Al-Akhbar

حتة طباشير ..

- املصرى.. رئيس قسم اللغة اإلجنليزية آداب كفر الشيخ

ها قد جاء اليوم املنتظر، ظللت أراوغه لسنوات، أحب أن أتـرك األشياء على ما كانت عليه.. املاضى له وهج خــاص وكــل مـفـرداتـه أعتبرها كـنـوزا شخصية شهدت فصوال من حياتي، صاحبتنى وصاحبتها.. وكانت جزءا ال يتجزأ منى ومن صورتى فى أذهان من يعرفني..ممنوع االقتراب..دعى األشياء كما هي..

قلت فـى نفسى حـن وجــدت نفسى أمــام هـذا اجلـزء مــن خــزانــة املــالبــ­س، حـيـث تـسـكـن عـيـنـة مــن مالبسى القدمية التى كنت أرتديها منذ سنوات، احللل التونيكات، التيورات، البلوزات، اجلواكت، وغيرها. وقفت لبرهة وقد متلكنى شعور بالتهيب من ملس أو فحص بعضها، كمن يتهيب من فتح حقيبة مليئة باألسرار. أدركت منذ زمن بعيد أن أهمية األشياء ال تكمن فى قيمتها املادية، ولكن فى كونها مبثابة آلة الزمن، ذاكرة اجلسد والروح واأليام تتكلم عنك، تعود بك إلى ذكريات األمــس.. استجمعت بـعـض طـاقـتـى ومـــددت يــدى تلمس األشـــيــ­ـاء.. انـدسـت أصابعى تستعرض بخفة وسكينة .. تـرى هل ميكن أن أرتدى بعضا منها مرة أخرى؟ ..ال أظن.. بعدما امتدت يد الزمن وزيادة الوزن لتجعل حلم ارتدائها مستحيال.. تركت يدى وعينى يتجوالن ..دسست أصابعى أكثر ألجد فى أحد اجليوب حتة طباشير..ياااااه

عال وجهى ابتسامة وغمرنى حنن وتداعت ذكريات املــاضــي..فــى مهنة الـتـدريـس..الـطـبـاشـ­يـر اخـتـفـى من املـدرجـات ..األقـــالم والـداتـا شو وغيرها حلت محله.. ولكن حتة الطباشير لها عبق خاص ..ظللت أتفحصها.. أحـركـهـا بــن أنــامــلـ­ـي.. هممت أن ألـقـى بـهـا فــى سلة املهمالت..ولكن تريثت.. خشيت أن أضيع مفتاحا من مفاتيح الـذاكـرة وآلــة للزمن.. وفـى هــدوء أعدتها إلى اجليب، لتسكن فيه وتسكن معها ذكريات غالية ..

موعد مع..

تولد بعد يومن من وفاة أبيها متضى حياتها بدونه .. تشب وتكبر... لم تره ولم جتد من يذكرها به سوى أوراقه وما يرويه الناس عنه. ومتضى السنون وتكون على موعد مع مفاجأة غيرت عالقتها به إلى األبد؛ إنها األيرلندية أجنيلن، فقد أرسـل إليها أحـد األصـدقـاء رابطا لهيئة اإلذاعة البريطانية بى بى سى القسم األيرلندى كان يبث مقاطع صغيرة من تسجيالت فى أرشيفهم للهجات فى أيرلندا وكان مقطع منها بصوت أبيها الذى توفى منذ أكثر من أربعن عاما. ونوهت اإلذاعـة إلى أن مثل هذا األرشيف الصوتى قد مت إيداعه فى متحف فى أيرلندا وبـإمـكـان مـن يـرغـب االسـتـمـا­ع إلــى التسجيالت كاملة مراسلة املتحف. تلقفت أجنيلن نسخة من تسجيالت والدها وكانت لها مبثابة كنز ال يقدر بثمن.

أرخـت السمع لصوته وبـدأت تتسلل إليها مشاعر لم تعهدها من قبل، فعجائب الصوت البشرى ومـا يولده داخلنا من صور وعوالم وأصــوات وألــوان شكلت املداد والفرشاة واأللــوان لرسم صورته اجلديدة فى مخيلتها وتبدأ صفحة جديدة من عالقتها به.

فشكرا ملتحف الـكـالم األيـرلـنـ­دى وغـيـره مـن متاحف وأرشيفات الكالم فى العديد من دول العالم على تلك الهدايا النادرة العزيزة ليست فقط ألجنيلن وأمثالها، ولكنها للمجتمع ولغته وثقافته وتاريخه الشفوى .. هل ميكن أن يكون هناك متحف مماثل للكالم املصري؟ نأمل فى ذلك، ومن يدرى عزيزى القارئ فقد يكون أحفادنا وأحفاد أحفادنا على موعد مع أصواتنا وكالمنا ليعود بهم مثل عجلة الزمن إلى عقود ورمبا قرون خلت، إلى زماننا هذا ولغتنا هذه وحياتنا هذه وليرسم صورا من دم وحلم لنا ولعاملنا.

متحف الطهى

أذكر كيف كانت والدتى رحمة اهلل تعالى عليها تضيف البامية اجلافة إلى احلبوب أثناء الطحن كى تعزز طعم اخلبز الطيب .. وكيف كانت تصنع شعرية يدوية أو باستا بلغة هذه األيام تفوق اإلسباجتى فى الطعم. كما كانت تـؤجـر آلــة ضخمة مـن احلـديـد تسمى دوالب الشعرية لعمل خزين البيت منها، كان خزين الشعرية ميثل جزءا مهما من معاش البيت مثل خزين األرز والقمح والذرة.. تقوم بتجفيفها حتت أشعة الشمس ثم فى الفرن؛ كى حتفظ اخلـزيـن مـن الـسـوس الستخدامه مـن الـعـام إلى العام ..وكانت ربات البيوت يتسابقن فى استئجار هذا الـــدوالب فـى مـوسـم صنع الشعرية بعد حـصـاد القمح مباشرة. هذا الطقس اختفى من البيوت مثله مثل العديد من الوصفات واألكالت.. ولم يجد من يوثقه أو يحتفظ بأحد هذه الدواليب قبل اختفائها..

أتذكر أيضا طرق عجن الدقيق وما تتطلبه من جهد كبير فى «طب» ولت العجن برفعه إلى أعلى وفرده داخل اإلناء بطريقة جتعل الهواء يتخلله. كما ال ننسى األدعية والذكر املصاحب لعملية العجن واخلبز والتخزين ..

تـذكـرت ذلــك أثـنـاء مطالعتى خلبر فـريـد مـن نوعه. يقول اخلبر إن السلطات اإليطالية قررت إنشاء متحف للمطبخ اإليطالى يوثق وصفات الطهى وأدوات املطبخ عبر العصور.. ويهدف إلحياء األطباق التاريخية، مثل أول وصفة على اإلطـالق لصلصة الطماطم اإليطالية، من أواخر القرن السابع عشر.

أعجبتنى فكرة إنشاء متحف للطهى وفوجئت أثناء بحثى على اإلنترنت أن املتحف اإليطالى ليس األول من نوعه، إذ سبقت إليه بلدان أخرى لديها ولع بتراثها فى الطهى وتناول الطعام. منها تركيا والتى ميثل املطبخ التركى واحدا من عوامل اجلذب السياحى املهمة وأيضا حملبى الطبخ حــول الـعـالـم.. وهـنـاك عــدد مـن متاحف الطهى فى تركيا.. فى إسطنبول وغازى عنتاب وأنطاكية كما يقدم املتحف التركى دورات للطهى التقليدى..

املطبخ الفرنسى كــان أيضا لـه نصيب.. حيث أقيم متحف الطهى الفرنسى فى مدينة ليون منذ عدة سنوات ضم قوائم طعام ووصفات وأفالما، فضًال عن معروضات تفاعلية ميكن من خاللها أن يعرف الـــزوار املزيد عن أطباق الطعام حول العالم.

وفى العام املاضى مت افتتاح متحف الطهى الكورى فى مدينة أنصونغ مبقاطعة كيونغ كى بغية مساعدة احلاملن بالعمل فـى مجال الطهي. كما يقوم املتحف بتسجيل إجنازات الطهاة الذين ساهموا فى تقدم صناعة الطهى فى البالد.

وفى متحف الشوكوالتة فى كولونيا فى أملانيا تأخذك العروض باللغتن اإلجنليزية واألملانية فى رحلة إنتاج الشوكوالتة بدءا بأشجار الكاكاو احلية وصوال إلى إنتاج الشوكوالتة.

ومـن متاحف الطعام الشهيرة أيضا متحف املكرونة «النودلز» اليابانى حيث يوثق مراحل تطورها، ويعطى املتحف فرصة لزائريه بتجربة طهى املكرونة بأنفسهم واحلصول عليها فى نهاية جولتهم.

وتتيح عادات الطهى فى أى مجتمع لنا فرصة لقراءة تاريخه وتفصح لنا عن الكثير من العادات وطرق التفكير والظروف االقتصادية والسياسية وعالقة اإلنسان بالبيئة والكائنات فى زمن ومكان ما.

وعـادات الطهى واألكـالت املصرية مبا لها من عراقة وتنوع وتناغم مع البيئة وخصوصية تستحق أن جتد لها

متحفا يروى لألجيال كيف عاش املصريون عبر السنن ..

االستعمار طوعا..

فى محاولة لوقف الهجرة إلى أوروبــا، وتغافال للجراح والـنـدوب التى خلفها االستعمار األوروبـــ­ـي، واتساقا مع السياسات املضللة والقاسية والعنصرية للدول األوروبية التى حتاول غسل أيديها من ماضيها االستعمارى وما خلفه من كوارث إنسانية والتملص من مسئوليتها جتاه الالجئن وطالبى اللجوء، تفتق ذهن املفوض األملانى للشئون األفريقية جونتر نوكى عن حل أثار جدال واسعا مؤخرا. احلل املقترح ينطوى على وجوب قيام االحتاد األوروبي، أو هيئة مثل البنك الدولي، ببناء وإدارة مدن فى أفريقيا من أجل تعزيز خلق فرص العمل والتنمية فى القارة مما سيحسن حياة املواطنن وتوفير صحة وتعليم أفضل وستقدم منوذجا للحكم الفعال وتوفر نوعية حياة جيدة، مما مينع الناس من الهجرة.

وقـال السيد نوكى إن هذا سيعنى أن الــدول األفريقية ستسمح بتأجير جزء من أراضيها لهيئة أجنبية للسماح بالتنمية احلـرة ملدة 50 عاما، وأن املـدن ستعمل مبوجب مجموعة من القوانن املنفصلة عن البلد املضيف.

البعض رفض الفكرة معلال أن رائحة االستعمار تفوح منها، فيما حتمس البعض لها، واصفن إياها بأنها محاولة حقيقية لضمان استفادة األفارقة ودول العالم الثالث من جتربة مفيدة.

معارضو الفكرة يــرون أيضا أن املناطق االقتصادية اخلاصة لن تفيد سوى األغنياء، وستخلق مجتمعات مسورة مغلقة على أهلها تعيش فى ظل قواعد منفصلة عن بقية البالد.

إن االستعمار القدمي بوجهه السافر املتمثل فى غزو البالد واستغالل ثرواتها لم ولن ينتهي، وهناك أيضا االستعمار اجلديد وقد اتخذ أشكاال ناعمة للفتك بالدول ومبقدراتها مثل : العوملة واتفاقيات التجارة العاملية واإلنترنت ووسائل اإلعالم والتواصل االجتماعى والنزعة االستهالكي­ة وغيرها..

والسؤال اآلن ملاذا تصر الدول الكبرى على اللعب بنفس األوراق القدمية، وتصر بعض الدول على الوقوع فى ذات الفخ ويفتحون األبواب لالستعمار طوعا بدال من البحث عن حلول وطنية توائم املجتمعات وجتد فيها حاضنة تذود عنها ؟!!

أحفادنا على موعد مع أصواتنا وكالمنا ليعود بهم مثل عجلة الزمن إلى عقود ورمبـا قـرون خلت، إلى زماننا هذا ولغتنا هـذه وحياتنا هـذه وليرسم صـورا من دم وحلـم لنا ولعاملنا

تكتبها اليوم : د. ليلى الغلبان

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt