Al-Akhbar

أساتذتى العظماء.. إذ تسطع الذكرى النائية

- عالء عبد الوهاب aly-alaa2010@hotmail.com

من حق هؤالء أن أعترف بفضلهم على. كم كنت محظوظاً فى مشوارى التعليمى بحشد رائع من األساتذة العظماء، الذين جمعوا فى تكوينهم العلم واألخالق داخــل وعــاء إنسانى راق، جعلهم أهــًال لتخريج أجيال من املواطنني املنتمني، أزعم أننى كنت أحدهم.

واحلقيقة أنه كلما تقدم بي العمر ارتقى تقديرى لكل من علمنى حرفاً، وأدركت أكثر حجم الدور الذى لعبه أساتذتى فى املراحل املبكرة من العمر، تعليماً وتربية، فلم يكونوا مهمومني فقط بالتلقني أو التحفيظ، وإمنا وبقدر كبير إكسابنا سلوكيات مفيدة، وحتفيزناعل­ى ممارسة أنشطة متنوعة، وإضافة خبرات جديدة، كلها توسع مداركنا، ومن ثم فهمنا للحياة خارج املدرسة.

كان املعلم ـ آنـذاك ـ وأحتـدث هنا عن النصف الثانى من ستينيات القرن املاضى، وحتى منتصف سبعينياته، يدرك متـامـاً خـطـورة مسئوليته، وأنـــه على نحو مـا أحــد صناع املستقبل، باعتباره معنى بالعملية التربوية والتعليمية كمدخل أساسى للمستقبل، عبر مساهمته فى بناء النشء، وإطالق ملكاته، وليس حتويله ملاكينة لالستقبال، ثم ترديد ما يسمعه فى احلصة، أو يقرأه فى الكتاب املقرر، وكفى.

ال أبالغ فى شهادتى، وال يعنى ذلك أنه لم يكن بني معلمى هذا الزمن املدرس التقليدى على املستوى التعليمى، لكنه يظل تربوياً رفيع املستوى، باستثناءات ضئيلة.

فى جيلى كانت املدرسة منذ احلضانة وحتى املرحلة الثانوية عاملاً له سحر خاص، نتعلم فيه، ومنارس هواياتنا املختلفة، وثمة التزام أخالقى يحكم العالقة بني املعلم واملتعلم، وأيضا ثمة تواصل وتفاهم ببساطة واحترام يسودان املناخ املدرسى.

أساتذتى رحـم اهلل أغلبهم، ومتع من ما زال حياً يرزق بالصحة والعافية، كانوا دائماً مصدر عطاء، يبرعون فى دفع تالميذهم، أو أبنائهم نحو حب املعرفة.

شهادة تـأخـرت، رمبـا تسربت بعض معانيها فى سطور سطرتها من قبل، لكن كلمات قرأتها للدكتور رضا حجازى وزير التعليم اجلديد، وهو فى األصل مدرس أمسك بالطباشير، جعلت الذكريات تتدافع، وتفرض نفسها على قلمى.

النوايا وحدها ال تكفى

د.رضا بدأ مشواره املهنى مدرساً، ورمبا كان من حسن حظ املعلم والتلميذ ـ على السواء ـ أن يتولى مسئولية التعليم فى هذه اللحظة املفصلية، ألنه صاحب مشوار قطع خالله العديد من احملطات التى المست العملية التعليمية عن قرب، من ثم فإنه

جاء «من حتت السالح»، ومن أهل االختصاص، ولعله فى هذا التوقيت األنسب، واألقدر على إنهاء أو على األقل، احلد من الفصام بني الفكر التربوى، والهيكل التعليمى الذى دفع ثمنه باهظاً املدرس والتلميذ، وخصم من رصيد املدرسة.

د.رضا قال فى تصريحات منشورة إنه ال تطوير للتعليم، دون االرتقاء بأداء املعلم، واالهتمام بكرامته وهيبته. بالطبع، الكالم جميل وموزون. وألننى أشــارك الوزير أحالمه، وأمتنى أن تتحقق لينعم أحفادى وجيلهم بتعليم متميز، لذا أدعو د.رضا إلى تبنى دعوة حلوار سريع وواسـع، يجمع األطـراف املعنية بنجاح العملية التعليمية، هدفه بلورة رؤية قابلة للتطبيق، وامتالك آلياتها واإلمكانات التى تضمن تفعيلها وجناحها.

املهمة ليست بالهينة وال اليسيرة، لكن من يرنو للنجاح احلقيقى، ال يتوانى عن ركوب الصعاب.

وال أشك فى صدق النوايا، لكنها وحدها ال تكفى.

معلمكم على صورتكم

فى وطن عظيم مثل مصر، ال يتصور قارئ جيد لتاريخه أن أى توجه لتطوير أى من مناحى احلياة يبدأ من الصغر.

ثمة تــراث ثـرى منتلكه فى كافة املـجـاالت، والتعليم فى املقدمة، فثمة جتارب ناجحة كان خطها البيانى يؤشر لصعود ال ينكره إال جاحد أو جاهل.. أنتمى إلى جيل كان محظوظاً مبدرسته، كما أشرت فى مقدمة حديثى.

وحتى ال يكون احلديث عاماً ومرسًال، أظن أن استدعاء جتربتى يحمل فى طياته، شهادة حية على ما ذهبت إليه.

منذ كنت فى اخلامسة عند التحاقى باحلضانة، وحتى حصولى على الثانوية العامة، كانت املدرسة بيتى الثانى، وكان املعلم أو املعلمة أباً أو أماً، أخاً أو أختاً.

وبتعبير شيخ التربية احلديثة د. حامد عمار ـ رحمه اهلل ـ كان املدرس أو املدرسة، القوة احملركة الدافعة للجسم التعليمى.

أدرك األمر على هذا النحو بأثر رجعى، وبعد تراكم سنوات العمر وخبراته، وما توالى على املرء من خالل متابعة جتربة األبناء ثم األحفاد، ومقارنة بقصد أحياناً، ودونه أحياناً أخرى، بني ما كان يجرى باألمس البعيد، واحلادث اليوم.

«كما تكونوا يكون تعليمكم» تقرع ذاكرتى تلك اجلملة، التى كان يـروق للدكتور عمار أن يرددها، ثم أدخـل عليها تعديًال طفيفاً: معلمكم على صورتكم، سواء أولياء األمور أو التالميذ.

وقتما اجتزت للمرة األولى عتبة املدرسة «احلضانة»، ثم توالت خطواتى من االبتدائى مروراً باإلعدادى، وصوال للثانوى، ظل عالقاً بالذاكرة عطر معلمني ومعلمات يأتى وصفهم بالعظمة، من قبيل تصديق الواقع ال املبالغة أو املجاملة.

الفيض رمبا حتول فيضانا

لم يدر بخلدى اجترار بعض من ذكرياتى عن املراحل املبكرة فى حياتى، لكن ما أقدم عليه هنا قد يكون مفيداً فى سياق اللحظة، فرمبا يحمل دروساً يستخلصها من شاء.

كانت بداية تعرفى على املدرسة بالتحاقى باحلضانة، هناك كان اللقاء بأبلة إحسان، سيدة غاية فى الطيبة، ترتدى تايير باللون األسود، غير أن البشاشة ال تفارقها رغم حزن حتمله قسمات وجهها! تعهدتنا بتعليم األبجدية، وكلمات من ثالثة أو أربعة حروف، ثم كتابة أسمائنا، باإلضافة إلى األرقام، ثم عمليات جمع وطرح بسيطة، وكانت حريصة على أن يشعر كل تلميذ أنه محل عنايتها اخلاصة ووفقت فى ذلك إلى حد بعيد، ولم نعرف فضلها إال عندما انتقلنا إلى املرحلة االبتدائية، فكان من تتلمذ على يديها متميزاً، بخالف من لم مير باحلضانة.

فى احلضانة ـ أيضاً ـ تعلمنا النظام عبر طابور الصباح، وحتية العلم، وترديد نشيد بالدى بالدى. اآلن تفتقر مدارس كثيرة إلى فناء يتسع لطابور! فى مدرسة عمر بن اخلطاب االبتدائية، كنا نفاخر بالتحاقنا بأكبر وأفضل مدرسة فى املدينة، بأساتذتها الذين يجمعون بني سمعة ومهابة، وعلم يظلل صيتهم.

ال أنسى األستاذ سيد عليوة ـ رحمه اهلل ـ الذى كان أول من تنبأ لى ـ أو بشرنى ـ بأننى سوف أكون موفقاً فى اختيارى للصحافة كمهنة، وأنا حينذاك ابن العاشرة! كان يدرس لنا اللغة العربية والدين واملواد االجتماعية، والحظ أننى ال أتقن احلفظ النصى، لكنى أملك القدرة على التعبير بدقة عن املعنى الذى يتضمنه النص، وكان األمر سبباً حلزنى، إال أنه خفف عنى، مؤكداً أن ما حبانى به اهلل يستوجب الشكر وال يستدعى الغضب، فهل يحظى أحفادى مبثل هذا األستاذ؟!

عندما انتقلت إلى «ميت غمر اإلعدادية بنني»، لم أملك إال االنبهار باملبنى الذى شيد على شكل حرف «يو»، يشتمل مزرعة صغيرة يرعاها األستاذ عبد الكرمي مدرس التربية الـزراعـيـ­ة، الــذى يحرص على اصطحابنا للمزرعة فى حصته، كما كان ذات احلرص من جانب األستاذ محمد فرج عيد مدرس التربية املوسيقية، أن تكون حصته فى

غرفة املوسيقى التى تضم ما يكفى لعازفى أوركسترا صغير .

ثم كان مسك اخلتام فى «ميت غمر الثانوية بنني»، أساتذة يشار إليهم بالبنان فى شوارع املدينة، علم وخلق ووقار، األستاذ الهريسى مدرس أول اللغة االجنليزية شخصيته كاريزمية أهلته ألن يكون رائداً الحتاد الطلبة حني كنت رئيسه، األستاذ الرملى مدرس األحياء، واألستاذ صالح غريب مدرس الفيزياء، كالهما عارضنى فى االلتحاق بالقسم األدبى، لوجودى بفصل املتفوقني فى الصف األول، وال أنسى األستاذ عبد الفتاح مصطفى مـدرس املــواد الفلسفية الـذى درس لى «التربية الوطنية»، لكنه كان يشارك زميليه حماسهما ألن التحق بالقسم العلمى، ومتزقت ورقة الرغبات بيننا، عندما تبني له أننى مصر على التسجيل بالقسم األدبى، وتدور األيام، ونلتقى صدفة بعد أن بدأت مشوارى املهنى، ليعترف بأننى كنت على صواب، وأننى حني أكتب يذكر لتالميذه واقعة «متزق الورقة» حتى صاروا يحفظونها من كثرة ما رددها! الذاكرة حتمل فيضاً، رمبا حتول فيضاناً لو أطلقت له العنان. كنت وجيلى ـ بالفعل ـ نحظى بأساتذة عظماء، كانوا يجمعون بني علم نافع غزير، يجعل التلميذ يحب املعرفة قبل أن يبحث عن النجاح فى االمتحان، ثم كانوا فى سلوكهم ميثلون القدوة عبر االلتزام بالقيم كضرورة حياة.

القدوة.. ودرس التواضع

أستطيع القول إن معظم أساتذتى كانوا يتمتعون بالتواضع اجلم، وحني كان أحدنا يقول ألستاذه: انت قدوتى، يرد بالشكر والرفض فى آن معاً! واللطيف أن يكشف لنا عن قدوته.

األستاذ عبد الفتاح القلش مدرس أول العلوم فى اإلعدادى، يؤكد أن قدوته د.مشرفة الذى كان يلقب بأينشتني العرب.. األستاذ موسى زراع مدرس أول العربى فى الثانوى كان يفخر بأن د.طه حسني قدوته، وينصح من يبحث منا عن قدوة أن يتبنى توجهه.

األستاذ على الشيخ الذى كان مديراً ملدرستى اإلعدادية ثم الثانوية كان يعلن دائماً أن أحمد شوقى قدوته دون منازع.

و....و.... وهذه مجرد أمثلة، تشير إلى تواضع أساتذة ذلك الزمان رغم عظمتهم، وكان ذلك بحد ذاته درساً لتالميذهم مهما بلغوا من تفوق، أو أى من إمــارات التميز أن يتحلوا بالتواضع، من ثم بقوا يحتلون فى القلوب مكانة بارزة، ويسكنون الذاكرة بجدارة، حتى يكتب اهلل لنا اللقاء.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt