مرص ال صنعته
اآلن.. قـــــد أســـتـــطـــيـــع أن أمـــســـك مــشــاعــرى ألكــتــب عــنــه، فـلـقـد قضيت أيـــــامـــــا بـــعـــد الــــرحــــيــــل، ال أســتــطــيــع أن أصــــــدق، وأيــــامــــا أخـــــرى تــلــتــهــا، ال أستطيع أن أتـصـور، حتى استرجعت نفسى من أثر الصدمة.
أتـذكـر مـا كنت أقـــول دائــمــا، عندما كان بيننا: «إنه بكل عظمته لم يصنع مـصـر، ولـكـن مصر بكل عظمتها هى التى صنعته، ولـو ولـد فـى غير مصر ملــا ظــهــر، ولـــو ظـهـر فــى غـيـر مـصـر ملا استطاع».
دوره البطولى كله جـزء من قدرها التاريخى.
إن الــــبــــطــــل ظــــــاهــــــرة مــــؤقــــتــــة فــى الـتـاريـخ، ويـجـب أن يـكـون كـذلـك، ألن األصل واألسـاس الباقى واخلالد، هو الشعب.
وأن يكون دور البطل ظاهرة مؤقتة فى التاريخ، فذلك ال يعنى أنه فلتة أو صدفة، وإمنـا البطل فى األمـة احلية ظاهرة طبيعية، وإن لم تكن كظواهر الشروق والغروب، تتكرر كل يوم.
إن البطل إنسان تتسع همته آلمال أمــتــه وهـــى فــى فــتــرة خـطـر تستودعه كـــــل ســـــرهـــــا، وتـــعـــطـــيـــه كـــــل طـــاقـــتـــهـــا، لـكـى يـتـقـدم بـاسـمـهـا، ويــواجــه ويـزيـح ويــقــتــحــم، وهــــى بــعــد اخلـــطـــر تـسـتـرد سرها، وتأخذ طاقتها؛ ألن مسيرتها أصــبــحــت بـــالـــضـــرورة أعــــرض مـــن دور البطل.
كـان البطل فى التاريخ جسر عبور ألمته.
مــــن الـــقـــلـــق إلـــــى الـــشـــجـــاعـــة.. مـن احلـــيـــرة إلــــى الـــتـــقـــدم.. ممـــا كــــان إلــى ما يجب أن يكون أو فى اجتاهه على األقل.
ولقد يقال إنه كانت فى دور جمال عبد الناصر بقية.
كنا نتمنى على اهلل أن يتركه بيننا، حــتــى يــقــود زحـــف الــتــحــريــر، ويـشـهـد يومه.
كنا نتمنى ذلك لنا وله، على األقل ليرى النتيجة التى عمل من أجلها، حتى آخــر خفقة فـى القلب، ويعيش الفرحة التى قاسى من أجلها، وعانى، وتعذب. لكن مشيئة اهلل فوق كل األمنيات. ثـــم نــتــذكــر أن جــمــال عــبــد الـنـاصـر أدى، فى احلقيقة، كل دوره أو معظمه.
وعندما نسأل أنفسنا: ما هو الدور الذى حققه عبد الناصر؟
فـــإنـــنـــا يـــجـــب أن نـــســـتـــشـــرف أفـــقـــا واسعًا، ذلك أن املعركة التى نخوضها اآلن، أزمـــــة ســــوف متــــر، وحـــدتـــهـــا فى وجداننا جتـىء من أننا مازلنا فيها، لكنها سوف متضى، كما مضت قبلها األزمــــــــــات فـــــى تـــــاريـــــخ األمم احلـــيـــة، ودور جـــمـــال عـــبـــد الـــنـــاصـــر- عــنــدمــا نستشرف األفــق األوســـع - بتجاوزها فى احلقيقة.
إن هــــنــــاك إجنــــــازيــــــن بــــــارزيــــــن فــى دورعـــــبـــــد الــــنــــاصــــر، مــــن وجــــهــــة نـظـر احلركة العامة للتاريخ:
أولـــهـــمـــا: أنـــــه وصـــــل مـــصـــر بـأمـتـهـا العربية.
وثانيهما: أنــه وصــل أمـتـه العربية بالعالم وبالعصر.
هـــذا.. بكل بساطة هـو دوره، وحتته تـنـدرج كـل التفاصيل، وتتعدد معارك حربه التى لم تتوقف يوما قبل رحيله، وال أظنها سوف تتوقف بعد الرحيل. إن التاريخ فوق مشاعر األفراد. وعـــــجـــــزى - بــــعــــد الــــرحــــيــــل - عــن التصديق، وعــن الـتـصـور، لـم يكن إال شعور فرد عرفه عن قرب. ومن هنا أحبه فى عمق. ولـــقـــد كـــــان شــــعــــورى غـــريـــبـــا خـــال ساعات الرحيل احلزينة. مـن مقال «ملحمة الصراع مع األلم»