Al Masry Al Youm

شوقى جلال يحلل أسباب فشل الفكر العربى ويعرى أصحاب المعارك الزائفة

- مصباح قطب

شوقى جلال، المفكر والمترجم القدير، الشاب ابن التسعين عاما، هو أحد مثقفين قلائل فى العالم العربى ممن يمكن القول بارتياح إن لديهم مشروعا نهضويا مكتملا. ولأن كتابه «الفكر العربى وسسيولوجيا الفشل»، والصادر لأول مرة عام 2٠٠1، هو واحد من أهم كتبه التى تبلورت فيها ملامح هذا المشروع، فقد أعاد طباعته مؤخرا، عبر دار روافد للنشر والتوزيع، مع إضافات قيمة. تقوم أعمدة مشروع جلال على تأكيد الرابطة الجدلية بين الفكر والواقع، بين العقل نفسه والزمن، ورفض الحتميات، وأن الصراع مكون عضوى فى مسيرة الأمم والشعوب، وبالتالى فإن إعمال العقل والنقد والإبداع المادى والإطار القيمى الفكرى المتجدد، ليست فقط مقومات لا تقوم نهضة بدونها بل إنها كذلك ضرورة وجود.

فى الاتجاه العكسى يوضح جلال فى الكتاب أيضا شروط الانحلال والتدهور والانحدار، وفى مقدمتها الجمود، والجبرية، والتبعية العمياء للماضى، وفقدان الثقة بالنفس، والقطيعة مع العصر، وإهمال العقل، وسيادة التواكلية والخوف، والانغماس فى القضايا الزائفة، وشدة سطوة الدجل والأوهام.

إن أخشى ما يخشاه المؤلف طوال الكتاب أن نكون من بين المجتمعات التى لو اختفت لما ذرف أحد عليها دمعة لأنها لا تفيد العصر أو المستقبل. كان من الطبيعى مع كل ذلك أن يناقش جلال السلطة وطبيعتها وموقف المثقف منها، وقضايا الديمقراطي­ة والتنوير والعلمانية وطبيعة مراحل التحول، والهوية والتاريخ، واليسار وإخفاقاته، والترجمة وأصولها ودورها، وتجارب النجاح فى مواجهة تحدى العصر بإشارة خاصة إلى اليابان والصين والهند، والعرب ووضعهم فى عصر التصنيع والعلم والتكنولوج­يا، ويتوقف كذلك مع التجربة المصرية، الهم الشاغل، فيجزم بأن مصر منذ الغزو الفارسى ٥2٥ قبل الميلاد، المدمر ماديا وثقافيا ومعرفيا، تحولت إلى تجمع بشرى لا مجتمع تربطه روابط التاريخ الواحد والفهم المشترك للطبيعة والواقع، والهدف المشترك وظل الحال كذلك، مع استثناءات بارقة، إلى أن جاءت الخمسينيات.

كالمتوقع يرى جلال أن الهوية مشكلة مصطنعة فى عالمنا العربى والإسلامى، وأن الهوية ليست معطى نهائيا ثابتا لا يتطور، ويقول إن الهوية تعنى الوجود الاجتماعى النشط الفعال المتجددة المبدع وليست أبدا المجتمع الراكد الساكن الغارق فى الشكليات.

إن كل عصر حق لأهله، فهل من حقنا أن نقول إن لنا حقا فى هذا العصر؟. نحن أمة تكبل نفسها. فقد اصطنعنا مثلا شيطانا اسمه العلمانية وأنها ضد الدين بينما تعنى بكل وضوح استخدام العقل فى شؤون العيش والتعامل مع الواقع والطبيعة. وأن المسألة هى أنه توجد مساحة اختصاص للدين ومساحة اختصاص للطب والكيمياء والفلك والرياضيات إلخ.

فى بداية صدمة اليابان بغزو الغرب لها شاع هناك تيار يرى أن الغرب كافر تجب القطيعة معه بينما انبرى تيار وطنى تقدمى يرى وجوب قبول التحدى والنزول إلى ميدان العصر بأدواته وبكل الإرث الإيجابى فى الثقافة الوطنية والتراث الروحى للبلاد. وكذلك كان الأمر فى الهند حيث خاض علماء هندوس ومسلمون معارك ضارية دفاعا عن العقل ولحث الأمة على أن تتخلص من قيود السلف والخرافة وفقدان الثقة فى الذات وتستوعب العلوم والمعارف الحديثة وتتعامل بندية مع الأقوياء. يؤكد جلال أن خطوط المنازعة بين الدين والعلم من صنع أناس لهم مصلحة خاصة، وهى عندهم أهم من نهضة الأمة، وأن علينا بدلا من صب اللعنات على العلمانية والتنوير أن نصبها على الأمية والجهل والخداع والتسلط.

ويقول جلال إن الخطاب اليسارى العربى أخفق ليس لأن غيره قد انتصر، وأخفق ليس لأن هناك من تآمر عليه فكل فكر ثورى يجد من يقاومه بكل ضراوة أو حتى وحشية، ولكن اليسار أخفق لانه فارق العقل التاريخى، ونسى المراجعة الدائمة والنقد والتصحيح المستمرين، ولذا أصبح مثله مثل اليمين، يعيش فى ذات البنية الذهنية القائمة على إما.. وإما، بنية العقل التراثى الاستاتيكى، ووريث الإطار الفكرى لعصر الزراعة والرعى والمستبد العادل.

نسى اليسار، مع كل التضحيات وحسن النية والآلام، أن العمل الاجتماعى هو المنتج المحدد للفكر، وأن دور الفرد المفكر هنا مهما كانت عبقريته، لا يغنى أبدا عن الدفع باتجاه تطور إنتاجى وقيمى ومعرفى، تتجدد معه كل شروط الحياة.

ويرى جلال أن اليسار فى الغرب كان وليد نسق مفتوح لا مغلق ولذا استمر رغم تعرضه لإخفاقات أو تراجعات. نفس ما يقال عن العقل والمجتمع يقوله جلال عن الديمقراطي­ة، فهى ليست وصفة يمكن استيرادها، وإنما هى عملية متطورة باطراد وتاريخية، أى تكون فى عصر مختلفة عن الآخر، قد انطلقت بالأساس من فصل السلطة الزمنية أى السياسية عن السلطة الدينية المرتبطة بالأبدى، ومن نشأة الدولة الأمة. وقد زاد التعقد الحاصل فى عصر الحداثة وما بعدها من أهمية أن تتطور الديمقراطي­ة لتساير كل هذا التعدد والتنوع والتضارب فى المصالح، ومحاولات تأبيد التحيزات، ولكى نضمن بقاء كتلة كبيرة فى المجتمع تمجد الحق والمسؤولية والتقدم والتاريخ والعلم والواجب.

أصبح العرب مع غياب شروط النهضة، وطول أمد الاستبداد والجمود، سماوات مفتوحة لرياح الغزو الفكرى التى تهبط كالصواعق على العقل الخاوى العشوائى الاستهلاكى الخائف فتطيح بكل أمانه وثبات وثباته الوهمى. وحل ذلك هو بالمواجهة النشطة وقبول النزال والإيمان بأن لا شىء يولد مكتملا وإنما عبر مخاض وصراع وتطور.

يستعرض جلال كفاح وأعمال جيل النهضة المصرية الذى انطلق تأثيره على يدى طه حسين والعقاد والمازنى وسلامة موسى ومحمد بدران وكيف جعل من مصر منطقة جذب للمثقفين العرب، وقاد حركة تأليف وترجمة تركت آثارا ما زلنا نعاينها حتى اليوم رغم تراجع مكانة مصر والعرب فى مجالات التأليف والنشر والقراءة والترجمة. كان الأصل فى عمل هذا الجيل أن يؤكد الإنسان المصرى ذاته وجودا وفكرا وفعلا نهضويا ورفضا للجمود والتخلف. إن اللقطة المثيرة هنا إشارة شوقى جلال إلى وعى هذا الجيل بأن الاستقلال وحده لا يكفى، والبرهان على ذلك أن مصر كانت قد فقدت استقلالها أصلا لأنها قصرت، طائعة أو مجبرة، فى حق العلم والفكر والثقافة، ويضيف أن الند والشريك فى صنع الحضارة لا يفقد استقلاله.

يكشف جلال أبعادا جديدة للخطر الصهيونى على بلادنا فينبه إلى أن إسرائيل تريد احتكار الترجمة إلى العربية، واحتكار المعرفة والتكنولوج­يا ودفع المجتمع العربى إلى الانحدار أكثر فى الاستهلاك المسرف للتقانة والسلع دون إبداع إنتاجى.

وتأتى خطورة العمل الصهيونى من أن اللغة أساسا فكر اجتماعى نشط أو فعل اجتماعى ولهذا فالإمساك بورقتها وبعلاقتها بالأدب والعلم من باب احتكار الترجمة الإلكتروني­ة والورقية، إسرائيليا، سيصيبنا فى مقتل.

يرى أن كل الغزاة لم يكن لهم من هم غير نهب موارد مصر ونقل الفائض إلى بلادهم، وإضعاف عقل وهمة شعبها، لكن المماليك برأيه، كان يمكن أن تنطلق من عندهم حركة نهوض عصرى، لأنهم مجلوبون لا وطن أصلى لهم ينزحون إليه الفائض، لولا أن اكتشاف رأس الرجاء الصالح والغزو العثمانى أنهيا هذه الإمكانية.

يؤكد شوقى جلال، بعد كل هذا التاريخ فى العطاء الثقافى، والذى بدأ منذ 19٥٦، أن الفشل معناه أن المجتمع لم يفكر فى قانون صراع الوجود وأسبابه الطبيعية، وأنه عاطل عن المعرفة الكاملة، والصحيحة نسبيا ومرحليا لتوجيه مسارات حركته وطاقته ونشاطه، إلى عبور ناجع نحو التطور. وعليه فلا حل لمصر إلا بتطوير فكرى شامل وحشد الجهود ديموقراطيا للانتماء إلى حضارة عصر التصنيع والتكنولوج­يا والمعلومات­ية لينتفى اغترابنا فى الزمان والمكان.

 ?? ?? غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
 ?? ?? شوقى جلال
شوقى جلال

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt