Al-Akhbar

ذكريات ممنوعة !

- إيهاب احلضرى

أرشفة احلنني

تفرض التكنولوجي­ا ذكرياتنا علينا وفق معاييرها. كى أكون أكثر حتديدا، أنا أعنى «فيس بوك»، الذى اعتبرناه فى البداية فضاء افتراضيا، ثم احتل واقعنا تدريجيا، وأصبح أحد أهم مفرداته. يرافقنا فى كل األوقــات واألمـاكـن، حتى احلمام يزاحمنا فيه أحيانا! يعد علينا أنفاسنا بخوارزميات­ه، ونطلق فيه كلماتنا وصورنا وأفكارنا حتى صرنا أشباه عرايا أمام اآلخرين. املهم أن املوقع الشهير استحضر عددا من صورى التى نشرتها قبل سبع سنوات، خالل زيارتى لباريس. سألنى إن كنت أريد مشاركة الذكرى فرفضُت، كى أتفادى تعليقات من ال يُكلفون أنفسهم عناء قراءة الكلمات القليلة، ويسارعون بعد نظرة عابرة على الُصور، إلى ضخ تعليقات مبذاق «األكالشيها­ت»، تهنْى بالرحلة امليمونة كأنها ال تزال طازجة، رغم اإلشارة الواضحة إلى أن املنشور املعلب مستدعى من خزانة الذكريات. أطالع الصور وأستعيد حكايات ارتبطت بالرحلة، ورفـاق أبعدتهم املشاغل عنى أو أبعدتنى عنهم. على غير العادة لن أستسلم لنشوة القصص القدمية، وسأحرمكم من حكايات ُتّـدد طاقة الشجن بداخلكم، أو متنحكم هدنة ابتسام بني حشود املتاعب. وهكذا لن تعرفوا أبدا، تفاصيل مغامراتى الليلية فى احلى الالتيني، وال احملاولة الفاشلة لدخول صالة موالن روج الشهيرة، أو ما رصدتُه فى الشانزيليز­يه من مشاهد جّذابة وُمتناقضة، جمعْت بني عّشاق عاشوا فى الشوارع املُزدحمة ُخلوات غير شرعية، ومتسّولني متعددى اجلنسيات ال يختلفون عن أمثالهم فى بالدنا، سوى أنهم ال يفرضون «بالهم» على املارة باإلكراه واإلحلاح. لن أحكى رغم معرفتى أنكم مولعون باحلواديت. امتناعى ليس من قبيل شعور مفاجئ بالرغبة فى «الغالسة»، لكن ألننى اكتشفت أن املوقع الشهير يفرض علينا ذاكرة انتقائية. يتجاهل أحداثا ويختار أخرى، ويسلبنا حرية استدعاء ما نشعر باحلنني إليه. إنها محاولة مكشوفة لتدمير إرادتنا، ولن أقع فى الفخ نفسه كل مرة.

املشكلة احلقيقية من وجهة نظري، أن «فيس بوك» جعل ذكرياتنا قصيرة الُعْمر، ترتبط فقط بسّنه األحدث نسبيا، مقارنة بأعمار الكثيرين منا. إنه فتى عابث يلهو بحماقتنا وولعنا بالظهور، مما يجعلنا نكتفى باحلكايات املؤرشفة فى دهاليزه، بينما نهمل قصصا أخرى أكثر قدما ورمبا جماال، فضال عن أنها معايشات ال ترتبط بشهوة االنتشار وحصد نقرات اإلعجاب! حلم ليلة صيف

للمرة الثانية خالل شهر، تصلنى الرسالة نفسها. أعترف أنها جنحْت فى التالعبّ بأفكاري، بعد أن فشلت الُسلف الصغيرة فى مقاومة تبخر النقود، وأصبح احلصول على قرض كبير نسبيا أمـرا شبه مستحيل. أصبحت القروض احلسنة عملة صعبة، والقروض ذات الفوائد «عملة» سيئة! ويبدو أن مندوب «أمازون» يعرف كل ذلك. تسلمت منه رسالة على «واتـس آب»، يعرض على عمال مجزيا. مطلوب منى فقط أن أتفرغ ثلث ساعة يوميا، ألحصل فى املقابل على ثالثة آالف جنيه كل شهر، أى أن توفير ساعتني من وقتى الثمني سيعود علّى بدخل يقترب من 20 ألف جنيه. أخذُت أعد الكتاكيت قبل أن يفقس البيض، حتى أننى فكرت فى التفرغ الكامل كى أحصد مئات اآلالف فى عام واحد، مبا يكفل لى تقاعدا مناسبا مع اقتراب سن املعاش. لم يعرض الرجل تفاصيل عن العمل وال طبيعته، لكنه اكتفى باللعب على أوتار جيوبى الفارغة.

شعرت أن الدنيا ال تزال بخير، وأن هناك جهات دولية تُتابع نشاطى وتُـقـّدره، وترغب فى االستفادة من خبراتى غير احملدودة. وألننى عدو نفسي، بدأت أستدعى الشكوك، وأتساءل عن أسباب اختيارى دون غيرى من املاليني على مستوى العالم. إنها عملية نصب بالتأكيد، بدليل أننى قرأت الرسالة من اخلارج ولم أجرؤ على فتحها، كى أغلق الباب أمام أى رابط يجعل هاتفى مستباحا. الرقم الدولى لم مينح املرسل أية ضمانات تدعو للثقة به. بالعكس، معظم عمليات االختراق عابرة للحدود. نسيت األمـر حتى فوجئت اليوم برسالة شبه ُمستنسخة من األولى، غير أنها من رقم ُمختلف، إنه من الهند هذه املرة بعد أن كان األول من موناكو! ورمبا تعقبها رسائل أخرى من أماكن أخرى أنبهر مبجرد سماعى أسمائها، غير أننى لن أستسلم إلغوائها. لكن ال مانع من قراءة الرسائل كل فترة، ملُجّرد إنعاش ُقدرتى على اُحللم!

تكييف ُمع ّطل

مــع بــدايــة الـصـيـف، أعـلـن تكييف الـسـيـارة العصيان، واضطررت لرفع الراية البيضاء أمام احلر الشديد، بعد أن فشلْت كّل محاوالت اإلصالح ألسباب ال مجال لذكرها. لم يُعد التكييف رفاهية فى ظل أمراض ُمزمنة، وتغّيرات مناخية

فتحت علينا بوابات الشمس، حتى أن الشرق األوسط مهدد بارتفاع ُملتهب فى درجات احلـرارة، حسبما توقعْت دراسة قرأتها اليوم فى صحيفة يومية. وألننى ال أتقن فن االعتراف بالهزمية، فقد أقنعت نفسى أن العطل املستعصى على اإلصالح منحنى ميزة كنت أفتقدها، هى االرتباط باألخوة املواطنني!

منذ سنوات عزلنى التكييف عن الشارع. اعتدت تشغيله صيفا وشـتـاء كى أتـفـادى الصخب. ومـع انسياب أغنيات أحبها، أتـابـع مـا يجرى حولى مـن وراء حجاب زجاجي. أرصد تعبيرات الوجوه الغاضبة وحركات الشفاه التى تطلق السباب، نتيجة تذمر من الـزحـام أو املمارسات املرورية العشوائية، ثم أراقب املُتذّمرين وهم يرتكبون بعدها مباشرة حماقات مماثلة بسياراتهم. إنه طبعنا البشرى الذى يحلل لنا ما نُحّرمه على غيرنا.

عبر رحلتّي الصباح واملــســا­ء، ابتدعُت هـوايـة جديدة، تشغلنى عـن انـقـراض الـهـواء الـبـارد فـى الصيف احلــار. بدأُت أتنّصت على حوارات احمليطني. التنّصت ليس لفظا دقيقا. احلقيقة أن الكلمات هى التى تلقى نفسها فى أذني، فالكثيرون أدمنوا الصوت العالى حتى عند احلديث عن مسائل شديدة اخلصوصية. كى أكون دقيقا، البد من توضيح أن النبرات تكون أقل إثارة للضجيج فى فترة الصباح، عندما تخترق السيارة كوبرى أكتوبر فى طريقنا إلى مقر اجلريدة باإلسعاف. مساء ترتفع األصــوات، رمبا بفعل يوم صاخب يفرض إيقاعاته على اجلميع، أو ألن طريق العودة إلى املنزل مختلف. نسلك عادة شارع رمسيس، واملسافة من امليدان الشهير حتى منطقة غمرة تصلح أن تكون مْوضع دراسة فّنية ُملهمة! ما يجرى بها إحياء لشكل ُمنقرض هو مسرح السامر، الذى يقوم على التلقائية واالرتال. فى الواقع، ميكن إضافة

ُّ منط مسرحى آخر هو العبث! فقمة العبثية أن تتخذ احلركة نفس مواصفات السكون، بسبب انسداد فى شرايني غمرة، التى تشهد وقــوف سـيـارات امليكروباص واألوتـوبـ­يـسـات، اللتقاط راكــب واحــد، وتفرض على القادمني من اخللف وضع اجلمود االضطراري. تضاف إلى كل ما سبق حواديت العابرين، التى ميكن لراكب أية سيارة متابعة جانب كبير منها، حتى أنه قد يشعر بالضيق إذا حدثْت ُمعجزة وانفتح املسار أمامه، ألنه لن يستطيع استكمال تفاصيل احلكاية التى يتابعها فى سيارة مجاورة، أو على منت «موتوسيكل» يحمل عائلة كاملة. شخصيا، أدمنت االستماع لزوجة حتدث شريك حياتها بحدة وهى تشكو أفعال أمه، أو رجل يرتدى عباءة العارف وينصح صديقه بحل مشكلة أدركت بعض تفاصيلها خالل جيرة السيارات مؤقتا. القصص كثيرة، تنافس الدراما التليفزيون­ية، وأحيانا تتفوق عليها فى جرعة اخليال. حتى أننىفكر لهُاسم«حواديتمن

ُت فى تأليف كتاب، اخترُت وحى السكتة املرورية» كعنوان مؤقت.

اليوم، اخترقت أذنـى عبارة قالها راكـب دراجــة بخارية ملرافقه، ويبدو أنه يحاول إقناعه بأْمر ما. لم أستطع معرفته ألن الدراجة قفزت فجأة بحركة بهلوانية، واستطاعت العبور ببراعة من فجوة بالغة الضيق بني عدة سيارات، متحدية كل قوانني الفيزياء املعروفة. راقبتها وهى تبتعد ُمسرعة رغم أنف التكدس، وتالعبت العبارة بعقلى كأننى أسمعها ألول مرة: «طباخ السم بيدوقه»!

طباخ السم ال أعرف هل توجد أمثلة عربية يتشابه معناها مع هذا املثل املـصـرّي األصـيـل أم ال. سمعتُه مئات املـــرات طـوال حياتي، دون أن يستوقفنى معناه. لكن يبدو أن ثنائية احلر والزحام تعل العقل أكثر رغبة فى التفكير النقدي. مالذى يُجبر طّباخ السم على تذّوقه وهو يعلم أن طعامه ممزوج ببقايا غدره؟! ال سبب منطقيا يدفع اإلنسان إلى املخاطرة بحياته، وأعتقد أن املثل الشهير نتاج عصور شهدت استنزاف جهد الكادحني، فى سبيل ملء بطون طبقة األثرياء، دون أن يستفيد املُنتجون احلقيقيون مما زرعتْه أياديهم. هنا ظهر املثل الذى يُضفى شرعية على اختالس الُفتات. غير أنه من املؤكد أن السارق املضطر لن يلجأ لتذوق غنيمته الضئيلة لو احتوْت على سّم حقيقي.

مــّرات قليلة تــذّوق الطباخ سّمه، فى قصص تضّمنتها صفحات كتب التاريخ واحلكايات، عندما يكون شريكا فى مؤامرة على امللك كشفتها الصدفة، وهكذا يجبر احلاكم صانع طعامه على التهام ما أعده فيسقط صريعا. بعدها أحيلت الـصـدفـة للتقاعد، وأصـبـح األمـــر يتطلب اتخاذ إجراءات صارمة إلحباط املؤامرة فى مهدها. وظهرت وظيفة «اجلاشنكير» فى العصر اململوكي، ليقوم من يشغلها بتذوق طعام السلطان بهدف التأكد من أنه غير مسموم.

تنطلق السيارة بعد أن غـاب «املوتوسيكل» وراكـبـاه عن األنــظــا­ر. شـكـرت الـزحـام على منحى فرصة نقض املثل الشهير، وقررت أن أرسل برقية شكر لكل من ساهم فى عدم إصالح تكييف ُالسيارة!

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt