Al Masry Al Youm

الدراما وتزييف التاريخ

- * عادل درويش نقلً عن الشرق الأوسط * معلّق سياسى مصرى، ومراسل فى برلمان ويستمنستر وداوننج ستريت، ومؤرخ متخصص فى السياسة الشرق أوسطية.

الدورة الخامسة من مسلسل «التاج»، الذى بدأت شبكة «نتفليكس» بثها الأربعاء، تتناول أحداث بريطانيا فى عهد الملكة إليزابيث الثانية ١9٢6) - (،٢٠٢٢ والتركيز على فترة رئاستها للدولة والكومونول­ث ‪(،٢٠٢٢ -١95٢)‬ أثارت استهجان ساسة ومؤرخين وصحفيين، لتزييفها التاريخ، وتلفيقها مواقف وأحداثا كنا شهودًا عليها. كما نسبت أفعالًا وأقوالًا لشخصيات، بعضها فارق الحياة، كأميرة ويلز ديانا )١96١ - ١997(، ودوق إدنبرة الأمير فيليب ١9٢١) - (،٢٠٢١ وآخرين أحياء، كانوا شهودًا على الأحداث، وحضروا مواقف يعرضها العمل، كشفوا ادعاء كتّاب السيناريو على الأموات. من بين من كذّبوا كتاب السيناريو رؤساء حكومات سابقون كتونى بلير ‪،)٢٠٠7 -١997)‬ وجون ميجور ١99٠) - (،١997 والمعلق مؤرخ الأسرة الملكية ريتشارد فيتزويليام­ز، الذى انتقد انتقائية كتاب السيناريو بتجاهل الأدوار الوطنية للأميرة آن، ولجدتها الملكة إليزابيث الأم ١9٠٠) - ٢٠٠٢(، ولمشاركة الأمراء فى القتال فى الحروب كضباط جيش.

الجدل يطرح السؤال: هل الفنون بكل أشكالها للتثقيف أم للترفيه؟

«نتفليكس» مركبة من كلمتين »Net« الشبكة، و«Flix» التى عرفها قاموس صمويل جونسون بشعرة الفراء أو الشعرة الناعمة، تحويرًا لفلاكس )الانتشار الدعائى(، وتطورت «فليكس» فى الاستعمال اليومى فى العقود الأخيرة لتعنى توسيع عدد الأصدقاء، والتآلف، وتفضيل الحياة المنزلية، ولم شمل الأسرة. الاستعمال الأخير- وهو فى اللغة الديموطيقي­ة )الشعبية المستخدمة(- هو ما يعنينا هنا عندما أسست الخدمة المدفوعة الأجر فى كاليفورنيا فى عام ١997 على يد الشريكين: ريد هيستينجز، ومارك راندولف )ناشر مجلة «عالم ماك» الإلكتروني­ة( من خلال شبكة تربط مكتبة ضخمة من الأفلام السينمائية والبرامج والمسلسلات التلفزيوني­ة، بحيث تصبح فى متناول يد الأسر والمتفرج بتكلفة سنوية نصف قيمة رخصة ال«بى بى سى».

الفنان يبدع أصلًا كموهبة للتعبير، وإبداعه تسجيل للحظة المعاصرة. نظرة المدرسة الواقعية العملية للفنون أكثر تركيبًا وشمولًا، فالتساؤل عن دور الفن فى المجتمع ظهر مع الأيديولوج­يات الشمولية وتسييس وسائل التعبير لتوجيه الرأى العام، لدعم النظام الحاكم، لكنها دائمًا تسحق الفرد.

الفن إبداع فردى، لكن تطور الإنتاج الفنى، خاصة فى مجالات جماعية، كالأوركستر­ا الموسيقية، وفنون الاستعراض كالمسرح والباليه والأوبرا والسينما، أدخل عاملين: العمل الجماعى كفريق، من مؤلف، وسيناريست، ومخرج، وممثلين، وموسيقى، وملابس وديكور، ومكياج، وإضاءة، وأضافت السينما والتليفزيو­ن تكنولوجيا التصوير والمونتاج والإلكترون­يات والأقمار الصناعية. العامل الآخر هو الاقتصاد أو السوق أو رأس المال، لأن طبيعة المجتمع الحديث تختلف عن العصور القديمة بتطور الفنون من تماثيل ورسومات فى العصرين الإغريقى والرومانى، أو رسامين فرديين من عصر النهضة، إلى القرنين الأخيرين الأكثر تعقيدًا فى الفنون الاستعراضي­ة.

مثلًا التكلفة الأسبوعية لعرض مسرحية «البؤساء» لفيكتور هوغو )١٨٠٢ - ١٨٨5( فى لندن، تتجاوز مائتى ألف دولار، بجانب أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون دولار تكلفة الإنتاج نفسه، وهو تمويل ليس فقط خارج تساؤلات المقولة الأصلية عن دور الفنان، لأنه عمل اشترك فيه المئات، بل أيضًا عن الجانب المتعلق بدور الفن والثقافة فى المجتمع.

بالنسبة للتكاليف الباهظة لإنتاج الفنون الاستعراضي­ة المرئية، فإن المؤسسة الفنية أمام خيارات صعبة، شركة الإنتاج تقترض بضعة ملايين من البنوك والمستثمري­ن ولا بد من تسديدها، فمنتج وصاحب موسيقى «البؤساء»، أندرو للويد ويبر، قال ل«فاينانشال تايمز» إن مبيعات التذاكر وحدها غير كافية لتغطية التكاليف الأسبوعية للعرض. أثمان التذاكر )أرخصها 5٣ وأعلاها ٢46 دولارًا( تتجاوز قدرة المواطن متوسط الدخل. الخيار الآخر تتولى الدولة )أى دافع الضرائب( دعم الفنون الاستعراضي­ة، مما يعنى قيودًا وضوابط على حرية التعبير، ودخول الحسابات السياسية فى اختيار ما يعرض. الطريف أن هذه الحسابات تعيدنا إلى آلاف الأعوام قبل الميلاد كمصر القديمة مثلًا، فالذى لا يزال أمامنا من أعمال فنانين )نجهل أسماء أكثرهم(، تطلب تمويلًا هائلًا، عندما ارتبطت الفنون بالهندسة المعمارية فى التماثيل الضخمة والمسلات والرسومات على جدران المعابد، ومعظمها إنشاءات الدولة، والفن يخبرنا عن الملوك الكبار فى تاريخ العالم القديم كرمسيس الثانى ١٣٠٣( - ١٢١٣ ق.م(، وتحتمس الثالث ١479) - ١4٢5 ق.م(، والإسكندر الأكبر )٣56 - ٣٢٣ ق.م(.

لكن المجتمعات الديمقراطي­ة المفتوحة لا تستسيغ أن تلعب الدولة دورًا رئيسيًا فى الإنتاج الفنى، وهنا يتعاظم دور مؤسسات ك«نتفليكس» أو «أمازون» أو «أبل»، التى توصل الأعمال الفنية والاستعراض­ات والأفلام، بل الأعمال التسجيلية التثقيفية التعليمية، من تاريخ مصر القديمة والمسرح الإغريقى، وإنجازات عصرى النهضة والتنوير، والبيئة والتاريخ الطبيعى، وعجائب الجغرافيا والمعمار، إلى غرفة المعيشة فى بيوت الطبقات الفقيرة )اشتراك نتفليكس يبلغ نحو عشرة دولارات فى الشهر، بينما متوسط ثمن تذكرة السينما يبلغ نحو اثنى عشر دولارًا(.

الفن، فى شكل الآثار المصرية القديمة، ما زال يخبر الحاضر عن الماضى، وهو ما تحاوله «نتفليكس» لكن بإعادة صياغتها للحاضر لمشاهدى أجيال المستقبل.

حسب آخر إحصائيات، يصل عدد المشتركين فى «نتفليكس» إلى مئتين واثنين وعشرين مليون مشترك حول العالم، بواقع )خمسة وسبعين مليونًا فى أمريكا وكندا(، وثلاثة وسبعين مليونًا فى إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا )منهم قرابة أربعة عشر مليونًا فى بريطانيا(، وعدد مماثل فى أمريكا الجنوبية وآسيا والباسفيك مجتمعين )سبعة ملايين فى أستراليا ونيوزيلندا، وستة ملايين فى الهند(. هذه الأرقام تبين أن قرابة نصف عدد المشتركين من البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، مبينًا التأثير الضخم لعمل باللغة الإنجليزية على الملايين من المتفرجين.

رغم تحجج صناع المسلسل أنها «دراما» وليست تاريخًا واقعيًا، فإن التجربة أثبتت أن تراكم تأثير الأعمال الدرامية، حتى ذات الطابع الترفيهى، يلعب دورًا رئيسيًا فى تغيير ذاكرة الأجيال ومعرفتهم بتاريخ بلادهم وأحداثه، خاصة الأجيال الشابة التى تفضل مصادر التعبير البصرية ووسائل التواصل المحمولة على الكتب والمراجع والذهاب للمكتبة، وفاتَها دروس التفكير النقدى التى ألغيت من معظم المناهج الدراسية.

فى ندوتين بمناسبة توقيع كتابى الأخير )تاريخ الإسكندرية ١9٣9 - ١96٠(، اكتشفت من أسئلة مصريين )أعمارهم بين العشرين والأربعين( جهلهم بأحداث عشتها بنفسى وموجودة فى الوثائق وأرشيف الصحف المصرية. كانت الأحداث الحقيقية مفاجآت لهم، فمعلوماتهم عن الفترة تعكس ذاكرة جماعية بديلة مصدرها مئات من الأفلام والمسلسلات الدرامية والتمثيليا­ت التليفزيون­ية، التى أعادت صياغة التاريخ بطريقة «نتفليكس» لمسلسل «التاج».

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt