Al-Akhbar

وكاد بطل المالكمة يصفعنى فى الطابور!

-

.. يقولون إن التعليم فى الصغر كالنقش على احلجر، وكذلك ذكريات الطفولة وشرخ الشباب األول منقوشة بل منحوتة فى نفس صاحبها حلوها ومريرها، طريفها وقاسيها، خاصة إذا ارتبطت تلك الذكريات بحالوة جناح أو مرارة فشل، ويخطئ مـن يزعم أنــه ينسى مـــرارة فشله بعد أن ينجح، ففى ظنى أن من ينسى مرارة الفشل لن ينجح فى أن ينجح، ففيها جرس مستمر لتعديل املسار والتمسك بالطريق السليم.

وفى مدرستى العلوية اإلعـداديـ­ة الثانوية بقريتى نكال العنب، تعددت ذكرياتى مع األستاذ محمود اخلياط مدرس اللغة العربية عبر عامني دراسيني عشتهما طوًل وعرًضا كما يقولون فى التعبير الـدارج، فقد أكسبتنى لهجتى القاهرية لونا من الفضول من زمالئى ذوى اللكنة الريفية البحراوية احملببة. وكنت مـحـول مـن إحــدى مـــدارس القاهرة قبلها بعامني ألعيش بدار العائلة مع جدى وجدتى وأعمامى وأبناء عمومتى.

كان األستاذ محمود اخلياط مشرفا على إذاعة املدرسة ويعد برنامجا حافًال لإلذاعة صباح كل يوم يعتبر مثل فترة صباحية إذاعية مصغرة، تستعرض أهم العناوين السياسية املهمة من تــالوة قرآنية ثم استعراض ملوهبة طالب فى إلقاء الشعر، لكن أبـرز ما كان يعده ونتابعه فى الطابور برنامج أسبوعى يدخل فى إطار التذوق الفنى اسمه «صباح اخلير يا علوية» وكان يقدمه األستاذ عبدالسالم دبوس، رحمه اهلل، وهو سليل أسرة دبوس الشهيرة والعريقة والتى يتربى أبناؤها على قدر من األرستقراط­ية، كان األستاذ عبدالسالم مدرسا للغة اإلجنليزية وكان يتمتع فى تدريسه لها بنطق يختلف عن بقية مدرسى املادة يتوافق ومستوى تعليمه. كان مريًضا بالسكر لكنه كان محًبا للحياة محفًزا غيره على أل يحزن أو يكتئب، رغم أن ظروفه املرضية كانت حتتاج أن يلتمس تلك الروح لدى اآلخرين، لكنه كان مينحها لآلخرين.

ولكم أن تتخيلوا مدرسة إعدادية فى قرية ريفية يتلقى الطالب فى طابور صباحها فقرة للتذوق الفنى أسبوعيا بتلك الفقرة املميزة. كـان، رحمه اهلل، يتناول عمًال فنيا غنائيا بالتحليل الفنى ملوسيقاه وكلماته وأحلانه وأدائـه سواء كان املؤدى مطربا أو مطربة. ول أنسى تناوله ألغنية «مداح القمر» لعبداحلليم حافظ وكانت كلماته بالتحديد: «لقد بلغ عبداحلليم حافظ مستوى الكمال الفنى فى هذه األغنية حلنا وكلمات وأداء».. لقد أراد األستاذ عبدالسالم دبوس، رحمه اهلل، أن يرتقى بذائقة تالميذه أبناء قريته ويـكـّون لديهم مقياًسا مبكًرا لـتـذوق جماليات األعمال الفنية. رحم اهلل ذلك اإلنسان النبيل األستاذ عبد السالم دبوس. اجلمعة:

صباح اخلير يا علوية أما البرنامج األسبوعى الثانى الذى كانت إذاعة مدرستى العلوية تقدمه فكان فكرة مميزة جًدا تقوم أسبوعًيا على استضافة شخصية من املدرسة فى لقاء على الهواء مباشرة بالتدرج، ابتداء من فراش املدرسة اخلدوم اخللوق شحاتة عيسى والفراشة العمة صفية زغلول، مرورا بطاقم التدريس وصول إلى ناظر املدرسة األستاذ إبراهيم شبل سالم، وكانت املفاجأة ذات صباح أن قال لى األستاذ محمود اخلياط: جهز نفسك بكرة حتكون ضيف اإلذاعـة الصبح وحتجاوب على األسئلة قدام زمايلك. قلت له أنا يا أستاذ طب ليه؟ فقال لى: أول باعتبارك أول املدرسة وأمني احتاد الطالب وبعدين وهو األهم حتكى لزمايلك الفرق بني الريف والبندر فى احلياة وفى الدراسة..

وقضيت ليلتى ل أنا نائم ول أنا مستيقظ، صحيح أننى أعرف الكثيرين من زمالئى وقريب منهم فى الدراسة أو فى اللعب ونحن نكاد ل مير يوم علينا دون أن نلعب معا باملدرسة أو باملجمع وملعبه الكبير، لكن املوقف بالنسبة لى كان مثيرا للقلق واخلوف.

وصباح اخلميس كان املوعد مع اللقاء، وصباح اخلميس زمان فى القرية كان له سمت خاص، حيث كانت العادات والتقاليد تشهد توافد كثير من النساء إلى املقابر، وبحكم املوقع اجلغرافى كانت النسوة ميررن باملدرسة فى طريقهن إلى شرق البلدة، حيث تقبع مقابر القرية مبا فيها من عظام وبقايا جثث موتى القرية، كانت عادة مستقرة تهب بقتامة مشهدها وتتقاطر الذاهبات ملؤانسة أمواتهن فى واجب حتمى موروث، مبن فيهن حديثات احلزن على موت قريب أو ممتدات األشجان على عزيز طال أوان فقده، وتتمازج األحزان بقرب األحباء مع أحاديث العيشة واللى عايشينها ول مانع من طرفة باسمة وسط الشكاوى احلزينة والصغار

يلهون بني طرقات املقابر، فى انتظار نهاية جلسات الرغى األسبوعية بني أمهاتهم حتى يحني احلني ويأزف أوان العودة للدور فى تقاطر يغلفه الـسـواد، ونحن نتابع من فصولنا ذهابهن وعودتهن ونطلق عليه مسمى «القطر األسود». السبت:

الكبير كبير كان حوش املدرسة مستطيًال بعض الشىء، وكان الطابور ميأل احلـوش لكثرة عدد الفصول نسبًيا قياًسا إلى كونها مدرسة ريفية، فقد كان بها أكثر من ثالثني فصًال قبل أن تفتتح بها فصول الثانوى، وكان الطابور يديره مدرس األلعاب األسـتـاذ عبداملنعم منصور، رحمه اهلل، وهـو بطل سابق للمالكمة، ورغم كبر سنه ـ آنئذ ـ إل أنه كان صاحب لياقة بدنية ورشاقة عالية مع امتشاق قوامه واعتدال هامته.

وبـــدأت األسئلة بسؤالى عـن حكمة أومــن بها وأخذنى بعض من التباهى والستعراض وأنا أذكر حكمة إجنليزية تقول كلماتها وهى تعنى استغل الفرصة فى وقتها، وما كدت أقولها حتى ارتفعت كفا األستاذ عبداملنعم بالتصفيق لتتبعه املدرسة كلها قبل أن أتبعها أنا بحكمة عربية خليجية كنت طالعتها لتوى فى مجلة «العربى» وتقول كلماتها: ل تستهون الرأى اجلزيل من الرجل احلقير فإن الـدرة ل يستهان بها لهوان غائصها. وارتفعت أكف زمالئى بالتصفيق تصديقا لبداية األستاذ عبداملنعم باإلعجاب. وسئلت عن الفرق بني العيش بالريف والعيش باملدينة، فأجبت أن حياة الريف أكدت لى قيمة العمل واملشاركة وأن من ل يعمل ل يستحق أن يأكل.. وسيل من التصفيق. وسؤال عن الفرق بني مدارس الريف ومدارس القاهرة كسلبيات وإيجابيات، فبدأت باإليجابيا­ت وقلت إن مـــدارس الـريـف فيها األلـفـة أكثر وأعـلـى بحكم التعارف وصالت القربى واملصاهرة بني الناس، وإن حضرة الناظر بالقرية غيره باملدينة فهو أقرب للطالب وكذلك طاقم املدرسني الذين هم أغلبهم من أهل القرية.. وأتبعتنى يدا األستاذ بسيل من التصفيق استتبع سيًال طويًال من تصفيق زمالئى وبينهم أبناء عمومتى املباشرين وأبـنـاء عمومتى بالتبعية من الفروع األخرى للعائلة وكان منهم باملدرسة ما ل يقل عن عشرين على األقـــل.. حتى إذا فـرغ التصفيق كان السؤال استكمال لسابقه عن السلبيات التى لحظتها

مبدرسة القرية اإلعـداديـ­ة النشاط الرياضى!

وكما كانت كفا األستاذ عبداملنعم سباقتني فى التصفيق لى كان امتعاضه وغضبه وثورته رد فعل فورًيا عالًيا من خلف امليكروفون، فقد كانت إجابتى أشبه برصاصة موجهة له، وملس مقدم البرنامج أن إجابتى املقتضبة لن تكون كافية دون توضيح فسألنى: ماذا تعنى بضعف النشاط الرياضى؟ فقلت له إن السنة التى قضيتها باملدرسة اإلعدادية بالقاهرة كانت مليئة بالنشاط ودورى كرة القدم واأللعاب املختلفة وهو ما ينقص املدرسة العلوية.

وانتهى البرنامج بالتصفيق لـى مـن زمـالئـى والوعيد من مـدرس األلعاب ـ بطل املالكمة السابق ـ الـذى قال لى باحلرف: بعد كل السنني دى ييجى تلميذ فسل زيك ويعدل عليا، واستنجدت مرة أخرى باألستاذ محمود اخلياط مقدم البرنامج ليوفر لى احلماية من كف األستاذ الغليظة التى كادت تهوى لول هرولة األستاذ اخلياط وتدخله وهو يقول: ياأستاذ عبداملنعم لو سمحت اسمع منه األول، وحال وجود الناظر األستاذ إبراهيم شبل دون صفعة قاسية على وجهى، وقال لى األستاذ اخلياط: اشرح وجهة نظرك لألستاذ عبد املنعم. فقلت له إن األدوات موجودة تقريبا لكل األلعاب وهناك ملعب إضافى لكرة القدم ميكن استغالله للسلة والطائرة وهنا ترابيزة التنس والشبك واملضارب والكرات ولكن ل يتمتع بها إل املدرسون وقليل من الطلبة املقربني، ولو مت ترتيب دورى للراغبني فى تلك األلعاب لشترك اجلميع واستفادوا.. وفى صبيحة اليوم الدراسى التالى وكان يوم سبت، كانت اإلذاعة املدرسية حتمل لى مفاجأة أشبه بنجاح حملة صحفية فى تغيير وضع خاطئ؛ فقد فوجئت باألستاذ عبداملنعم بعد نداء صفا وانتباه ميسك بامليكروفو­ن وينادى اسمى ألقف وسط الطابور متاما وهو يقول: زميلكم سعيد اخلولى نبهنى إلى شىء فى صميم عملى وهو تفعيل النشاط الرياضى باملدرسة وابتداء من األسبوع القادم إن شاء اهلل هناك دورى فصول فى القدم والسلة والطائرة والبنج بوجن.. وطلب منهم أن يصفقوا لى ليرتفع التصفيق ومعه دقات قلبى فرحا وخجًال فى آن واحد، ويضرب لى األستاذ الكبير مثًال فى معنى أن يكون اإلنسان كبيرا مبعنى الكلمة وكان فى ذلك بداية لنشاط رياضى حافل باملدرسة..

وكـان اجلـواب مقتضبا: ضعف

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt