Al-Anbaa

تركيا: التموضع الجديد وإعادة صياغة الدور الإقليمي

-

فرضت التحولات الأخيرة، سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي، على تركيا القيام بحراك استراتيجي للبقاء في تركيبة المنطقة، وبإعادة التموضع السريع واللحاق بركب قطار المنطقة المتجه نحو دمشق. فتركيا أدركت الخطأ الذي وقعت فيه وفشل سياستها وأنه لم يعد هناك مجال للمغامرات، والقفز من المركب الغارق بات ضروريا، وطوق النجاة الوحيد المتوافر هو الولوج الى تركيبة المنطقة القادمة عبر تبني استراتيجية مكافحة الإرهاب والتي ستحول تركيا الى شريك أساسي لمعظم دول المنطقة في حربها على الفصائل والتنظيمات الإرهابية، كما أدركت أن الرهان على إسقاط النظام السوري يتراجع، وأن انعقاد مؤتمر «جنيڤ 2» يمكن أن يرسخ هذا الاعتقاد، فبدأت بالشروع في البحث عن توازن جديد، من خلال إعادة وصل الجسور المقطوعة مع البلدين الجارين، العراق وإيران. في هذا الإطار، قام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بزيارة إلى طهران بعد زيارة نظيره الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة التي أكد خلالها الوزيران على أن ما يربط بين البلدين من اتفاقات حول القضايا الإقليمية هو أكثر من الخلافات. وأرفقت تركيا خطوتها باتجاه إيران بخطوة مماثلة ومكملة باتجاه العراق الذي زاره أوغلو، وجاءت زيارته التي فتحت صفحة جديدة من العلاقات في إطار استباق أي تحولات جذرية على مسار التسوية في سورية والمنطقة بعد «المتغيرات المهمة التي تشهدها المنطقة، ومن بينها التقارب الأميركي ـ الإيراني، حتى إذا كانت التسوية في «جنيڤ 2» جدية كان لتركيا بعض المكاسب ولو المحدودة، وحتى لا تخرج بخفي حنين. أما بالنسبة للانفتاح على إيران، خصوصا بعد انتخاب الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، فإنه حصل بعد إدراك تركيا الخطر من وجود العناصر المتشددة على حدودها. ومازالت هناك خلافات بين أنقرة وطهران بشأن الصراع الدائر في سورية، خاصة فيما يتعلق بدور الأسد في أي حكومة انتقالية، لكن البلدين يريدان تحسين العلاقات ويريان أن بإمكانهما العمل معا فيما يتعلق بسورية، وأن الوضع يحتاج لحل عاجل. وفي عز احتدام الأزمة السورية، توافق البلدان على تحييد علاقاتهما عن تداعياتها، والآن تتوافر أرضية سياسية مشتركة في الملف السوري سمحت بالدعوة الى وقف النار وتهيئة ظروف الحل السياسي. خسارة تركيا لأهم ملفين في المنطقة، وهما سورية ومصر، قربتها من إيران الغريمة الأخرى، وأذاب الجليد الذي يغطي سقف العلاقة بينهما. إضافة الى ذلك، أصبحت تركيا بمواجهة عاملين ضاغطين أحدهما داخلي يتمثل بالتظاهرات التي قادها بعض الناشطين وسببت إحراجا لحكومة أردوغان، وأضعف موقفها الداعم للحريات في العالمين العربي والإسلامي، وآخر خارجي تمثل في نجاح طهران، ولو ظاهريا، في نسج علاقة طموحة مع واشنطن. وذهب أردوغان الى أبعد من إيران ووصل الى الصين في عملية إعادة التموضع الاستراتيج­ي بعدما خذله حليفه باراك أوباما باتفاق أميركي ـ إيراني، ومع رؤية استباقية لتطور الأحداث واستيعابه لخارطة الطريق الأميركية الجديدة وتلويحه لأوباما بأهميته كلاعب استراتيجي لإثبات دوره القيادي في المنطقة وكفرصة تعيد ترؤسه لحكومة جديدة، وبالتالي يحافظ على أمن بلاده واستقرارها الداخلي من مجريات التطورات الدراماتيك­ية التي قد تحدثها التسويات والمفاوضات على بعض دول المنطقة العربية في جنيڤ 2 أو 3. وفي المقابل، يحذر أميركا بعدم التخلي عن حلفائها القدامى في المنطقة وموقعها الاستراتيج­ي بعد هيمنة الصين سياسيا واقتصاديا في المنطقة. هناك عدة أمور حتمت على الجانب التركي هذا الحراك وأدت الى تغيير متسارع لمواقفه ولا يمكن تجاهل أهميتها، ومنها: ٭ تحسين صورتها في الشرق الأوسط التي تضررت كثيرا نتيجة للنزاع الدائر في سورية وتوتر علاقاتها الديبلوماس­ية مع مصر. ٭ تراجع الدور التركي على الصعيد الإقليمي، خصوصا بعد الضربات التي تعرض لها حلفاؤها في دول الربيع العربي بدءا بسقوط الرئيس «الإخواني » محمد مرسي في مصر الذي كان يعتبر الحليف الأبرز لأردوغان، إضافة الى تونس وليبيا، لاسيما بعد أن راهن الأخير على استثمارات هائلة في السوق المصرية الكبيرة، وعلى نجاح تجربته من أجل نقل النموذج التركي إلى دول أخرى. ٭ تخلي أميركا تقريبا عن مبدأ إسقاط الأسد، وتوصلها الى اتفاق مفاجئ حول تفكيك الاسلحة الكيماوية السورية بتنسيق مع موسكو والتراجع عن الضربة العسكرية. وتطور الأحداث السورية على نحو معاكس للأهداف التركية أدى إلى تضرر مصالحها إلى حد بعيد. ٭ أجواء التسوية التي دخلت فيها المنطقة، لاسيما بعد الاتفاق الروسي ـ الأميركي على السلاح الكيميائي السوري، ومن ثم الاتفاق الإيراني الأميركي )الدولي( حول الملف النووي، ما يؤشر إلى تبدل في التعاطي مع ملفات أخرى، لاسيما على صعيد الملف السوري الذي بات يشكل خطرا كبيرا على العديد من الدول الحليفة لواشنطن. ٭ تهميش تركيا ودورها في مؤتمر «جنيڤ 2» وعدم التشاور والتنسيق معها فيما يتعلق بالملف السوري والحلول السلمية السياسية بما لا يتلاءم مع حجمها ودورها وتضحياتها. وعلى ما يبدو ستستبعد أنقرة من مائدته فيما ستكون الرياض وطهران الى المائدة فيه مع واشنطن وموسكو. ٭ الخرق الديبلوماس­ي الإيراني في المجال النووي، لاسيما أن أميركا في طريقها للاعتراف بإيران نووية. وجاءت الطامة الكبرى عندما فتحت الإدارة الأميركية حوارا مع إيران من وراء ظهر تركيا، وتخلت تماما عن الحلول العسكرية للملفين السوري والإيراني لمصلحة الحلول السياسية التفاوضية. ان خذلان أميركا لتركيا بعدم دعمها للمعارضة السورية، أو توجيهها أي ضربة عسكرية تضعف النظام بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية، وتفردها بتسوية للملف النووي الإيراني بإعطاء إيران دورا إقليميا قد ينافسها على قيادة المنطقة والسيطرة عليها، أقلق تركيا، خصوصا بعد تخلي أميركا عن حلفائها القدامى في المنطقة بتحجيمها الدورين السعودي والقطري لدعمهما التيارات الأصولية المسلمة في مصر وسورية، وزادها خوفا من تداعيات الأزمة السورية على أمنها القومي. ٭ تحرك الأقلية العلوية في تركيا ضد حكومة أردوغان، ونزول الآلاف للمطالبة بالاعتراف بهويتها الطائفية وفتح مساجدها وتدريس مذهبها في مدارس خاصة بتحريض من سورية ورجالاتها في تركيا. ٭ اكتشاف المخابرات التركية عمليات تجنيد من قبل الجماعات الجهادية المقاتلة في سورية لشباب تركي في المناطق المحاذية للحدود للقتال في صفوفها، وبأعداد كبيرة. ٭ الخشية من الدولة الكردية التي تمتد من الحدود العراقية ـ السورية في الشرق الى الحدود السورية ـ التركية في الغرب. فقد تصاعدت قوة الأكراد في سورية حيث شكلوا إدارة حكم ذاتي مستقل في أقصى الشمال السوري، والحكم الذاتي هو مقدمة للانفصال وإعلان كيان كردي مستقل على غرار ما حدث في شمال العراق وقيام حزام كردي على طول الحدود التركية الجنوبية، إضافة الى سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على مسافة واسعة من حدودها، الأمر الذي بات يشكل خطرا داهما على الأمن القومي التركي. والمخاطر الكردية بالنسبة لأردوغان لم تعد تقف عند حدود أكراد سورية، بل هي الآن ممتدة إلى أكراد تركيا أنفسهم. فعلى ما يبدو أن أردوغان يواجه تهديدات حقيقية لمشروعه الإصلاحي مع أكراد تركيا. تركيا تدرك الآن أن عليها تحقيق التوازن في معارضتها للنظام السوري عن طريق اتخاذ تدابير لاحتواء الأكراد في سورية، الأمر الذي يتطلب وجود تحسن في علاقاتها مع إيران والعراق. كل هذه العوامل وتسارع الاستحقاقا­ت، لاسيما الانتخابات التي باتت قريبة وتعتبر مصيرية بالنسبة لأردوعان، دفعت تركيا إلى مراجعة سياستها الخارجية مع جوارها الإقليمي وإعادة صياغتها بما يضمن لها الخروج بأقل الخسائر الممكنة، ولتثبت موقعها كلاعب استراتيجي لا يستغنى عنه. وهي مراجعة ستكون لها انعكاسات حتمية على دول أخرى تقع في البيئة الإقليمية شرق الأوسطية. كيف سيؤثر التقارب التركي ـ العراقي، والتركي ـ الإيراني على معادلات توازن القوى الإقليمي؟ وكيف سيؤثر بالتحديد على الأزمة السورية؟ وهل المخاوف من امتدادات الصراع الطائفي في سورية إلى الجوار الإقليمي تكفي لضمان نجاح واستمرار هذا التقارب؟ أسئلة مهمة ستجيب عنها الأيام المقبلة.

 ??  ?? رئيس الوزار التركي رجب طيب اردوغان ورئيس هيئة الأركان العامة نجدت أوزيل ووزير الدفاع عصمت يلماز على ضريح مصطفى اتاتورك امس )ا ف ب(
رئيس الوزار التركي رجب طيب اردوغان ورئيس هيئة الأركان العامة نجدت أوزيل ووزير الدفاع عصمت يلماز على ضريح مصطفى اتاتورك امس )ا ف ب(

Newspapers in Arabic

Newspapers from Kuwait