Al Shabiba

عجز أمريكا المنسي

-

من أكثر الأســـاطي­ر انتشـــاراً حـــول الولايات المتحـــدة أن الحكومة الفيدرالية لم تتخلف قَط عن سداد ديونها. وفي كل مرة تُطرَح قضية سقف الديون للمناقشة في الكونجرس، ينفض الساسة والصحافيون الغبار عن عبارة مجازية: الولايات المتحدة لا تسيء معاملة دائنيها«.

لكن هناك مشـــكلة واحدة: هذا غير صحيح. فذات يوم، قبل عقود من الزمن، عندما كانت تصرفـــات الولايات المتحدة أقرب إلى تلك التي نشـــهدها في »جمهوريات الموز« وليس الاقتصادات المتقدمة، كانـــت تعيد هيكلة الديون من جانب واحد وبأثر رجعي. ورغم أن قِلة من الناس يتذكرون هذه الفترة الحرجة من التاريخ الاقتصادي، فإنها تحمل دروسا قيمة لقادة اليوم.

في أبريل من العام 1933، وفي محاولة لمساعدة الولايات المتحدة على الهروب من الكســـاد العظيم، أعلن الرئيس فرانكلين روزفلت عـــن خطط لإخراج الولايات المتحدة من معيار الذهب وخفض قيمة الدولار. لكن هذا لم يكن ســـهلا كما تصور روزفلـــت. ذلك أن أغلب عقود الدين في ذلك الوقت كانت تشمل »فقرة الذهب«، التي كانت تقضي بأن يدفع المدين بالعملة الذهبية أو ما يعادل الذهب«. وجرى تقديم هذه الفقرات أثناء الحرب الأهلية كوسيلة لحماية المستثمرين من زيادة تضخمية محتملة. ولكـــن من منظور روزفلت، كانت فقرة الذهـــب تمثل عقبة أمام خفض قيمة العملة. فإذا جرى خفض قيمة العملة مـــن دون معالجة القضية التعاقدية، فإن قيمة الديون بالدولار ســـوف تزداد تلقائياً للتعويض عن سعر الصرف الأضعف، فيفضي هذا إلى حالات إفلاس ضخمة وزيادات هائلة في الدين العام.

لحل هذه المشـــكلة، أصدر الكونجرس قرارا مشتركا في الخامس من يونيو 1933، والـــذي قضى بإلغاء كل فقرات الذهب في العقود الفائتة والجديدة في المســـتقب­ل. وصار البـــاب مفتوحاً أمام خفض قيمة العملة ــ ومعركة سياســـية. وكان الجمهوريون في غاية الإحباط والغضب إزاء تعريض ســـمعة البلاد للخطـــر، فـــي حيـــن زعمـــت إدارة روزفلت أن القرار لا يرقى إلى »فسخ العقود«.

فـــي الثلاثين مـــن ينايـــر 1934، جرى خفـــض قيمة الدولار رســـميا. وارتفـــع ســـعر الذهب مـــن 20.67 دولارا للأونصـــة ــ وهو الســـعر الذي ظـــل ســـاريا منـــذ العـــام 1834 ـــــ إلـــى 35 دولارا للأونصـــة. ولم يكن مـــن المســـتغر­ب أن يزعـــم أولئك الذيـــن كانـــوا يحملون أوراقـــا مالية محميـــة بفقـــرة الذهـــب أن الإلغاء غيـــر دســـتوري. وأقيمـــت الدعاوى القضائيـــ­ة، ووصلت أربـــع منها إلى المحكمة العليـــا في نهاية المطاف؛ وفـــي يناير 1935، نظـــر القضاة قضيتين تتعلـــق كل منهما بديون خاصة، وقضيتين تتعلقان بالتزامات حكومية.

وكان الســـؤال الأساســـي في كل قضية هو ذاته في الأساس: هل يملك الكونجرس سلطة تغيير العقود بأثر رجعي؟

في الثامن عشر من فبراير 1935، أعلنت المحكمة العليا قراراتها. وفـــي كل قضية حكم القضاة بواقع 5 إلى 4 لصالح الحكومة ــ وضد المستثمرين الســـاعين إلى الحصول على التعويض. وبموجب رأي الأغلبية، تمكنت إدارة روزفلت من استحضار »الضرورة« كمبرر لإلغاء العقود إذا كان ذلك ليساعد في تحرير الاقتصاد من الكساد العظيم.

وكتب القاضي جيمـــس كلارك ماك رينولـــدز، المحامي الجنوبي الـــذي كان النائب العام خلال ولاية الرئيس وودرو ويلســـون الأولى، رأيا مخالفا ــ رأيا واحدا للقضايا الأربع. وفي خطاب مقتضب، تحدث عن قدسية العقود، والالتزاما­ت الحكومية، وفسخ العقود تحت ستار القانون. وأنهى عرضه بكلمات قوية: »عار علينا ومذلة. والآن نستطيع أن نتوقع الفوضى الأخلاقية والمالية بقدر كبير من الثقة«.

لقد نسى أغلب الأمريكيين هذا الحدث، حيث غطى فقدان الذاكرة الجمعية على حدث يتناقض مع صورة دولة يسود فيها حكم القانون وتُقَ دس العقود.

لكن المحامين المخضرمين ما زالوا يتذكرونها؛ وهم يستحضرون اليوم الحكم الصادر في العام 1935 عندما يدافع المحامون عن دول تخلفت عن سداد ديونها (مثل فنزويلا). وفي حين تتصدى حكومات متزايـــدة لمخاطر جديـــدة مرتبطة بالديون ــ مثـــل المطلوبات غير الممولة المرتبطـــ­ة بالتزامات التقاعد والرعاية الصحية ــ فربما نرى هذه الحجة تعود إلى الظهور بشكل أكثر تكراراً.

وفقا لتقديرات حديثة، تعادل المطلوبات غير الممولة المســـتحق­ة علـــى حكومـــة الولايـــا­ت المتحدة نســـبة مذهلة بلغـــت %260 من الناتج المحلي الإجمالي ــ ولا يشمل هذا الديون الفيدرالية التقليدية والالتزامـ­ــات غيـــر الممولة المســـتحق­ة على الولايـــا­ت والحكومات المحليـــة. ولا تتفرد أمريكا بهذه المشـــكلة؛ ففـــي العديد من الدول تتزايد الالتزامات المرتبطة بمعاشات التقاعد والرعاية الصحية، في حين تتضاءل القدرة على تغطية هذه الالتزامات.

الســـؤال الأساســـي إذن هو ما إذا كانت الحكومات الســـاعية إلى تعديل العقود بأثر رجعي قد تســـتحضر مرة أخرى حجة »الضرورة« القانونية. الواقع أن إلغاء فقرة الذهب في العام 1933 يوفر أســـبابا قانونيـــة واقتصادية وفيـــرة للنظر في هـــذا الاحتمـــا­ل. وقد وافقت المحكمة العليا في الولايات المتحدة على حجة »الضرورة« من قبل. وليس من المستبعد أن نتصور إمكانية حدوث ذلك مرة أخرى.

السؤال الأساسي هو ما إذا كانت الحكومات الساعية إلى تعديل العقود بأثر رجعي قد تستحضر مرة أخرى حجة »الضرورة« القانونية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Oman