Al-Watan (Qatar)

الخريف.. ورصيف العمر

- سعاد فهد المعجل كاتبة كويتية

يَتَسلّل الخريف بِصَخب مع نهاية سبتمبر، ولا يمكن لعين الإنسان ولا لفؤاده أن يخطئا لحظة عبوره، وقد اعتدت كتابة مقال مع كل قدوم للخريف، حتى خِلْتُ أني قد استنزفت صفاته، لكنه يبقى فصلاً نزقاً وموسماً مثيرًا ومُحفّزًا لكل أوجه المشاعر والأحاسيس. تَعصِف الريح بالشجر لِتُسقِط رداءه الصيفي، وتزدَحم الطرقات والحدائق والغابات بألوان الخريف التي تبدو كالحريق بوهجه، وكغياب الشمس بِصفارها وألوانها الخلّابة، ومع تساقط لِحاف الشجر، تقفز وتتراكض الأوراق الساقطة من كل الأعمار، بعضها سرق منه جنوح الخريف كل رحيقه، فتساقط يابساً يكاد يخلو من اللون والروح، وبعضها يبدو في منتصف العمر أو منتصف اللون فيتَخلّل لونه الداكن بعض من حياة توحي بلون كان يومًا زاهيًا، بينما تسقط بعض وريقات الشجر في بداية عمرها فتبدو كالأطفال مُفعَمة بالحياة والألوان، لكنها عاجزة عن الصمود في وجه رياح الخريف الشقيّة. غالباً ما يقترن خريف الطبيعة بخريف العمر للإنسان، فعلى رصيف العمر تتهاوى سنوات الإنسان وتنزلق تماماً كما تتداعى أوراق الشجر مع قدوم الخريف، ومعه تسقط أوراق أشخاص التقيناهم في طريق العمر، بعضهم سقَطَ كالورق اليابس والخالي من الحياة، وبعضهم احتفظ بلونه الزاهي، فبقيت صورته وبريقه لا يطولهما عصف الأيام وسرعتها. سقوط أوراق الشجر، مثله مثل تسابق الأيام في حياة الإنسان، غير أن ذلك ليس دائماً عنواناً لنهاية الأشياء، فالنهايات لا تكون إلا مع من لم يترك أثراً ولم يخلّف لوناً ولا ذاكرة، فكما أوراق الشجر المُتساقطة والمختلفة في أعمارها ورحيقها وألوانها، كذلك البشر العابرون في طريق حياتنا، فهنالك من بَقيَت ألوانه نقيّة عطرة وبرّاقة بالرغم من غيابه وسقوط ورقته مع قدوم خريف العمر، وهنالك من جفّت ورقته رغم بقائه متمسكاً بِغُصن الحياة، ليَسقط في ما بعد دون أن يترك ذكرى أو أثراً فوق أرصفة أعمارنا. ويبقى الخريف اسطورة الطبيعة الخالدة، يحتل صدارة الفصول بألوانه النّزقة، وخطواته الشقيّة، يسرق من كل الفصول ألوانه وتقلّبات مزاجه وصور إطلالته، تَتَسلّق العصافير أغصانه العرايا، وتَسكُن الفراشات ثقوبه التي كَشَفَ عنها تساقط وريقات الشجر، وكذلك هو خريف العمر، يأتي زاخراً بكل ألوان التجارب، وعاصفاً بكل محطات العمر الماضية، متمسكاً بأغصان ثابتة رغم خلوها من الألوان الصاخبة، ناثرًا فوقها أوراق الأمل التي تُعزّزها جذور تجارب ثرية زاخرة بالحكمة والمعرفة والثقة. فعلى الرغم من تعري الأشجار في خريف الطبيعة، وعلى الرغم من وهن العظام في خريف العمر، فإنه وفي كلا الخريفين تبقى الجذور الراسخة دائمة الخلود، ويبقى معها الخريف شامخاً فوق رصيف العمر.

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar