Al-Akhbar

مع البلكونة والشيش.. الحياة أجمل

- محمد درويش m_darwish30@yahoo.com

من منا ـ خاصة أبناء جيلى ـ ال يتذكر ساعة العصارى واجللسة فى البلكونة التى كانت وكأنها معلقة على حائط الصالة أو الغرفة، ال يحدها من جهاتها الثالث األخرى جدار أو حديد يخنقها، كان اجللوس فيها يعنى أنك غادرت املنزل إلى «قعدة» على املقهى، دون أن تتكبد ثمن املشاريب. بإمكانك أيضاً أن تغادر وتعود بعد قليل فتجد مائدتك كما هى وكرسيك لم يشغله أحد.

ونخرج من البلكونة لنقوم بجولة عبر أزمنة مختلفة وأماكن متعددة ومتنوعة لنتعرف من خاللها على العمارة البيئية التى كانت تتناسب مع مناخ مصر فى عصر يستحق أن نطلق عليه عصر التنوير فى كل مناحى حياتنا إلى أن وصلنا إلى عصر العمارة األوروبـيـ­ة الدخيلة والواجهات الزجاجية والتكييف املركزى، حتى لو كان املبنى يطل على نهر النيل.!

املبنى القدمي نبدأ جولتنا داخل مبنى دار أخبار اليوم القدمي، املبنى الذى صممه املعمارى الكبير «سيد كرمي»، وهو أشبه بشكل أسطوانى ذى فراغ بعمق دائرته، كان يكفى أن تفتح نافذة املكتب «الكريتال» حتى لو كنت فى شهر أغسطس، لتفاجأ بتيار من الـهـواء املنعش الــذى يتسبب فى طيران الـورق «الدشت» الذى نستخدمه فى كتابة األخبار واملوضوعات، وفى الشتاء يكفى إغالق النافذة ليشع الدفء فى املكاتب التى حتتل مواقعها فى دائرة ذات تصميم عبقرى ال حتتاج معه إلى مراوح، ليست تكييفات حتتل مكاتبه حالياً.

العباسية القدمية وأخواتها جولة سريعة إلى البنايات القدمية فى القاهرة اخلديوية، مـروراً بجاردن سيتى وشارع قصر العينى، وتدلف بعدها إلى الزمالك ثم العباسية القدمية إلى مصر اجلديدة وقبلها حدائق القبة وحى الزيتون. تأمل طول النوافذ الذى يقارب ثالثة أمتار، تفتحها شتاء بضع ساعات، لتجدد لك الهواء وتبعدك عن تياراته، وتفتحها صيفاً على مدار اليوم، لتنام فى جو منعش نفتقده فى هذا الزمن.

وصــف «تـــراس» هـو وصــف للبلكونة الـتـى تقترب من مساحة غرفة فى املبانى احلديثة واجللوس فيها مع األسرة أو حتى الضيوف. ال حاجة معها لالشتراك فى ناد واألعباء املالية التى نتكبدها، خاصة لكبار السن الذين تقل حركتهم ومييلون إلى االستسالم للهدوء فى «التراس اجلميل» بعيداً عن صخب األندية وضجيجها.

.. وأوالدها وأحفادها وإذا كان هذا هو حال العباسية القدمية وأخواتها، فماذا عن حال العباسية اجلديدة وأحفادها؟.. واألحفاد هنا هى عمارات امتداد رمسيس، نظرة على ما حدث فى نوافذها وبلكوناتها جتعلنا نتحسر على ما وصلنا إليه من عشوائية.. هناك مـن رفـع الشيش الــذى يفتح إلـى اخلـــارج ودرفتى الزجاج اللتني تفتحان إلى الداخل، ولم يكتف بذلك، بل قام بتكسير احلوائط وضم البلكونة إلى الغرفة وإحاطتها باأللوميتا­ل والستائر من جوانبها، دون أن يدرك أن الشيش والدرف الزجاجية هى ابتكار معمارى مصرى بعد انتهاء عصر املشربيات «وشنكلة» الشيش فى عز القيلولة، كانت تعنى جــواً رطـبـاً وحـــرارة معتدلة أقــل بكثير مـن حــرارة الشارع، ناهيك عن القبح الذى تسببه للعني تلك العشوائية.

على كورنيش النيل ال أتصور مبنى يقام على كورنيش النيل، سواء كان فندقاً أو عقاراً سكنياً أو إدارياً ويتم تصميمه بالتكييف املركزى والـنـوافـ­ذ الزجاجية املصمتة وواجـهـاتـ­ه مـن األلوميتال والزجاج. قد يكون هذا مناسباً لدولة مثل اجنلترا التى يطلق على عاصمتها لندن «مدينة الضباب»، حيث يحتاج املرء هناك زجاجاً بعرض حائط الغرفة ليدخل أكبر قدر من اإلضاءة الطبيعية. أما فى بلدنا بلد الشمس، فما معنى وجود حائط زجاجى وخلفه الستائر والتكييف املركزى؟!.. إذا تذكرنا فندق شبرد على كورنيش النيل أو «أولد كتاركت» فى أسوان، ألدركنا معنى العمارة التى تتناسب مع البيئة، وكيف نستمتع بجمال طقس بلدنا ونيله العظيم.

فى سلطنة عمان فى منتصف الثمانينات من القرن املاضى، كنت أعمل ضمن كوكبة من صحفيى دار أخبار اليوم فى جريدة عمان احلكومية، حني انقطعت الكهرباء عن العاصمة مسقط قبل منتصف الليل بقليل، االنقطاع فى حدث نادر شمل أحياء العاصمة بالكامل ولم يكن هناك مفر من نزول الناس إلى الشارع ـ مواطنني ومقيمني ـ ظللنا ألكثر من ساعتني حتى مت إصالح العطل وعادت الكهرباء. كان اجللوس فى منزل خرسانى ذى جـدران زجاجية مستحيًال مع تعطل أجهزة التكييف، وألننى كنت فى قسم التحقيقات الصحفية، فقد طـرأ تساؤل فى ذهنى: كيف كانت احلياة فى العاصمة قبل النهضة التى قادها السلطان الراحل قابوس فى ٣٢ يوليو ٠٧٩١ قبل أن تعرف عمان العمارة احلديثة وأجهزة التكييف؟!. توجهت بسؤالى إلى وزير البلديات آنذاك أحمد عبد اهلل الغزالى، فقال إنه لم يكن ينام فى فصلى الصيف واخلريف إال على سطح منزله فى الوالية التى ينتمى إليها ـ أى احملافظة ـ وكــان اسمها «صــور»، وهــذا هو نفس ما فعله عندما انقطعت الكهرباء فى مسقط، حيث صعد إلى سطح املنزل، وآثر هو وأفراد أسرته اجللوس فيه حتى عودة الكهرباء. وقدم لى الوزير صوراً للمنازل العمانية القدمية، خاصة فى منطقة مطرح، توضح كيف كان العمانى يبنى بيته بحيث تتخلله املساقط املختلفة التى مير فيها الهواء والنسيم العليل، للتغلب على الطقس احلار والتعايش معه، مؤكداً أننا ومنذ تخلينا عن هذه العمارة البيئية النابعة من ذهـن وفكر املـواطـن، وحلت محلها العمارة احلديثة، كان مشهد خروج سكان مسقط إلى الشوارع هرباً من جحيم اجلدران التى انقطعت عنها الكهرباء.

حسن فتحى املهندس العظيم حسن فتحى، أحد رواد العمارة البيئية، أثـبـت لنا أن كـل مـا هـو طبيعى ال ميكن أبـــداً مقارنته بالصناعى، استخدم احلجارة فى بناء املنازل، وصمم فيها القباب، وتـرك فراغات «مساقط» ملـرور الهواء املنعش. الطبيعة هى األصــل، بداية من التحذير من شـرب املاء املثلج والعودة إلى استخدام الزير والقلل القناوى، مروراً باملالبس القطنية اخلالصة بدال من البوليستر واملعاجلة كيميائياً. وال أنسى مشهداً مبحل أزياء فى إكسفورد أشهر الشوارع التجارية فى لندن، والذى علق فى ڤاترينته بعضاً من القمصان الرجالى والبلوزات احلرميى وحتتها جوال يظهر منه القطن األبيض الشاهق دون كلمة واحدة، وكأنها رسالة تقول إن ما هو معروض مصنوع من الكتان والقطن املعبأ فى هذا اجلوال.

ويبقى األمل فى خضم كتابة هذه اليوميات وفى حلظات استرخاء من عناء الكتابة طالعت موقع التواصل االجتماعى «فيس بـوك» على ناشط يدعى أحمد على وجدته يعرض حتت عنوان أجمل جامع فى مصر وهو مسجد قرية «باصونة» مركز املـراغـة بسوهاج، الــذى مضى على بنائه عشرون عاما من تصميم املعمارى وليد عرفة، اهتم بتصميم كل تفصيلة فى املسجد بداية من القبة املميزة التى شكلها من الطوب وليس لها مثيل فى أى مسجد آخر، واملئذنة امللوية التى استوحى تصميمها من شكل حرف األلف فى اخلط املنسوخ، وصمم احملراب من حجر األلباستر املنفذ للضوء وحفر على كل حجر اسما من األسماء احلسنى، اعتمد أيضا على اإلضاءة والتهوية الطبيعية ال يحتاج نهارا إلى إنارة صناعية أو تكييفات غير باقى التفاصيل فى الكتلة اخلارجية حتى أصبح املسجد متميزا فى عمارته املستوحاة من البيئة.

هذا منوذج يثبت لنا أن كوادرنا تتواجد فى مجال العمارة البيئية كما تتواجد فى كل مجال آخر، املهم أن تتاح لها الفرصة وأن يسند إليها ما يناسبنا وكفانا عمارة وتصاميم بعيدة كل البعد عن مناخنا واحتياجاتن­ا البيئية التى ابتدعها األقدمون ومتسكوا بها وتخلى عنها األحدثون.

ورمبا كان سببا فى كتابة هذه اليوميات ما ذكرتنى به صفحة حتقيقات اجلمعة بجريدة األهـــرام فـى عددها األخـيـر ٣٢ سبتمبر وهــى الصفحة الـتـى تـشـرف عليها الزميلة عال عامر التحقيق كان للزميلة سهير عبداحلميد بعنوان «البحث عن بلكونة».

تـذكـرت مـا كتبته فـى أحـد مقاالتى يناير ٥١٠٢ حتت عنوان «البلكونة راحت فني»، وأيضا فى نافذتى سبتمبر عن العام املاضى عن البلكونة ودورها الفائت فى حياتنا.

تبني لى من التحقيق الصحفى الرائع أن عدم وجود البلكونة وبشكلها القدمي يرجع إلى مخالفة شروط التراخيص وقيام املالك باستقطاع املساحة املخصصة فى الرسم الهندسى أو قيام صاحب الشقة بضمها إلى الغرفة، وبالطبع ال أحد يراجع مدى االلتزام بالتراخيص كما ال يرحبون بااللتزام بالردود حتى أنك جتد الفراغات بني عمارات شوارع مدينة نصر ال تتعدى بضعة مترات مما يجعل اجلميع مغلقا نوافذه طـوال األربـع والعشرين ساعة ولو فتحها حلظات لكشف كل جار كل خبايا الشقة املقابلة له، وعلى عكس العقارات التى تبنيها الدولة فهى تتميز عن القطاع اخلاص مبراعاة الفراغات املطلوبة بني العمارات ودخــول إضــاءة طبيعية وتهوية مطلوبة وفرصة للشمس أن تسطع داخـل الغرف وال أدرى ملاذا التكرم الدولة مطورى القطاع اخلاص باتباع أسلوبها فى البناء بدال من العشوائيات التى صارت سائدة عندما استبدلنا القبح باجلمال.

ال أتــصــور مـبـنـى يــقــام عـلـى كــورنــيـ­ـش الــنــيــ­ل، ســــواء كـــان فـنـدقـًا أو عـــقـــارًا سـكـنـيـًا أو إداريـــــ­ـًا ويــتــم تصميمه بالتكييف املــركــز­ى والـنـوافـ­ذ الزجاجية املصمتة وواجـهـاتـ­ه مـن األلـومـيـ­تـال والـزجـاج

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt