Al Masry Al Youm

أزمات اقتصادية للبيع!

يتعين على النظام الاقتصادى للدولة أن يعمل بكفاءة، بحيث تنساب تلك المكاسب عبر شرايين الاقتصاد إلى مختلف أطرافه.

- د. مدحت نافع* يكتب: * كاتب ومحلل اقتصادى

تولد الفرص من رحم الأزمات الاقتصادية. وهناك دراسة أجرتها مؤسسة «كوفمان» الأمريكية عام 200٩ ورصدتها مجلة «إيكونومسكت»، توصّلت إلى أن أكثر من نصف الشركات المكونة لقائمة «فورتشن» لأكبر 500 شركة إيرادًا، تم تأسيسها فى فترات ركود اقتصادى. فالأزمة حُبلى بمكاسب شتى لأطراف السوق. أزمات الديون- مثاً- تشكّل فرصة استثمارية للمتعاملين فى أدوات الدين عالية المخاطر. وهى فرصة لشركات التخصيم والتوريق لجنى مزيد من الأرباح، وللشركات المتخصصة فى إصدار المشتقات وعقود المبادلة، التى تهدف إلى التحوّط من مخاطر تعثّر سداد تلك الديون.. أزمات البطالة أيضًا يمكن أن تشكل فرصة لاستثمار الباحث عن عمالة منخفضة التكاليف، ولشركات التأهيل والتدريب والمؤسسات التعليمية، التى تبيع خدمات تطوير وإصقال المهارات، لتحسين فرص الحصول على عمل.. الأزمات العارضة أيضًا ليست استثناءً من تلك القاعدة، فأزمة كوفيد-١٩ تحوّلت إلى فرصة ربحية عالية لشركات الأدوية، ولمنصات التواصل عبر الإنترنت، ولشبكات التسويق الإلكترونى، وشركات الاتصالات، وشركات تصنيع الرقائق المستخدمة فى أجهزة التنفّس الاصطناعى.. وهكذا لا يمكن أن تخلو أزمة من فرص تأتى فى أعقابها أو مصاحبة لها. ويرى الاقتصادى الشهير «جوزيف شومبيتر» صاحب مفهوم «الهدم الخّاق» أن توظيف الابتكار والمنافسة والملكية الخاصة ورأس المال ضرورى لهدم الكيانات والتوازنات المتهالكة، وإعادة البناء على نحو أفضل ومتوازن فى الأجل الطويل. لكن من الأهمية بمكان أن تدرك الدولة طبيعة تلك الفرص، وكيفية الرهان عليها لمساعدة الأسواق فى التعافى بصورة صحية، وبقليل من تركّز الثروات وغياب العدالة فى توزيع الدخول. يتعين على النظام الاقتصادى للدولة أن يعمل بكفاءة، بحيث تنساب تلك المكاسب عبر شرايين الاقتصاد إلى مختلف أطرافه، وهذا لا يتحقق إلا بتشجيع التكامل الرأسى والأفقى فى الأسواق المحلية، واستثمار الفوائض الناتجة عن اغتنام تلك الفرص فى أوجه إنفاق، تحقق أكبر قدر ممكن من التشغيل والنمو، وتساهم فى تخفيف الآثار السلبية للأزمات. وللربط بمقال الأسبوع الماضى، الذى تناولت فيه الركائز الأساسية لاتفاق مصر الأخير مع صندوق النقد الدولى، فإن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها الباد، والتى تتجلّى مظاهرها فى التضخم، وضعف القوى الشرائية، وتراجع السيولة الدولارية، وتفاقم الدين العام، وهيمنة المالية العامة على السلطة النقدية.. إلى غير ذلك من أعراض للعجز فى الموازنة العامة وميزان المدفوعات وضعف الإنتاجية، يمكن أن تفتح المجال لفرص عدة، تتساقط وفوراتها على الجميع إن حَسُن استغالها.

بداية اقتناص تلك الفرص تكمن فى التعامل مع برنامج الاتفاق مع الصندوق باعتباره خطة اقتصادية قصيرة ومتوسطة الأجل، ووضع كافة الضمانات لإدارة هذا البرنامج بما يحقق المصالح الوطنية فى المقام الأول. وإذا كانت الحكومة هى الطرف المنوط به تنفيذ هذا البرنامج، فإن الرقابة على الأداء وفقًا لمؤشرات أداء اقتصادية ومؤشرات مخاطر رئيسة ذات أولويات وطنية، هى عمل لا ينصح أن ينفرد به فريق عمل الصندوق، بل يجب أن يعهد بهمن الجانب المصرى- إلى لجنة خبراء ومتخصصين، يشكلها ويحدد صاحياتها مجلس النوّاب، ويفعّل قراراتها رئيس الجمهورية. على أن تضطلع تلك اللجنة أيضًا بمهام التفاوض مع الصندوق حول عدد من النقاط والمستهدفا­ت، مع مراعاة البعد الاجتماعى، وعدم تعميق الخسائر الاقتصادية أثناء محاولة الخروج من الأزمة. من ذلك ما يتعلّق بمبدأ عدم تخصيص الموازنة، الذى يتعارض مع ما ورد ببرنامج الصندوق من تخصيص نصف إيرادات بيع الأصول المملوكة للدولة لخدمة الدين العام، الأمر الذى يقدّم مصلحة الدائنين- ومنهم الصندوق- على سائر الأولويات.

كذلك يتعيّن على اللجنة الوطنية وضع تعريف للدعم فى الموازنة العامة، بحيث لا يختلط تقديره مع تكاليف تراجع الكفاءة وسوء إدارة الموارد، حتى يتسنى التعامل مع ملف الدعم بكفاءة وفاعلية أكبر. ويمكن للجنة أن تضع فى أولويات الإصاح الضريبى المنشود، تحقيق العدالة الضريبية، وزيادة التحصيل عبر آليات ذكية لا تضر بقاعدة المموّلين، ولا تضيف مزيدًا من الأعباء على المواطنين. وكما يقول السياسى الأمريكى الشهير «بيت سيشن»: «يظهر التاريخ أن الزيادات الضريبية خال فترات الركود، هى وصفة لمزيد من البطالة والخسائر الاقتصادية»، علمًا بأن السياسة الضريبية الفاعلة تساعد على إعادة توزيع الثروات وتحسين الإيرادات.

ومع عودة تدفقات النقد الأجنبى إلى الاقتصاد، وانعكاس ذلك على احتياطى النقد الأجنبى الذى ارتفع إلى 4١.05 مليار دولار )أعلى مستوى فى أربع سنوات(، على خلفية قرارات 6 مارس، وصفقة رأس الحكمة، واتخاذ خطوات فى طريق الإصاح المالى.. فإن فرصًا كبيرة يمكن للدولة استغالها لاجتذاب مزيد من تدفقات الاستثمار المباشر فى المشروعات الإنتاجية، أو الاستثمار غير المباشر فى الأوراق المالية المقيدة فى البورصة. يتحقق ذلك عن طريق التوسّع فى منح الرخص الذهبية للمشروعات، ومنح امتيازات إضافية على مستوى التمويل وتخصيص وترفيق الأراضى، للأنشطة الاقتصادية ذات الأولوية، خاصة تلك المحققة لدخل )صاف( بالعملة الأجنبية، ونسب أعلى للتوظيف، ودرجات أعمق من التشابك فى مصفوفة الحسابات القومية، وحماية أكبر للبيئة، واستنزاف أقل للموارد.. كذلك يمكن اتخاذ خطوات جادة فى سبيل تنشيط أسواق المال، والتمويل العقارى، والتأمين.. للعب دور فاعل فى تحسين بيئة الاستثمار والتمويل، وتوفير السيولة والأدوات الجاذبة للفوائض والمدخرات، التى فضّلت الاكتناز فى الذهب والدولار والعقارات )قليلة الإنتاجية( كماذ آمن ضد المخاطر. كما يتعيّن على الدولة اغتنام فرص التحوّلات التى يشهدها العالم، من تغيّر مناخى، وتحوّل تكنولوجى، وشحّ الموارد، وتصاعد صدمات العرض، وإعادة تموضع لاقتصاد الصينى، وتمدد الإقليمية الجديدة.. من أجل اتباع نموذج تنموى يراعى التحوّل الأخضر، وطفرة الذكاء الاصطناعى، وتحقيق قدر متزايد من الاكتفاء الذاتى.. والمقال يضيق بالأمثلة والفرص.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt