النصر اخلالد

حتل علينا بعد أيــام قليلة ذكــرى نصر أكتوبر الــــ94، وأنــا لم أشــارك فى احلرب ولست من أبطالها الذين نفخر بهم جميعا، ولكنى حضرتها وعشت أيامها وشاهد على تطور األوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية فى مصر على مر السنني، أنا من اجليل الذى شهد على الصراع العربى اإلسرائيلى، ورفض االحتالل وسار فى املظاهرات ضد الكيان الصهيونى وضد كل اعتداء فى القدس أو غيرها من ربوع وطننا الكبير، ال أصدق أن كل تلك السنوات مرت بعد احلرب ألنى أتذكر تفاصيل احلياة كما لو كانت حاضرة اآلن، أحكى ألبنائى وأحفادى عن أحداث متثل املاضى بالنسبة لى ولكنها التاريخ بالنسبة لهم.

من املفارقات املضحكة أننى كلما مـررت مبدينة جديدة مثل 6 أكتوبر والعبور والـعـاشـر مـن رمـضـان و٥1 مـايـو، أتـذكـر أن كـل تلك املـــدن لـم يكن لها أثــر قبل 49 عاما، وإنها نشأت جميعا بعد احلــرب وسميت على اسمها أو أسماء مشتقة من أحداث مرتبطة بها، وأتذكر أحفادى وهم يعيش - للمصادفة - أحدهم فى 6 أكتوبر واآلخــرون فى العبور، وأحـرص على إخبارهم بتفاصيل احلياة فى زمنى، والنصر اخلـالـد الــذى حققناه فـى حـرب أكتوبر، وأن كـل تلك املــدن اجلـديـدة كانت مجرد صحراء جرداء، وأن النصر لم يتوقف فقط على هزمية احملتل الصهيونى فى أرض املعركة، ولكنه متثل فى القدرة على البناء فى الوطن على مدار سنوات.

لدى أحفاد ولدوا فى املدن اجلديدة، ويصعب عليهم أن يصدقوا أنه منذ بضع سنوات كانت منازلهم مجرد جبال وسط الصحراء، وأن حركة بناء الوطن كانت ومازالت مستمرة على مدار السنوات لنصل ملا وصلنا إليه اآلن، ونحن على وشك افتتاح عاصمة إداريـــة جـديـدة تغير خـارطـة احلـيـاة اإلداريـــة فـى مصر، باإلضافة حلركة إعمار داخلية فى قلب العاصمة.

لوال نصر أكتوبر ألصبح حالنا مثل حال فلسطني احلبيبة، سيكون العدو هو املتحكم فى مستقبل وطننا، لم نكن لنعرف معنى احلرية وبناء الوطن، وسيكون مستقبل شبابنا محبطا ويائسا، سيستحل قتلة األطفال دماءهم، وبالطبع كانت املنطقة العربية بأكملها ستتأثر باألوضاع السياسية فى مصر، ال أود أن أتخيل حتى شكل احلياة إذا لم ننتصر فى تلك احلرب.

كما أتـصـور أن النصر لـم يقتصر على احلـــرب، بـل ميتد ملـا بعدها، لتلك املـدن املمتدة على قدر عظمة احلدث، وأتصور أن هذا اإلجناز فى بناء الوطن بعد سلسلة من الصراعات قادر على حتويل مصر بأكملها إلى وطن عامر، سنظل نبكى وتقشعر أبداننا كلما حلت ذكــرى حـرب أكتوبر، وال أظـن األجيال املقبلة ستفعل، ولكنهم بالتأكيد سيكونون فخورين بها، وسيعيشون فى تتابعاتها، وهذه هى سنة احلياة، فنحن نعيش منذ آالف السنوات على فخرنا بحضارة صنعها جدودنا الفراعنة، صحيح إننا لم نحضر بناء الهرم ولكننا نعرف قيمته، لذلك أمتنى أن تظل األجيال التى لم حتضر احلرب تقدرها وتعرف قيمتها وتأثيرها املمتد فى حاضرهم.