة عنـف الذات الذكورية باإلضافة إلى نرجسـية الفنـان، ويزخر التاريـخ األدبي العربي والعالمي بمثـل هـذه الثنائيات، التـي كان الدمار الحياتي واألدبي فيهـا مـن نصيب المرأة المبدعة.

نـأى أديـب نوبل نجيب محفوظ بنفسـه عن كل هذه الصراعـات، والمناطـق الموتـرة والملتهبة، فحين أقدم علـى الـزواج بعـد فتـرة طويلة من العزوف عنه، اختار أن يتـزوج زواجـًا عمليـًا من سـيدة تقليدية هي «عطية الله»، بعـد أن رأى فيهـا مواصفات الزوجة المناسـبة التي سـُتخدم على مشـروعه اإلبداعي، بنفٍس راضية، دون أن «ُتنغـص عليـه حياته»، ودون أن تسـتنزف طاقته في مشـاكل أسـرية أو مناسـبات اجتماعية، كان محفوظ شديد النفـور منهـا. لكـن كيف كانت حيـاة نجيب محفوظ قبل الـزواج؟ باألحرى كيـف كانت عالقته بالمرأة؟

بجـرأة غيـر معهودة عـن محفوظ الذي عرف بتحفظه الشـديد، أجاب أديب نوبل عن هذا السـؤال للكاتب والناقـد رجـاء النقاش، الذي وثق حديـث محفوظ الحميمي إليـه فـي فصـل في كتابـه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، تحت عنوان «نسـاء في حياتي».

نظرة جنسـية بحتة للمرأة

قـال محفـوظ نصا: «في الفترة التي سـبقت زواجي عشـت حياة عربدة كاملة، كنُت من رواد دور البغاء الرسـمي والسـري، ومن رواد الصاالت والكابريها­ت، ومـن يرانـي فـي ذلـك الوقت ال يمكن أن يتصور أبدا أن شـخصا يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، وتسـتطيع أن تصفـه بأنـه حيـوان جنسـي، يمكن أن يعرف الحب أو الـزواج، كانـت نظرتـي للمرأة في ذلك الحين جنسـية بحته، ليـس فيهـا أي دور للعواطـف أو المشـاعر. ثم تطورت هذه النظـرة وأخـذت فـي االعتدال بعدما فكرت في الزواج واالستقرار».

قصـص الحـب كانت شـحيحة فـي حياة محفوظ، فهو لم يعـش سـوى قصـة حـب حقيقية واحدة طوال حياته، حين كان علـى أعتـاب مرحلة المراهقـة، قبلها كانت عالقته بالبنـات «ال تزيـد علـى مداعبـات تتجاوز الحد أحيانا»، وكانت هـذه التجـاوزات تصطدم باإلحسـاس الديني لديه، حتى أنـه كان يتوجـه بالتوبـة إلى اللـه يوميا، ويعيش في عذاب مسـتمر مـن تأنيـب الضميـر، حتى رأى حب حياته، وهي تطل من شـرفة بيتها بالعباسـية، ومحفوظ ابن الثالثة عشـرة من عمره، يلعب مع رفاقه كرة القدم.

تخلـص المراهـق الصغير من عـذاب الضمير، ليمزقه عذاب الحب من طرف واحد، فالفتاة ذات الوجه السـاحر الذي يشـبه لوحة «الجيوكندا»، كانت في العشـرين من عمرها، ولهذا كان ارتباطه بها مسـتحيال. يسـمي محفوظ حبـه لهـذه الفتـاة بـ الحب الصامـت»، فلم يجرؤ يوما على

محادثتهـا أو لفـت انتباههـا، مكتفيـًا منها بمجرد النظر، وكانـت متعتـه الكبـرى أن يجلـس بعد انتهاء مباراة الكرة قبيـل المغـرب، موجها نظره صوب شـرفة محبوبته، متأمـال وجهها الجميل.

اسـتمر هذا الحب الصامت لمدة عام كامل، إلى أن تزوجـت الفتـاة وودعت العباسـية، منتقلة إلى بيت زوجها، وكان حزن محفوظ شـديدا، ومضت األيام، ليخفت هذا الحـُّب وتنطفـئ نيرانه مع انشـغاله بالجامعة والوظيفة، لكنه اشـتعل مرة أخرى، حين قابل شـقيقة الفتاة بالصدفة فـي مصيـف رأس البـر، وظل هكـذا كالنار الهادئة في قلب محفوظ لألبد.

رؤيـة محفوظ للمـرأة مرت بمنعطفات كثيرة

يبـدو أن رؤيـة محفـوظ للمرأة، قد مـرت بمنعطفات كثيرة، تمامـًا كرؤيتـه للحيـاة، فقبل أن ُيصبح أديبًا مشـهورًا، كان ألديـب نوبـل رأيـًا معاديًا للمـرأة، منبثقًا من كونه، كما صرح فـي حـواره مع رجاء النقاش، «كان حيوانًا جنسـيًا»، ففي التاسـعة عشـرة من عمره، كتب محفوظ مقالة في مجلة «السياسـة» األسـبوعية (العدد 240 بتاريخ ‪)1930 /11 /10‬ تحـت عنـوان «المرأة والعمل فـي الوظائف الحكومية»، يطالـب فيهـا بتعليـم الفتاة المصرية، وفي الوقت نفسـه ينتقـد بشـدة عملهـا فـي الوظائف الحكومية، ألن ذلك من وجهة نظره، يتسـبب في زيادة البطالة بين الشـباب في مصـر فـي ذلك العهـد، كما يؤدي إلى انحالل األخالقيات فـي الدواويـن الحكومية، باإلضافة إلى تفكك األسـرة وانهيار األخالق.

ثمـة سـؤال يطـرح نفسـه هنا: هل هذا الـرأي لمحفوظ «الشـاب»، يمنحنـا الحـَّق في أن نـزج به في خانة الرجعييـن الذيـن ينظـرون إلـى المرأة كجسـٍد مغٍو، مهّدد لقيم األسـرة؟ أم إنه من األفضل أن نراعي السـياق التاريخـي واالجتماعـ­ي الـذي كتب فيـه محفوظ هذا الـرأي، بـل أن نراعـي المرحلة العمرية لمحفوظ نفسـه، ومـا تتسـم بـه مـن نـزق وتقلبات فكرية؟ ربمـا يجدر بنا أن نعتبـر هـذا الـرأي رأيًا متعصبًا من شـاٍب لـم ينضج بعد، ثـم نضعـه جانبـا، كشـيء غير نافـع، لندخل إلى عالم محفـوظ الروائـي، حيـث المرأة بحضورهـا الهائل، في قلـب هـذا العالـم المشـتعل بالحياة، بـل هي في أعمال كثيـرة، المركـز، التـي تدور حولها أحـداث العمل الروائي، وهـي أيضـا مـرآة عاكسـة لما تموج بـه مصر من تحوالت سياسـية شـكلت بدورهـا تحوالت اجتماعيـة، وخلقت كذلك صراعـات طبقية هائلة.

وقبـل أن نرصـد حضـور ووضعيـة المرأة في األدب المحفوظـي، علينـا أن نـرى كيـف كان حضـور المرأة في أدب مـا قبـل محفوظ األب المؤسـس للروايـة العربية الحديثة.

فـي كتابهـا «المـرأة في أدب نجيـب محفوظ»، تقول الدكتـورة فوزيـة العشـماوي إن المرأة قبـل نجيب محفوظ كانـت مصـورة فـي كّل اإلنتاج األدبي العربـي على أنها رمـز للجنـس، أو علـى أنهـا مخلوق جميـل يثير العواطف سـواء النبيلـة أو الخبيثـة، أي أن المـرأة كانـت دائما في اإلنتـاج األدبـي العربي مفعوًال بـه وليس فاعًال.

وتضيـف فوزيـة العشـماوي أن الروائيين العرب األوائل، حرصـوا علـى تفادي تقديم وتصوير المرأة المسـلمة في رواياتهـم حتـى ال تتعـارض مع التقاليد اإلسـالمية وال مع األخالقيـا­ت االجتماعيـ­ة السـائدة، ومن ثم كانوا يختارون دائمـا كبطلـة لرواياتهم امرأة مـن األقليات المتواجدة في المجتمـع المصـري مـن بين اليهوديات أو األرمنيات أو اليونانيـا­ت واإليطاليـ­ات، وكان أول روائـي عربي قد خرق هـذه القاعـدة هـو الدكتور محمد حسـين هيكل الذي قدم فـي روايتـه األولى «زينب» امرأتين مسـلمتين؛ األولى هـي «زينـب» وهي امرأة ريفية بسـيطة، والثانية «عزيزة» وتنتمي إلى الطبقة األرسـتقرا­طية.

وفي كتابها السـابق ذكره، والذي كان مشـروعها للحصول علـى الدكتـوراه، تناولـت الباحثة مظاهر تطور المرأة والمجتمـع المصـري مـن خالل اإلنتاج األدبي لنجيب محفـوظ، وتحديـدا رواياتـه التي أصدرها في الفترة من 1945 إلى ،1967 كما قامت بتحليل ثالث شـخصيات نسـائية، هن بطالت ثالث من رواياته: «نفيسـة» بطلة «بدايـة ونهايـة» ،)1949( و «نـور» بطلة «اللص والكالب» ،)1961( و»زهـرة» بطلة «ميرامار» .)1967(

نجيب محفوظ: «يف الفرتة اليت سبقت زواجي عشت حياة عربدة كاملة، كنت من رواد دور البغاء الرمسي والرسي... شخص تستطيع أن تصفه أبنه حيوان جنيس... كانت نظريت للرمأة يف ذلك الحني جنسية بحته»

مظاهـر تطور المـرأة والمجتمع المصري من خالل اإلنتـاج األدبي لنجيب محفوظ

أطلـق نجيـب محفوظ المرأة من أسـر البراويز المنمقة التي كانت تظهر فيها كشـيء يسـتخدم تارة من أجل الجنـس، وأخـرى من أجل الحـب. فهكذا كانت المرأة في الروايـات العربية مجرد شـيء ربمـا تجميلي في أفضل األحـوال. وبعـد أن انتزعها من هـذه المنطقة الباهتة والبائسـة، ألقـى بهـا في مرمى الصراعات، في أتون الحيـاة المصريـة، المشـتعلة أبدا، ففي روايته «القاهرة الجديـدة « ،)1945( وهـي أول رواياته االجتماعية الواقعية، كانت البطلة «إحسـان شـحاته» التي عاشـت

صراعـات وتمزقـات رهيبة بين التمسـك بحبهـا الفقير، والسـقوط مـن أجـل الرفاهية والثراء والصعـود الطبقي، بمثابـة مـرآة عاكسـة لمصـر الثالثينات الممزقـة، كما تقول الباحثة: «بين اسـتغالل الطبقة األرسـتقرا­طية الفاسـدة، وبيـن شـبابها الضائـع المنتشـر في الطبقة المتوسـطة، مغلوبـة علـى أمرهـا، ومضطـرة للخضوع للذين يسـتبيحون عرضهـا ويبيعونهـا بمعاهـدة أو (بعقـد مع الشـيطان) مماثـل للعقـد المبرم بيـن الثالوث الروائي: قاسـم بك/ إحسـان شـحاته/ محجوب عبد الدايم».

وبجوار «إحسـان شـحاته» تقف «حميدة» في «زقاق المـدق» التـي يعتبرهـا «محفـوظ» من أهم رواياته، شـاردة وهـي تتأمـل حياة الفقر والبـؤس في هذا الزقاق اللعيـن، طامحـة فـي الخـروج إلى الحيـاة المرفهة، فتقع بيـن براثـن أحـد القوادين، الذي يبيعهـا ألحد الجنود اإلنجليـز، وتـرى «فوزيـة العشـماوي» أن انحراف حميدة وسـقطتها األخالقيـة وخرقهـا للعرف السـائد، إنما يرمز إلـى األزمـة السياسـية واالقتصادي­ة التـي كانت ُتمزق مصـر فـي فتـرة ما بيـن الحربين العالميتيـ­ن، وتنضم إلى «إحسـان»، و»حميدة»، «نفيسـة» في «بداية ونهاية»، فالبطـالت الثـالث يجسـدن نفس األزمة التي عاشـت فيهـا مصـر فـي فتـرة ما بيـن الحربين العالميتيـ­ن، ويتبعن مخططـًا مشـابهًا للسـقوط األخالقـي، نتيجة للظروف المذلـة التـي عانـت منهـا مصر في الفترة المشـار إليها سـابقا (بين الحربين).

وتقـول الباحثـة إن نجيـب محفوظ قـد اهتم بهذه الشـخصيات النسـائية لنقـد الهيـكل التنظيمـي للمجتمع فـي ذلـك العهـد، وكذلك الفوارق الطبقيـة الرهيبة، مشـيرة إلـى أن ذلـك لـم يمنعه من االهتمـام بالعالقات األسـرية السـوية وبالشـخصيا­ت المصرية النموذجية، وبالعالقـة التقليديـة بيـن الرجل والمـرأة وبين الزوجين فـي المجتمـع المصـري الممـزق بين التقاليـد والمدنية الحديثـة وذلـك مـا يتجلى فـي «الثالثية»: «بين القصرين»، «قصر الشـوق»، و»السـكرية».

وفـي مرحلـة أخرى في أدب محفـوظ وتحديدًا عندما اتجه إلـى تيـار الرمزية» كانت النسـاء فـي رواياته بمثابة معالم فـي طريـق البطل/الرجـل، كل امرأة توجهه إلى طريق ما، في رحلة بحثه عن ذاته، وذلك ما تجسـد في روايات: «اللص والكالب»، «السـمان والخريف»، «الشـحاذ»، و»الطريق».

أما «المومس» التي ُتعد شـخصية أساسـية في معظم أعمـال محفـوظ الروائية، فكانت مهمتها تكمن في كشـف خفايـا البطـل، وإظهار المناطق المعتمة في نفسـه، وكذلـك تعقيداتـه النفسـية. وفي «ثرثرة فوق النيل» ُيقدم محفوظ نماذج نسـائية مغايرة، ُيجسـدن التطور المجتمعي في حقبة السـتينيات، فهن نسـاء متحررات متعلمـات، هاربـات من القمع والضغوط السياسـية التي كان يعيـش معظـم أهـل الفكر واألدب، يأتين إلى عوامة أحـد األصدقـاء، ليقصين السـهرة مع أصدقائهم من الرجال حتى مطلع الفجر، في شـرب الخمر والحشـيش، فيما تدور بينهم نقاشـات فلسـفية سـاخنة حول الحياة والموت والسياسة.

ومن بين الشـخصيات النسـائية المتعددة في رواياته، قال محفوظ للدكتورة فوزية العشـماوي ردا على سـؤالها: «هل هناك شـخصية نسـائية في إنتاجك األدبي تصور المـرأة كمـا ترونهـا؟ أنه يحب شـخصية زهرة (بطلة رواية «ميرامـار»)، «هـذه المـرأة الفالحة التي اعتمدت على نفسـها وسـلكت طريقها في المجتمع، وهي متسـلحة بالعلـم وبالثقـة بالنفس، وبالشـجاعة والمثابرة، والصالبة وقوة الشـخصية». وبالطبـع هذه اإلجابة «محفوظية» بامتيـاز، نابعـة من الجانب «المحافظ» و»الكالسـيكي» في شـخصية نجيب محفوظ، وليسـت من محفوظ الذي كمـا قـال هو «عشـت حياة عربـدة كاملة. وكنُت حيوانا جنسـيا». وربمـا نابعة مـن االثنين، فهذا الرجل واألديب االسـتثنائ­ي مـن الصعوبة وضـع رؤيته للمرأة كرجل ضمن الثنائية النسـوية «رجعي متخلف، وتقدمي مسـتنير»، فإن حدث ذلك، سيكون اختصارًا مخًال لهذه الروح الكبيرة.

 ?? ??
 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Algeria