أ ج الدن يكتب عن دالالت القيادة والزعامة عند ج عبد النارص

مرت علينا أمس الذكرى 52 لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر، الكبار ال يرحلون سوى باجلسد ويبقى منهم الفكرة والرمز والقدوة والتاريخ النضالى ضد قوى الظلم واالستبداد والطغيان واألستعمار، يبقى منهم ما تركته ايديهم على األرض من منجزات، وهم فى كل األحــوال ليسوا أنبياء معصومني من اخلطأ أمنا هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكل منهم جتربة يقيمها الـتـاريـخ، ولـهـذا سيظل عبد الناصر شخصية قيادية رائدة مناضلة وطنية لها ما لها وعليها ما عليه فى حكم التاريخ، واليوم ونحن نحيى ذكرى رحيله نقدم لقراء «كنوز» مقاال للكاتب الكبير أحمد بهاء الدين يقول فيه :

من النادر جداً فى عالم السياسة أن يحدث مثل هذا التركيز املطلق على شخص قائد، كالتركيز الذى هو حادث اليوم على شخص عبد الناصر.. الشرق األوسط، منطقة هامة وحساسة ال ميكن أن تغفلها أى قـوة كبرى من حسابها. وكـل قـوة من القوى حتمل فى مخيلتها «خــريــطــة» تتمناها لـهـذا الـشـرق األوسط، وتعمل على حتقيقها.

وعبد الناصر، يقف كحجر العثرة فى طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة هكذا كان منذ سبعة عشر عاماً، وال يزال.. القوى الدولية املتصارعة والكتل السياسية هنا وهناك..

فرنسا يـومـاً واجنلترا يـومـاً آخـر وأمريكا يوماً ثالثاً وإسرائيل كل يوم ومتعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها.. واملشكلة هى زعامة عبد الناصر ذلك أننا إذا أردنا فى حقيقة األمر أن نلخص دور عبد الناصر إلى أقصى درجات التلخيص، وأن نلخص املوجة التى دفعها والتى حملته فى نفس الوقت لقلنا: إن معركته هى معركة من يريد أن تكون «اإلرادة» فى املنطقة العربية إرادة عربية والقول فى مستقبل العرب للعرب.. ضد الذين يريدون أن تكون اخليوط احملركة فى املنطقة مربوطة فى النهاية إلى أيد غير عربية وإرادات غير عربية..

هـــذا هـــو مــغــزى زعـــامـــة عــبــد الــنــاصــر. وهـذا هو مغزى االرتـبـاط العميق بينه وبني اجلماهير العربية. هذا االرتباط الذى حتاول إسرائيل أن تدمره بغارات الطائرات!

عبد الناصر يعترض طريق اجلميع.. جميع الغرباء عن املنطقة.. ولهذا تفكر إسرائيل والذين وراءها والذين هم معها بقلوبهم أنهم

لو كسروا هذه احلجرة، لو كسروا هذه القيادة ونفوذها.. فإنهم يتوقعون أن تتشتت املنطقة وأن تزيغ األبصار فيها زمناً طويًال.. كل يتلفت حوله باحثاً عن مـالذ عن مخرج عن مظلة واقية.. ومن يحاول الصمود مبفرده فسيكون ضعيفاً، معزوال، سرعان ما يحاط به.. وعلى العكس فهم يــرون أن مجرد استمرار عبد الناصر رافعاً الراية يشد العزائم وينفث روح املقاومة والرفض فى أكثر من قطر عربى ولو دون مبادرة منه.. كاملقاتلني الذين يلمحون فى دخان املعركة وترابها واضطرابها رايتهم

وهى ال تزال مرفوعة فيتشجعون ويلتحقون بالصفوف. وجود عبد الناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به ويحجر بالتالى على حرية الذين يريدون أن يلعبوا فى املنطقة. والقوى الكثيرة التى تريد أن تتخلص منه تريد أن تسترد حرية اللعب وأن تضع كل منها قواعد اللعبة التى تناسبها وهـى حرية ال يتمتعون بها فى وجـود قيادة عبد الناصر وما متثله لدى اجلماهير العربية. وقيادة عبد الناصر تعترض طريق اجلميع، جميع الـغـربـاء عن املنطقة. قيادة عبد الناصر حتمى اجلميع، الـــذيـــن هـــم مـــن املــنــطــقــة. وأعـــــرف سـاسـة ورسميني وأفــراداً عاديني فى أقطار عربية شـتـى.. ليسوا مـن امللتقني مـع أفـكـار عبد الناصر ولم يكونوا دائماً من الواقفني معه.. ولكنهم حتى هم فى ساعات الظالم واخلطر والــغــمــوض يــجــدون أن وجـــود زعــامــة عبد الناصر فى املنطقة تعنى لهم شيئاً، تعنى عدم القفز إلى املجهول.. ويقول لى مسؤول فى ركن قصى صغير من أركـان العالم العربي: األجنبى حني يتعامل معنا يحسب اآلن حساب أننا من األمة العربية وهذا أوجده ناصر.

الدرجة املوجودة من عدم التنسيق العربى ومن الترهل العربى ومن التناقض العربى ومن عدم تنبه كافة األعصاب احلساسة فى اجلسد العربى يجب أن نعترف بها.. ولكن يبقى أن ثمة شيئاً يضع حداً أدنى لهذا ويحول دون أن يتحول عدم التنسيق واالشتغال باملعارك اجلانبية إلى فوضى شاملة وتسيب كامل فتنقض الذئاب املنتظرة على القطيع املبعثر املشتت واحـداً واحــداً.. وهذا الشيء هو قيادة عبد الناصر أنه يحمل على كتفيه.. كل هذا. حتى من يتدلل ومن يتلهى ومن يجد ترف االنشغال مبعارك جانبية يعرف أن وجود قيادة عبد الناصر فى خط املواجهة هو الذى يسمح له بهذا الترف.. وإال أدركه الطوفان. حتى من يتمتع بترف آخر هـو تــرف املــزايــدة دون أن ينكشف أو يقدم احلـسـاب.. يعرف أن املـيـزان موجود يغطيه بوجود غيره فى خط املواجهة بوجود قيادة عبد الناصر.. وهذا كله يثير األعـداء ويدمر عقولهم. يثيرهم أن ترتبط «اللعبة» فى املنطقة كلها به وهو منتصر.. ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو غير منتصر.. ذلك أنهم يرون املغزى هنا أعمق واالرتباط أقوى.. وهم ال يتمنون إال أن تدب الفوضى ويعم التسيب فتنقض الذئاب الغريبة عن املنطقة العربية على القطيع املبعثر تلتهمه واحـــداً واحـــداً .. ومــاذا نقول اليوم؟ .. نقول شيئاً واحــداً: إن هذا الـدور البد أن ميأل وال ميكن أن متأله إال مصر كلها ألن فى استمرار هذا الـدور حياتها وحياة كل العالم العربي. وهذه حقاً كما قال عبد الناصر فى أحــزن سـاعـات حياته، ليست ساعة احلـزن ولكنها ساعة العمل.

أحمد بهاء الدين «روزاليوسف»- أكتوبر 1970

◼ الزعيم الراحل جمال عبدالناصر

◼ الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين