بين «درايش» وضاح و«منبر» خداج
أرسـلـت للصديق الشاعر عــادل خـــداج- أحــد رواد الزجل اللبناني المعاصر- رسالة نصية ضمنتها أبياتا قرأتها في زاوية «درايش» التي يتحفنا من خاللها الشاعر الكويتي «وضاح» بكل ما يستأهل المتابعة واالهتمام، فأرسل لي على الفور تعقيبا ارتجاليا على مستوى اإلبداع نفسه المرسل إليه. فقد قال وضاح باللهجة الكويتية: حتى لو شفناه بالصف األمامي
كل واحد في البشر عارف مكانه طاهر الذمة من الشخص الحرامي
والشريف من الذي خان األمانه واحد ايحس بفخر تاريخه سامي
وواحد - ومهما عال- يحس بإهانه ما نضيع في الصور بين األسامي
وذاكرتنا قط ما تنسى زمانه وأجابه خداج باللهجة اللبنانية: شو بخاطبك يا كرسة القدام
رمز الوجاهة وكذبة األوهام وين ما تكوني مركزك مكشوف
َِّ ما في غلط بيحقق األحالم وكرسة الحقيقية صفا معروف
صوت الوعي وعالضيم ما بتنام من صدقها بتملك قلوب ألوف
بترفعلها الرايات واألعالم هذه المحاورة الشعرية التي تمت عن بعد فتحت أمــــام عـيـنـيـي نــافــذتــيــن، واحـــــدة سـمـحـت لـلـضـوء بتظهير البراعة فـي معالجة المضمون، وأخـرى فتحت آفاق الذهن أمام تقارب المجتمعين الكويتي واللبناني والتقائهما على كثير من االيجابيات والسلبيات. فليس مستغربا وال جديدا أن يكون الشعر وجدان الـــشـــعـــوب ومـــــــرآة عـــاكـــســـة ألحــــوالــــه االجــتــمــاعــيــة واالقتصادية والسياسية، بواقعها وتطلعاتها، بحسناتها وسيئاتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بـانـتـصـاراتـهـا وهـزائـمـهـا، فكيف الــحــال بالشعر العامي الذي عادة ما يكون بلهجتة المحكية أقرب الى مفردات المجتمع ويكون صاحبه أكثر التصاقا وتفاعال مع ما يحيط به من أقوال وأفعال وأحوال؟ ومــــن هــنــا نـــدخـــل عــلــى نـــجـــاح «درايــــــــش» وضــــاح و«مـــنـــبـــر» خــــــــداج- كــــل بـــأســـلـــوبـــه وعـــلـــى طـريـقـتـه المتجذرة فـي بطاح األدب الشعبي- فـي صناعة «الــدهــشــة» الشعرية الـتـي تلفت انـتـبـاه المستمع والقارئ الى ما تتضمنه أبياتهم من أفكار وأخبار تتصل بمكارم أو مفاسد المجتمع أو تتعلق بما تمليه السياسة من مستجدات أو يفرضه االقتصاد من أحوال، وما يجلبه العصر من تطورات وينقله التاريخ من أحداث. ال شك أن من متطلبات نجاح الشعر المنبري- الذي يمثله الزجل اللبناني، والشعر الشعبي الذي من أنــواعــه الـزهـيـري الـكـويـتـي- تـمـتـع الـشـاعـر بـذكـاء حاد وذاكرة حاضرة ومخزون ثقافي، مما يمكنه من دقة المالحظة وسرعة التفاعل مع واقع الحال وارتجال األبيات التي تعبر عن موقفه منها، نقدا كان أم إطراء، ومن ثم تتكامل هذه الخصال المالزمة لنجاح أي ناظم للشعر، مع ما يتمتع به كل شاعر على حدة من مزايا وصفات، فليس خافيا في هذا السياق ظرف وعفوية وحضور الشاعر اللبناني عادل خداج وتأثير ذلك على تقريب قوله من قلوب المتلقين، كما ليس مستعصيا اكتشاف المتابعة الدقيقة للشاعر وضاح لكل ما يدور في الكويت من أحداث ومواقف و«هبات»، األمر الذي جعل «درايشه» سهلة على الفهم وقريبة من الواقع ونقال صادقا للموقف منها.
*** قـــد يــبــدو مـــوضـــوع الـقـصـيـدتـيـن مــســألــة مـعـتـادة وظـــاهـــرة مـــوجـــودة فـــي كـثـيـر مـــن الــشــعــوب الـتـي يــنــشــغــل فــيــهــا الــــمــــرء بــالــمــظــهــر ويـــتـــغـــاضـــى عـن الجوهر، متباهيا بأصل أو انتماء ال يقدم لرفعتهما أي جـديـد، ويعتز بمنصب قـــدم لـه على طبق من الـمـجـامـلـة بـغـيـر اســتــحــقــاق، إال أن عــقــدة الـصـف األمامي وشغل الكرسي المتقدم أصبحت ظاهرة مؤثرة في المجتمعين الكويتي واللبناني اللذينرغم تمتعهما بكثير من التميز الفكري والثقافييعانيان من مجموعة ظواهر سلبية أثرت بالفعل فـــي خـلـخـلـة أواصـــــر الــحــاضــر وتــأكــيــد الــقــلــق من الــمــســتــقــبــل، فــالــفــســاد أصـــبـــح ظــــاهــــرة، والــحــســد أضحى معضلة، والفردية شكلت داء، واالنقسام المجتمعي آفة، والمظاهر الخادعة قاتلة، وااللتفات عن التحديات والتكاسل عن التصدي الجدي لها أمست العائق الرئيس والتحدي األساسي، حتى صار الطامح الى التميز يسارع الى شغل الصفوف األمامية- حتى في إمامة الصالة- من غير أن يكون مؤهال لذلك ودون أن يتحسس عواقب المسؤولية ومتطلبات االستحقاق! وهــــذا حـقـيـقـة مـــا ذكـــرنـــي بــمــقــال نــشــرتــه بـتـاريـخ 2022/10/11 ارتبط مضمونه بقصيدتي عن حرف «الـــــدال» وعــقــدة األلـــقـــاب، وهـــذا أيــضــا مــا سـبـق أن دفعني في إحــدى المناسبات الـى ارتـجـال بعض األبيات التي تتطابق في مضمونها ورسالتها مع ما قاله الشاعران الكبيران وضاح وخـداج، والتي ختمت فيها بنصح شخص حاسد اغتاظ من تكريم صاحبه بوسام، قائال له باللهجة اللبنانية: للناس الـ عاشت أوهام
إنا من أهل اإلكرام من حقا عليي قال
وواجهها بصدق الكالم الواحد بالدنيي عايش
تا يطلع لقدام مش تا يتفرج عا الناس
ويعيش بحسرة وآالم ويقضي عمرو مغتاظ
وحاسد كل ساعي ومقدام بـدك تتكــرم؟ الزم:
جهدك يستاهل بوسام
* كاتب ومستشار قانوني