Al-Watan (Qatar)

َ تطورات الضفة والبعث الفلسطيني المنتظر

- أحمد أبو رتيمة كاتب فلسطيني

لا يحتاج الأمر إلى تعمقٍ في التحليل لنلحظَ أن واقعاً جديداً آخذٌ في التشكل في الضفة الغربية الفلسطينية، وأن ملامح هذا الواقع التي بدأت منذ أكثر من عامٍ، تتسعُ وتمتدّ. في الشهر الأخير لا يمضي يومٌ واحدٌ دون عمليات إطلاقِ نارٍ عديدةٍ تستهدف جنود الاحتلال ومستوطنيه، وهو ما أدى إلى مقتل عددٍ من الجنودِ، هذا عدا اتساع أعمال إحراق مواقع الجيش وإلقاء الزجاجات الحارقة والحجارة على مركبات الجنود والمستوطني­ن، وقد مثلت هذه التطورات استنزافاً أمنياً ونفسياً حقيقياً للاحتلال بعد سنواتٍ طويلةٍ من الهدوء المجاني. تعرضت الضفة إلى عدوانٍ ثلاثي مكثفٍ منذ نهاية آذار/ مارس عام 2002 حين شن شارون حملة السور الواقي التي قتل فيها مئات الفلسطينيي­ن واعتقل الآلاف وفكك بنى الفصائل العسكرية فيها. ثم تعزز هذا العدوان بطي صفحة ياسر عرفات الذي كان يؤمن بالمقاومة خياراً قابلاً للاستحضارِ من أجل الضغط السياسي. لقد كان الواقع الوطني في الضفة باعثاً على الإحباطِ طوال السنواتِ الماضية، حتى إن عدواناً واسع النطاق على غزة لم يكن كافياً لاستفزاز الحراك الشعبي في الضفةِ، لكن نوراً بدأ ينبلج من نهاية النفق في السنة الأخيرة. بدايات استعادة الحراك الشعبي في الضفة مرتبطةٌ عضوياً بتراجع قبضة أجهزة أمن السلطة، وهذا ما نلحظه الآن، حيث إن أنشطة المقاومة تتركز في المناطق التي يضعف حضور السلطة فيها، مثل مخيم جنين ونابلس ومخيم شعفاط، وربما كان لنفاد رصيد الثقة الشعبيّ بالسلطةِ، خاصةً بعد سلسلةٍ من الأحداث مثل إلغاء الانتخابات التشريعية، وسلبية موقف السلطة من الاعتداءات في القدس، واغتيال الناشط نزار بنات، وصورة المقاومة التي قدمتها غزة وأثارت مخيلة الفلسطينيي­ن، والانسداد السياسي في مشهد الحكم داخل دولة الاحتلال. هذه التطورات وغيرها جرأت مزيداً من الفلسطينيي­ن على كسر حاجز الخوف من بطش السلطة والاحتلال. ثمة عاملٌ مهمٌ لا يمكن إغفاله وهو ولادة رموزٍ وطنيةٍ جديدةٍ في الضفة، مثل إبراهيم النابلسي، وهو شابٌ صغيرٌ ولد بعد عملية السور الواقي، ولم يتجاوز التاسعة عشر من عمره، فقد قاوم جيش الاحتلال في مدينة نابلس وقُتِل، وأرسل رسالةً صوتيةً قبل مقتله بدقائق يوصي فيها الشباب بألا يلقوا السلاح. ربما كان لهذه الوصية المقتضبة من شابٍ يواجه الموت ويقف على بعد مترين منه أثر كبير في استفزاز الروح الوطنية في نفوس الشباب، وظهر تطبيق وصيته حرفياً في تنامي اسم مجموعة «عرين الأسود » في نابلس التي تضم أفراداً من كافة الفصائل التقليدية، وهي المسؤولة عن معظم العمليات الراهنة. الرمز الآخر للصحوة الثورية الراهنة هو فتحي خازم أبو رعد الذي نفذ ولده رعد عمليةً في ديزنكوف، وكانت تلك اللحظة التي انتشر فيها اسمه في فلسطين بعد أن أعلن تحدي الاحتلال ورفض تسليم نفسه. وألقى الأب في المعزين كلمةً مشحونةً بالمشاعر أكد فيها ثباته في طريق ذات الشوكة وأنه لن يستسلم. تعرض أبو رعد لعملياتٍ انتقاميةٍ من الاحتلال، تمثلت في هدم بيته وقتل ابنه الآخر، لكن هذا الاستهداف الاحتلالي له عزز رصيد ثقة الناس به والتفوا حوله واتخذوه رمزاً وطنياً. حالياً ينظر الفلسطينيو­ن إلى أبي رعدٍ أنه قائدٌ وطني ويلتف حوله عشرات المسلحين حين يظهر في مخيم جنين. وقد كتبت صحيفة «إسرائيل اليوم» عنه تقريرا في وقت سابق، بعنوان «ولادة بطل جديد» قالت فيه: «فتحي خازم يصبح بطلاً جديداً في الشارع الفلسطيني». وأضافت: «دعا فتحي خازم، في خطابه الأخير الذي ألقاه في نهاية هذا الأسبوع عقب اغتيال نجله عبد خازم خلال عملية الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين، أصدقاءه في جهاز الأمن الفلسطيني للانضمام إلى القتال ضد إسرائيل، تم تسجيل كلماته، وتحميلها على الشبكات الاجتماعية، وتلقى ردودا متعاطفة». وواصلت صحيفة إسرائيل اليوم: «يقول الفلسطينيو­ن إنهم منذ فترة طويلة لم يروا مثل هذا الشخص الذي يجرؤ على تحدي إسرائيل والسلطة الفلسطينية بهذه الطريقة الجريئة والعلنية. يحظى بالكثير من التعاطف، ويتمكن من اجتذاب الكثير من الشباب، كما يعتبره الجمهور الفلسطيني قائدا، يتبعه الشباب الفلسطينيو­ن ويرونه نموذجا يحتذى به». انتهى الاقتباس. اللافت للنظرِ في حالة «أبي رعد» أنه ضابط سابق في أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، أي أنه كان وفق الرؤية الإسرائيلي­ة والأميركية يمثل أداةً لتنفيذ مخططات منع أي انتفاضةٍ جديدةٍ في الضفة، وللمفارقة فإن دوره الآن يمثل نقيضاً جذرياً لهذه الرؤية، فهو يقود برمزية شخصيته حالةً ثورية حقيقيةً. إبراهيم النابلسي وأبو رعد وغيرهما ممن برزوا في الأحداث الأخيرةِ لم يأتوا من داخل البنى التقليدية لفصائل المقاومة الفلسطينية، وهذا درسٌ مهم بأن من يقود المبادرةَ والتغيير دائماً هم الأكثر تحرراً من الجمودِ والأكثر مرونةً في توليدِ صيغٍ جديدةٍ، وهو مؤشرٌ على الحيوية الثورية الكامنةِ في وعي الشعبِ، والتي سعت دولة الاحتلال ومعاوِنوها بكل سبيلٍ إلى قتلها طوال السنوات الماضية. تدورُ أسئلةٌ كثيرةٌ في فضاء النقاش الإعلامي والسياسي عن الموجة الجديدة من التصعيدِ الفلسطيني، لكن السبب الأهم الذي يغفله المستعمِرون عادةً هو أن الاستعمار وسياساته هو أكبر محرض لروحِ المقاومة وأكبر باعثٍ للصحوةِ من جديد في نفوس الواقعين تحت الظلمِ، وأن كل سياسات القمعِ والترهيبِ والترغيبِ قد تنجح في إضعافِ إرادة التحررِ حيناً من الدهر، لكنها لن تنجح في قتل هذه الإرادة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar