Al-Anbaa

على موعد مع باريس

خلال رحلة علاجية لم تخلُ من التنزه والتشويق وزيارة الأماكن السياحية

-

بدأت رحلتي الثانية لباريس بعدما غرد العصفور في صباح يوم بـــارد في بلدي الحبيب الكويت، حينها استيقظنا أنا ومرافقـــا­ي والدي وأخي من نومنا غير العميق، راكضين إلى السيارة، لكي نذهب إلى المطار الدولي بهدف السفر إلى باريس العتيقة، لنذوق حلاوة الخبر الذي سيزفه الطبيب: لقد شفيت يا محمد.

كنت فـــي هـــذه الرحلة أستطيع النظر بشكل كبير، وبفضـــل الله كنت اســـمع وامشـــي إلى أي مـــكان أريد (يا للســـعادة)، صعدنا في الســـيارة، وانطلـــق بنا أبي إلى المطار، أجلس بجانب قائد السيارة، وأنظر بعيني اللتين يملؤهما التفاؤل إلى المنازل القابعة بجانب الطريق، وإلى البحر ذي الشاطئ الحزين. انظر للمكان وأتســـاءل: إلى أين المصير؟ إنني ذاهب إلى المجهول: فلا أنا ممن يفقه كلام تلك البلاد، ولا حجزت فندقا في باريس لأقيم فيه ناهيك عن تفكيري فيما ستكون عليه نتيجة زيـــارة الطبيب، فلك أن تتخيل: ما الذي ســـيكون عليه الحـــال؟ لكن الأمل في الله كبيـــر، وإنـــي أعلم بأن الله هو منجي عباده، والله سبحانه هو الذي يقدر علينا كل ما يحدث، فنحمده على كل شيء، وإن كان ظاهره الشر، فربما يكون باطنه من رحمة ربي خيرا.

وقفت السيارة في المواقف المخصصة لها في المطار. ننظر إلى الساعة، فإذا بالوقت قد تأخر، ولم يتبق الكثير على البداية الفعلية للرحلة.

بعد ختم الجواز، والدخول إلى صالة انتظار الرحلة، قفزنا إلى مكان قريب لا يعرفه كثير من المسافرين، وهو ذلك المكان المخصص لأولئـــك الأغنياء: الأتقياء إن شـــكروا، الأشقاء إن بطروا.

ذلك المـــكان هـــو القاعة المخصصة.لـــركاب الدرجة الأولى. القاعة كبيرة وهادئة، وفيها بعض الجلسات الجميلة. بجانب كل جلسة، هاتف أرضي مخصص للركاب ليتصلوا على من يشاءون، وكذلك فيها بوفيه صغير متنوع: به الكعك اللذيذ والعصير الطازج والشـــاي الساخن. اتصلت حينها على صديـــق لي كفيف، واســـمه سعد، لكي أودعه، ولأستمع من فمه الطاهر دعاء خالصا لي بالشفاء والتوفيق.

قالت المرأة بصوتها عبر أسلاك المذياع: النداء الأخير.. علـــى الراحلين إلـــى باريس التوجه إلى صالة رقم...

على متن الطائرة الزرقاء (٢ :(

في الطائرة، يحبذ على المرء أن يكـــون معه كتاب يقرؤه، وخير كتاب يقرؤه المرء في الطائرة هو كتاب الله سبحانه وتعالـــى، ففيه من القصص والعبر والمتعة، وعليك ـ فقط ـ أن تقرأه بقلبك وتتأمل بما فيه، وسوف ترى العجب، وخذ مثالا على ذلك »سورة هود« فقال النبي ـ ژ: »شـــيبتني هود« فلماذا سورة هود بالذات هي التي شيبته؟ فهنا يتحتم على من في قلبه حب للنبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي عقله تفكير، أن يتوجه إلى ســـورة هـــود فيقرأها، ليعرف الجواب وهذا من فوائد الطائرة، حيث ان وقت فراغك طويل فيها، وأنت تجلس في مكان مريح، لذا تستطيع أن تقرأ الكتاب الذي أنزل على نبيك الحبيب. ثم إن شـــئت فاقرأ ما تيسر لك من الكتب المتنوعة الأخرى المرصوصة في حقيبتك اليدوية.

لحظة تأملية:

الدرجة الأولى في الطائرة يركبها أشخاص لديهم أموال طائلة قد عاشوا في ترف بهذه الحياة الدنيا، يسافرون إلى أجمل الأماكن فيها كسويسرا البهية ولندن الغنية أو باريس الحبيبة،

فإما أن يركب الدرجة الأولى أولئك القوم، أو يركبها شخص متواضـــع مثلي.. قد ســـافر مضطرا للعلاج، فيا للمفارقة العجيبة، ويا للمنحة الضخمة التي فزت بهـــا لأعيش، ولو تمثيلا، كالأغنياء.

هل حجزنا بفندق في باريس؟

هبطت الطائرة بســـلام، ونزلنا منها فالتقطنا الحقائب لنخرج من المطار بسلاســـة وهدوء، ثـــم وقفنا في المكان المنظم المخصص للتاكسي،

تخيَّل: تسافر إلى أوروبا بلا حجزٍ لفندق! شعرت بأني في »ديوانية « بالكويت عندما دخلت سفارتنا في باريس مستشفيات باريس تتسم بالبساطة في الظاهر والجودة من الداخل وهذا سبب تفوقهم

حتى يحين دورنـــا، ونأخذ تاكسي ليذهب بنا إلى الفندق أي فندق أتحدث عنه؟ لست أدري، ولا تســـتغرب فإننا ذهبنا إلى باريـــس دون أن نحجـــز فندقا، وكان لســـان حالنا هذه المرة »دع المغامرة تجـــري بنا، ولـــن نبيت إلا خاليين البال «.

الجميل هنا أنـــك عندما تخرج من المطار، يلفحك الهواء البارد اللذيذ، فتسترد عافيتك، وتشعر بنشاط يجعلك تبتسم فتقول: »ما أجمل الشتاء في باريس« .

ركبنا التاكسي، وقلنا له: إلـــى منطقـــة اللاديفنس لو سمحت.

لوجهـــة أدق: إلـــى فندق »أداجـــو « كان لنـــا أصدقاء يســـكنون ذلـــك الفنـــدق، فذهبنا إليهم لنبحث عن حل لمشكلتنا.

دخلنـــا عليهـــم وقلنـــا ســـلاما، قالوا سلاما أصدقاء قديمون.

حدثناهـــم بالخبر، فقفز أحدهما »فازعا « معنا وقال: اطمئنوا وأبشروا فلدي صديق اسمه »طاهر « ـ وهو مترجم وله أعمال حرة ـ ســـيأخذكم إلى منزل آخـــر بضعة أيام، حتى اخرج من الفندق راجعا للكويـــت، فأعطيكم غرفتي لتســـكنوا فيهـــا فـــي فندق الأصدقاء »اداجو «.

قلنا بابتســـام­ة تعلوها الانشراح يا صباح الخير.

جلست أتأمل المكان بتثاقل، فوجـــدت أنني في مكان غير مكاني المعتاد فـــي الكويت، وقد نسيت انني سافرت إلى باريس قبل يوم.

سبحان الله: بالأمس أنا نائم فـــي بيتـــي المتواضع، واليوم أنا في شقة لا يعلمها إلا الله في عالم جديد غريب علي.

صباح أول يوم

استيقظ الأصدقاء، وبعد الإفطار السريع، قررنا الذهاب إلى جادة الشانزليزي­ه، تلك الجادة الطويلة المشهورة بأنها أفخم جادة في العالم، إذ بها مطاعم متنوعة لذيذة، ومحلات من »الماركات « العالمية الفريدة، ولا ننســـى محل »سيفورا « المتخصص بالعطور الفرنسية الزكية.

كان قرارنـــا للذهاب إلى الجادة ليـــس لتلك المقاصد، وإنمـــا لنذهب إلى ســـفارة الكويت ـ أعزها الله ـ لنخبرهم بوصولنا بســـلام، ولنأخذ المخصصات المالية لنا.

دولتي الحبيبة الكويت لم تقصر معنا، فسهلت لنا كل السبل، وكانت خير عون لنا، فلن ننسى لها معروفها هذا في رحلة العلاج، فقد دفعت تكاليف العـــلاج، ناهيك عن أنها تدفع مصاريف الســـكن والمأكل، والتنزه، فجزى الله صاحب السمو الأمير، حفظه الله ورعاه، كل خير.

كيف نذهب إلى الشانزليزي­ه؟ (٤ (

إنني ممتن لدولتي الكويت على ما قدمته لي، وعلى كل خير رزقته بفضل الله أولا، ثم بفضل الكويت الحبيبة.

بلدي، إن النعم التي تحيط بأبنائك كثيرة، وإنك حريصة ـ ما استطعت ـ على راحتهم وإسعادهم. نحن في الكويت لا ينقصنا شيء.

نعيـــش برخـــاء كبيـــر، ورفاهيـــة عظيمة، ولا يبقى لنـــا إلا أمر واحد نغفل عنه، وهو الشكر لله على النعم. شكرا لله على كل النعم. إن من يشكر يزيده ربه، ومن يكفر فإن الله الغني الحميد.

أجمل شعور يخالج قلبك، هو شـــعور الســـعادة الذي سيســـري فيـــه حينما ترى الكويتيين في السفارة. قبل الدخول إلى السفارة، أنت في شارع غريب عليك، والناس فيه غربـــاء يتكلمون بلغة ـ ربما ـ لا تعرف كنهها.

لكن، مـــا إن تدخـــل إلى السفارة، حتى تظن أنك في إحدى الديوانيات المنتشـــر­ة في مناطـــق الكويت. عندما كنت في السفار، كان الناس ثلاثة أقسام: قسم يتكلم عن الجانب السلبي، فينفث زفير أحوال المريض على الجالسين، لكي يخففوا من آلامه، ولكي يستمعوا إلى حوارات عقله المتمثلة بالحزن والخوف على مريضه، وهنا لا يسعك إلا أن تســـتمع له، وتسأل الله أن يعافي مرضى الجميع.

القسم الثاني، وهم أولئك السعيدون الذين يتكلمون عن الجانب الإيجابي من الرحلة، فيتكلمون عن الأماكن الجميلة التي زاروهـــا، وتلك الأماكن التي يسعون لزيارتها.

أناس يتكلمون عن المطاعم اللذيـــذة، وعن تجربة المترو اللطيفة التي جربوها وقالوا عنها: إنها تجربة ممتعة.

القســـم الثالث: هو قسم الصامتـــي­ن الذيـــن يدخلون السفارة، فينتظرون دورهم، ثم يتكلمون مع الموظفين داخل الغرف، ثم يخرجون بصمت وهم يحملـــون على أكتافهم معاطفهم، أو يضعون أيديهم داخل جيوبهم. عن نفســـي، كنت أحـــب الاســـتما­ع إلى القسم الثاني من الناس، وهم الإيجابيون، ليس لأنني ضد ما يفعله الاخوة الشاكون، فلهم الحق بالشكوى، وأنا أشعر بمعاناتهم، وادعو الله لهم، لكنني لا أســـتطيع ـ حينها ـ الاستماع إلى شكوى المرض، لأن ما يشـــغل تفكيري كاف علي.

خرجنا بعد السفارة إلى جادة الشـــانزل­يزيه المهيبة الضخمة. قررنا أن نستمتع بها بعض الوقت. هذه الجادة جميلة جدا.

تخيل مكانا حيويا كبيرا، فيه أجناس من الناس، وينام على طرفيه المقاهي والمطاعم والمحلات المتنوعة المختلفة.

مررنا بجانب مقهى اسمه »فوكيت « ذلك المكان الذي يحب الجلوس فيه مشاهير الناس مـــن جميع دول العالم، وهو ذاته بمثابة هدف لرحلة بعض السائحين، وأعني أن بعض الســـواح يقصد هذه الجادة لكي يجلس في هـــذا المقهى ويلتقط صورا ليقول لأهله وزملائه: إني جلست في هذا المقهى العتيق.

قضينـــا بعض الوقت في الجادة: جلسنا في محل كعك جميل، وذهبنـــا إلى مطعم »بيتـــزا بيينو « الجميل (كل شـــيء جميل هنا فلا تنزعج من تكرار المفردة).

كانت إحـــدى أجمل أيام حياتي، تلك الأيام التي قضيتها في باريس، وخصوصا: جادة الشانزليزي­ه.

)٥ - يوم زيارة الطبيب):

ركبنا مـــع المترجم، وهو الشـــخص الذي يأخذنا إلى الطبيب، ويترجم له كلامنا ثم يترجم لنا كلام الطبيب لنعرف ما لنا وما علينا، والمترجم لا شك أنه ضروري لمن يذهب للعلاج في الخـــارج، لأن به تسهل الأمور ـ بعد الله تعالى، ولأنه يوصلك للمستشفى دون عناء ركوب المترو أو البحث عن تاكسي.

وقف المترجـــم عند باب المستشـــف­ى، فنزلنا ودخلنا إليه. كان الطبيـــب في قمة التواضع، إذ أنه يخرج بنفسه باحثا عن المريض فيقول له تعال. كان قبلنا مريض آخر اسمه إبراهيم، ولكن لم يأت، فجئنـــا للطبيـــب وقلنا له: نحن هنا. قال: »إنكم لســـتم مسجلين لدي في الملف لزيارتي في هذا اليوم، ولكن على كل حـــال، تفضلوا« . شـــكرناه، ودخلنا. تحدثنا عن المرض بعض الوقـــت ـ بإنجليزية ضعيفة ـ مـــع الطبيب قبل قدوم المترجم، وقام الطبيب ففحصني، حتى جاء المترجم وبدأ العمل الجاد. قال الطبيب: يجـــب أن نعمل »منظار « للمعـــدة لنطمئـــن علـــى صحته.

قلنـــا لا بـــأس، فتحدث المترجم معه عن وقت المنظار، وأخذنا موعـــد خاص، إذ أن الطبيب لديه مواعيد رسمية عبر »كمبيوتر « المستشفى، ولديه مواعيد خاصة في هاتفه الخاص »الآي فون« فأخرج لنا »الآي فون« ووضع لنا موعد قريب. أعطانا بعض الأوراق لنعمل بعـــض الفحوصات اللازمة، وانتهى اللقاء.

الـــذي أعجبني فـــي هذا الطبيب التواضع، ان المترجم عندما دخل معنا في الغرفة، ولـــم يكن هناك كرســـي له، قام الطبيب وخرج حتى عاد إلينا ومعه كرسي للمترجم فانظر إلى التواضع والبساطة. المستشـــف­ى كذلك، مكانه بين الأزقة، وشكله الخارجي أقل من عادي، حتى عندما تدخله تجده متواضعا، لكن نظافته فائقة، تشخيص الأطباء به دقيق، أجهزته متطورة.

إني رأيت في مستشفيات باريس البساطة في الظاهر، والجودة فـــي الباطن، وهذا هو ســـبب تفوقهم، إذ أنهم يهتمـــون كثيرا في الجوهر، دون التفاخر ـ أحيانا ـ بروعة المظهر.

خرجنا من المستشـــف­ى، بعد أن أصبحت لدينا مهمات طبية: فلدينا موعد مع طبيب التخدير قبل موعد المنظار، وموعد لعمل »سونار « للمرارة، وطلب تحليـــل دم، وأخيرا: موعد المنظار الحبيب.

قلت لأبي: »ما رأيك أن نأخذ موعدا عند طبيـــب العيون لنطمئن على عيني؟ «.

قال: »فكرة جميلة« . فذهبنا لطبيـــب العيون. كانت لديه عمليات هذا اليوم، فلم يكن هناك متسع إلا أن أضع عند الاستقبال اسمي لموعد قادم لزيـــارة الطبيـــب، وهذا ما حدث، بعد ذلـــك رجعنا إلى الشانزليزي­ه.

ودعنا المترجـــم، وذهبنا إلى إحدى المطاعم لنأكل فيه ـ حسب ما أتذكر.

في السفر للعلاج، أجمل شـــيء تفعله هو أن تخرج للتنزه وللأكل لكي ينشرح صدرك بعد زيارة الطبيب. فلا شك أن زيارة الطبيب مقلقة قليلا، لذا فالاستمتاع بمكان ما بعدها أمر حميد.

في الشانزليزي­ه، تعجبت عندما رأيت أفواجا من الناس تقف كالحديد في صف طويل قبل دخولها إلى محل معين: ما هذا المحل الـــذي يقف له الناس بالصف دون انزعاج لكـــي يدخلوا إليه فيرموا به أموالهم؟ ولما نظرت إليه: عرفت أنه محل »لويس ڤيتون« ، وهو محل لبيع حقائب النســـاء الفخمـــة، ذات الجلد القوي، المصنوع من جلود الثعابين وغيرها من الجلـــود النادر بعضها. هذا المحل غالي جدا، ومع ذلك، فالناس يزحفون إليه أفواجا. ابتسمت حينها وتذكرت أهلي في الكويت، إذ أن النساء يشتركن كلهن في حب الحقائب (واتحداك تقول: لا)، لكن ابتسامتي كانت قائمة على أن نساءنا مسكينات، فهن يشترين الحقائب الرخيصة نوعا ما، ونحن نستغرب منهن لكثرة ما يشـــترون، وهؤلاء النسوة في باريس، يحذفن مالا عظيما في مقابل شنطة واحدة والطريف أن أزواجهن فرحون بمـــا أتاهم ربهم من نســـاء. لكل شأنه في كيفية إنفاق أمواله، ولست أقول ان الأمر خطـــأ، ولكني تعجبت من المنظر.

 ??  ?? ممشى بجانب برج إيڤل
ممشى بجانب برج إيڤل

Newspapers in Arabic

Newspapers from Kuwait