Al Masry Al Youm

أمريكا: الدولة العميقة

لعل أشهر هذه المحاولات تلك التى قام بها المؤرخ الفرنسى ألكسيس دى توكوفيل، برحلته الأمريكية عام ١83١، حين جذبته هذه التجربة التاريخية التى تأسست فى العالم الجديد، وجذبه أكثر أساسُها ونظامُها الديمقراطى، وكتب كتابه «الديمقراطي­ة فى أمريكا».

- السفير الدكتور السيد أمين شلبى يكتب:

أمريكا أو الولايات المتحدة الأمريكية هى القوة، أيًا كانت التحفظات فى السنوات الأخيرة على مكانتها، مازالت هى القوة التى تملك كل مقومات القوة العسكرية والاقتصادي­ة والسياسة والتكنولوج­ية والتجارية والجاذبية الثقافية، ولذلك عُرف القرن العشرين بأنه كان «القرن الأمريكى»، وما زالت تعتبر أن القرن الواحد والعشرين سيكون كذلك.

لذلك ليس غريبًا أن يهتم المؤرخون والباحثون بالدراسة والتعرف على هذه القوة ومجتمعها ومؤسساتها ونظام الحكم فيها.

ولعل أشهر هذه المحاولات تلك التى قام بها المؤرخ الفرنسى ألكسيس دى توكوفيل، برحلته الأمريكية عام 1٨٣1، حين جذبته هذه التجربة التاريخية التى تأسست فى العالم الجديد، وجذبه أكثر أساسُها ونظامُها الديمقراطى، وكتب كتابه «الديمقراطي­ة فى أمريكا».. منذ هذا التاريخ أصبح هذا الكتاب مرجعَ كل من يريد أن يتعرف على جوانب الحياة الأمريكية ومؤسساتها.

ومصريًا، اهتم عدد من المفكرين المصريين بالدراسة والتعرف على التجربة والنظام الأمريكى من الداخل.. ففى الخمسينيات، أمضى الدكتور زكى نجيب محمود عامًا دراسيًا فى الولايات المتحدة، متنقاً بين ولاياتها، وكتب كتابه «عام فى الولايات المتحدة»، كذلك فعل الدكتور حسين فوزى فى كتابه «سندباد فى العالم الجديد»، والدكتور جابر عصفور فى كتابه «بعيدًا عن مصر» عن حياته فى الجامعات الأمريكية.

يضاف إلى هؤلاء أجيال من الدبلوماسي­ين والباحثين المصريين الذين عملوا ودرسوا فى أمريكا، واشتبكوا بنظامها ومؤسساتها، وتشكلت ممارساتهم ورؤاهم بناءً على هذه الخبرة. الأمر الذى يميزهم عن غيرهم من المنشغلين بالشؤون الأمريكية ولم تتوافر لهم هذه الخبرة المباشرة.

إلى جانب هؤلاء، كان هناك مراسلو الصحف الكبرى فى الولايات المتحدة، والذين كانوا الأقرب والمتابعين للحياة اليومية والقضايا والقوى المؤثرة فى النظام الأمريكى، من بين هؤلاء، على المستوى المصرى، كان الأستاذ عاطف الغمرى مدير مكتب جريدة «الأهرام» فى واشنطن الذى كان يُطلع قارئ الجريدة بتقارير واقعية عن مجريات الأحداث الأمريكية وشخصياتها، غير أن ما كان يميز الأستاذ الغمرى هو اهتمامه بمراكز الفكر والبحث وما يصدر عنها، وكذلك ما كتبه المؤرخون والباحثون بشكل أعمق، وهو ما يفسر سلسلة الكتب التى أصدرها عن الولايات المتحدة، ليس فقط عن السياسة، بل عن الأدب والمسرح الأمريكى.

مؤخرًا، أصدر الأستاذ الغمرى كتابًا بالغ الأهمية يحمل عنوان «الدولة السرية فى أمريكا: تحالف أصحاب النفوذ المحرك لأحداث العالم». كتاب اليوم مارس 2022.

وواضح أنه اختار هذا العنوان لجاذبيته الصحفية، وإن كنت أعتقد أن العنوان الدال لكتاب هو «أمريكا: الدولة العميقة»، أو «أمريكا من الداخل».. على أى حال الكتاب يكشف عن القوى والمؤسسات والشخصيات، رغم أن الكثير منها خارج دائرة الضوء، إلا أنها تمتلك من السلطة والنفوذ ما لا تملكه شخصيات على السطح.

ويكشف الكتاب عن أول من كتب واستخدم عبارة «الدولة العميقة» State وهو الكاتب الأمريكى مايكل لوفجرين.

ويكشف لوفجرين فى كتابه وغيره من الكتابات حول نفس الموضوع عن مصالح «محصنة» داخل الحكومة الأمريكية وخارجها، مثل وول ستريت، وامتداد سطوة هؤلاء إلى السياسة التجارية وأولويات الدولة التى لا تمثل أحيانًا مصالح الأمة، وإنما مصالح الدولة العميقة، مقاولو أعمال، وخبراء فى مراكز الفكر السياسى، ونشطاء غير منتخبين يربط بينهم المال والمصالح المتبادلة من نماذج هؤلاء دونالد رامسفيلد وزير دفاع إدارة بوش. ويكشف الكتاب عن عالم اجتماع آخر هو رايت ميلز الذى رصد أسماء 50 شخصية يتقلد أصحابها مناصب مسؤولة فى الدولة، ورغم أن دخل هؤلاء من مناصبهم قد يكون أقل من دخلهم فى مؤسسات خاصة، إلا أن مراكزهم الرسمية تعطيهم نفوذًا هائاً فى التأثير على توجهات الولايات المتحدة.

ويكمل الأستاذ الغمرى الصورة بكتاب البروفيسور كريستوفر رونش، الأستاذ بجامعة شيكاغو فى كتابه عن الحالة العقلية للطائفة الحاكمة، حيث يعرض لشخصيات لهم مصداقية، ويستكشف دوافعهم ونقائصهم، وبذلك يقدم صورة واقعية للدولة العميقة.

إلى جانب هؤلاء الأساتذة، حاولت الكاتبة الأمريكية دانا بريست فى «واشنطن بوست» تقديم تعريف محدد للدولة العميقة، فى كتابها «أمريكا الشديدة السرية»، حيث اعتبرت أن فى أمريكا دولتين: الأولى التى يعرفها المواطنون والتى تعمل فى العلن، أما الأخرى والموازية لها فهى التى تعمل بدرجة من السرية، وهى بحكم طبيعة تكوينها كدولة عميقة وعماقة، فإن تمددها وتضخمها تحقق بشكل أكثر فى السنوات العشر الأخيرة.

وينبه الأستاذ الغمرى إلى أنه على الرغم مما تتسم به الولايات المتحدة من تنوع عرقى، فإن غالبية ما اصطلح مؤرخون مثل دانييل ليتل الذى أصدر كتابًا تحت عنوان «نخبة القوة بعد 50 عامًا» يتابع فيه كتاب عالم الاجتماع المرموق رايت ميللز، الذى نبه فيه إلى امتزاج مصالح ثاث قوى تشكل معًا النخبة المتربعة على قمة المجتمع، وينبه ليتل إلى أنه على الرغم من ما تتسم به أمريكا من تنوع عرقى، إلا أن «نخبة القوة» لا تزال ممثلة فى البيض من أصول أنجلوساكسو­نية بروتستانية.

ومع هذا يجب أن نتذكر أنه فى عام 200٨، انتخب الأمريكيون رئيسًا من أصول إفريقية هو باراك أوباما، ونائبه الرئيس الحالى هاريس من أصول آسيوية، ووزير الدفاع الحالى من أصول إفريقية.. ولذلك كان لابد للأستاذ الغمرى أن يتوقف عند ماذا تعنى الدولة العميقة بالنسبة للعالم المصرى؟.

يقول إنه بعد أن أزاحت دراسات المختصين بدراسات الدولة العميقة فى الولايات المتحدة الستار عن أن الكثير من الأحداث المتناقضة للمصالح القومية العربية كانت تديرها الدولة العميقة بأذرعها الظاهرة والخفية وبقواها السياسية والعسكرية والمخابرات­ية، وتعمدت إزاحة أصحاب الشأن بعيدًا عن الإمساك بزمام إدارة القضايا العربية ،Arabist واستعانوا بعناصر موالية لإسرائيل بل من أصول يهودية، كشفت الدراسات الأمريكية الموثقة عن أن دولة أمريكا العميقة وأدواتها التنفيذية كانت وراء ما جرى فى منطقتنا من إشعال حروب داخلية، وخطط إعادة رسم الحدود، وأشكال صراعات طائفية ومذهبية وعرقية لهدم الدولة وإشعال الفوضى الخاقة التى أطلقوا عليها فى البداية «التدمير الخاق». وأستأذن الأستاذ الغمرى أن أضيف إلى ما أشار إليه من الدراسات التى كشفت عن دور الدولة العميقة فى القضايا العربية الدراسة التى كتبها أستاذان مرموقان بالعلوم السياسية فى جامعتى شيكاغوا، هارفارد

Tohm

Mearsgeime­r،Stephen Walt ، اعتبرا أنه على مدى العقود الماضية، وخاصة بعد حرب ،1٩67 شكلت العاقة مع إسرائيل مركز السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى إشعال غضب الرأى العام المصرى والإسامى وعرّض ليس فقط الأمن الأمريكى ولكن أيضًا بقية العالم للخطر، ومثل هذا الوضع ليس له مثيل فى التاريخ الأمريكى.

فى تقدير الدراسة أنه كان وراء هذا الدعم اللوبى اليهودى الذى يعمل على ضمان أن تكون إسرائيل هى القوة المهيمنة فى الشرق الأوسط من أجل عمل اللوبى اليهودى والجماعات المؤيدة له إلى صياغة السياسة الأمريكية تجاه العراق وسوريا وإيران. وتُفصّل الدراسة فى هذا دور اللوبى فى الحض على مهاجمة العراق، حيث وصل التنسيق بين إدارة بوش الابن وشارون إلى «أبعاد غير مسبوقة». بسبب هذه الدراسة الشجاعة تعرض الأستاذان للهجوم، بل لاضطهاد فى جامعتيهما.

ينبه العارفون بالنظام الأمريكى إلى أن الرئيس الأمريكى لا يملك وحده اتخاذ القرار، بل تشاركه فيه مؤسسات أخرى.. كتاب الأستاذ الغمرى يفصّل ويؤكد هذه الحقيقة.. من هنا كانت أهميته لكل من يتابع السياسة الأمريكية ودوافعها وأدوارها خاصة فى العالم العربى.

وأخيرًا، وباعتبارى من المتابعين لإصدارات الأستاذ الغمرى خاصة عن الولايات المتحدة، أعتقد أن كتابه الأخير من أغزرها وأكثرها توثيقًا.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt