Al-Akhbar

املرصيون أك شعوب الرض عشقا للصوت العاىل

-

نحن نـاس كلنا عواطف وتعاطف ولفرط حرارة عواطفنا ال جند ترجمة ملشاعرنا إال بالصوت العالى «أها وسامات واتفضل وألف مبروك وخطوة عزيزة»، فى العاطفة الراضية أو االنفعال الغاضب نعمد إلى رفع الصوت، وكلما كان الصوت أكثر ارتفاعاً شعرنا أن الترجمة أكثر صدقاً ملشاعرنا، حتى األعمال الشاقة التى نقوم بها البد أن نقرنها بالصوت العالى: «هيا هيا.. يا مهون هون»، ولسبب يتعلق باختفاء مبيد الذباب نقول للذباب «هش» مع أنه ال يسمع هش وال ينش، حتى الزوج يضطر أحياناً إلى الصراخ املتواصل دون أن تسمعه زوجته ألن املرأة ال تستعمل أذنيها إال لتعليق احللقان !

وبسبب الصوت العالى أصبحت بيوتنا با جدران فمن العسير عليك مثا فى أوروبا أن تعرف ما يدور فى مسكن اجلار املاصق لك، لكن زغـرودة تنطلق من بيت عبد العزيز فى أول الشارع الذى تسكن به تعرف على إثرها أن الشاهد الوحيد فى قضية رشوة عبدالعزيز قد مات متأثراً بركوب قطار تصادم مع قطارآخر، وتستطيع وأنت فى فراشك ساعة القيلولة ان تعرف أن عبد العزيز - ســادس جـار - قد اشترى سيارة، وبدأ يتدرب على أهم مرحلة فى قيادة السيارات فاشترى من وكالة البلح كاكس وراح يتعلم الضرب عليه فى شقته، وميكنك وأنت فى فراشك أن تتابع تطورات ماتش كورة دون تليفزيون فى الغرفة أو راديـو، فأجهزة تليفزيون اجليران تقوم وحدها بكل العمل ومنها تعرف اللحظة التى ظهرت فيها أعراض العبط على حكم املباراة، وتتابع صوت املعلق الرياضى وهو يصف الكرة وقد صدها حارس املرمي، وما تلبث أن تأسف لضعف نظر املعلق الرياضى الذى يقول: «دلوقت ح نعرف حاال اللى صدها دى كورة وال طوبة»، فإذا انتهت املباراة أتيح لك أن تقف على املناقشة احملتدمة فى بيت خامس جارعندما تسمعه وهو يحسم األمر بن أوالده فيقرر أن البلوزتن ملاجدة وقطعتى القماش لــعــايــ­دة، والـقـطـعـ­ة الـغـامـقـ­ة لـأم واخلاط ألخته خديجة والبنطلونا­ت والقمصان لنبيل، على ان ينتظر ابنه اآلخر لبكرة حتى يجد له بنطلونات وقمصان مقاسه، وهنا تسمع طلبات مابس جديدة من ماجدة وعايدة ونبيل فتشفق حقاً على هذا اجلار املسكن الذى يعمل موظفاً فى مخزن طرود املطار، والغريب أن الوافد على بلدنا ال ميكن أن يشعر بالوحدة أبدا فنحن معه دائما داخل مسكنه نؤنس وحدته بأصواتنا املترامية إليه من بيوتنا وشوارعنا، ومنهم اخلبير األملانى «الهر شموخلر» الذى كان يسكن العمارة معنا ذات يوم ففى اليوم التالى لسكنه طاف بشققنا مستأذنا فى إقامة حفل استقبال بشقته مستفسراً منا فى أدب عما إذا كان يزعج أحداً منا أن يستمر احلفل الـى احلادية عشرة مـسـاء؟.. شـوف الراجل اللى على نياته ! طبعاً قلنا له إنه يسعدنا أن يستمتع مبناسبته السعيدة فى أى

وقت يشاء فدهش اخلبير الشاب لهذه السماحة املصرية وشكرنا كثيراً وما إن انتهى احلفل فى بيته حتى دوت مكبرات الصوت فى فضاء املنطقة: «آلو آلو.. محات أفراح املدينة.. واحد .. اتنن.. ثاثة.. اربعة.. عشرة»، وبدأ الفرح السعيد بأغنية» العب يا سمك وارقص بحنان» وكـم أبـدعـت ولعلعت فيها األسـطـى «فايقة العايقة» ثم توالت الليالى واملواويل من املطرب الصاعد «أحمد بنجر» ومضت ساعات الليل وليلة األنس منصوبة.

وســمــعــ­ت «الـــهـــر شــمــوخــ­لــر» يــحــاول محادثة الـبـواب مستفسراً فى استنكار عن هـذه اجلرمية التعذيبية البشعة، فقلت له: إن هذه ليست جرمية يا سيدى ولكن من عاداتنا احلميدة أن نشارك بعضنا البعض فى األفـراح واملـآمت بالسماع امليكروفون­ى ثم ال حتـاول االستعانة بالشرطة فإننا هنا فى اجليزة وهذا الفرح خارج اختصاص شرطة اجليزة ألنه فى شبرا وهى بعيدة جداً، فسألنى الرجل التكنولوجى عن املسافة بن اجليزة وشبرا بالهليكوبت­ر فقلت له نصف الساعة - أى كام طبعاً - وهنا رفع حاجبيه فى دهشة ألن الصوت يصل فى دوى رهيب فشرحت له أن من شروط الزواج عندنا أن يتوافر فيه ركن العانية وأن يعرف كافة الناس فى اجلمهورية أن حسن قد تزوج نعيمة ولهذا يقيم أصحاب الفرح محطات لتقوية اإلرسال العواملى حتى يعرف الناس من اسكندرية ألسوان أن نعيمة أصبحت مدام حسن !

غير أن مـا أسعدنى حـقـاً املـفـاجـأ­ة التى صحوت عليها ألسمع «شموخلر» يغنى فى احلمام بصوت عال جداً وبالعربى: «فى يوم.. فى شخر.. فى سنة فى يوم فى شخر فى سنة»، وعرفت أنه قد تعلم األغنية من راديو اجليران وحمدت اهلل ان «شموخلر» أصبح واحدا منا ولم يعد مخلوقاً نشازاً بيننا وشرحت له أن ما يردده الباعة اجلائلون هو تعبيرات صوتية يتغزل بها البائع الذى يقلق راحته، فيتغزل فى البامية: «يا رفيعة وحلوة يا بامية»، ويقول للقوطة: «يا ورد يا خد اجلميل يا قوطة»، ويتغزل فى ثمرة اخليار: «يا خيار النيل يا صغير يا لوبيا»، وأدرك «شموخلر» فداحة اخلطأ الذى وقع فيه وأصبح يطرب طرباً شديداً عندما يعزف بائع البلح األمهات كونشرتو: «وال تن وال عنب زيك يا بير العسل»، وأصبح يغنى فى احلمام: «يا بير األسل.. يا بير األسل»، وعندما ذهب إلى أملانيا وطالت غيبته سألت عنه زوجته فقالت لى: إن حكما صدر عليه باحلبس إلقاق راحة جيرانه !

أحمد رجب من كتاب «كالم فارغ»

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt