هل أوشكت اإلجازة القسرية لثورة 25 يناير على االنتهاء؟
كثيرا ما يردد بعضهم، سواء في مصر أو في سواها من البالد العربية التي شهدت ثورات وانــتــفــاضــات شعبية فــي الــســنــوات االثـنـتـي عشرة األخيرة، خطابات من نوع: ماذا قدمت الثورات واالنتفاضات الشعبية لتلك البلدان ولتلك الـشـعـوب؟ هــل تـغـيـرت أحــوالــهــا نحو األفضل، أم كما نراها اليوم باتت في أسوأ مما كانت عليه قبل تلك الـثـورات واالنتفاضات. انـظـروا إلـى سـوريـة.. إلـى اليمن.. إلـى مصر.. وحـــتـــى تـــونـــس الـــتـــي قــيــل إنـــهـــا تــجــنــبــت ما أصـــــــاب ســـــواهـــــا مـــــن حـــــــروب واضــــطــــرابــــات دمــويــة كيف تتخبط ومــا هــو حــال أبنائها. هـــــذا الـــخـــطـــاب وأمـــثـــالـــه الــــــذي تـــبـــثـــه أدوات األنظمة، ويـــردده خلفها الغوغاء والحمقى واملأجورون كي تقول للشعوب إنها ستواجه الـــكـــوارث والـــخـــراب (مـصـيـر ســـوريـــة، مصير اليمن )... فـي حــال انتفضت وثـــارت على ما قادتها إليه تلك األنظمة من انهيارات وتأخر ونهب ونسف للمقدرات واإلمكانات وتدمير لـلـقـطـاعـات املـنـتـجـة وفــــرص الــعــمــل، وصــوال إلـــى حــافــة الـــجـــوع، بــل إلـــى املــجــاعــة نفسها، وفوقها القهر واإلذالل، يؤشر هـذا الخطاب إلى: أن السياسات املتواصلة املتبعة من هذه األنـظـمـة ستفضي إلــى االنـتـفـاضـة والــثــورة، وهــــو اعـــتـــراف غــيــر مــبــاشــر بــجــرائــمــيــة هــذه الـسـيـاسـات. وأن األنـظـمـة وملحقاتها باتت تعيش قلقا دائما بعد موجات االنتفاضات والـــــثـــــورات الــشــعــبــيــة املـــتـــالحـــقـــة، خـصـوصـا فـــي الـــبـــالد الــعــربــيــة مـــن أقـــصـــى املـــغـــرب إلــى الـبـحـريـن. ثالثا واألهــــم، يقفز هــذا الخطاب، أو يراد منه القفز، فوق األسباب املادية التي تدفع الشعوب إلــى الــثــورة، فحيث تتساوى لـدى شعب ما احتماالت املــوت جوعا وقهرا مع احتماالت املـوت على أيـدي أدوات القمع، ال شـــيء يـمـكـن أن يــقــف فـــي وجـــه احــتــمــاالت الثورة، مهما كانت نتائجها املباشرة. مــن هـنـا، ينبغي للبحث العلمي أن ينطلق مـن األسـبـاب املــاديــة التي بنتيجتها تتراكم الضغوط على القيعان االجتماعية، وصوال إلى مرحلة االنفجار الكبير. فما هي األسباب املـــاديـــة الـتـي فـجـرت ثـــورة 25 يـنـايـر )2011( في مصر، والتي نعيش اليوم أجـواء ذكراها الثانية عشرة؟ وهـل تمكنت الدولة العميقة فـي مصر مـن اإلجــهــاز تماما عليها بعد كل هذه السنني؟ مــنــذ أطــلــق الــرئــيــس املـــصـــري األســـبـــق، أنـــور الـــســـادات، سياسة االنـفـتـاح االقــتــصــادي في سـبـعـيـنـات الـــقـــرن املـــاضـــي، بـــــدأت األوضـــــاع االقـــتـــصـــاديـــة واملــعــيــشــيــة ملـــاليـــني املــصــريــني بالتراجع، نتيجة مباشرة لإلهمال املتعمد واملــــتــــمــــادي لـــقـــطـــاعـــات اإلنـــــتـــــاج الــرئــيــســيــة التشغيلية، وفي طليعتها الصناعة والزراعة،
إفــــســــاحــــا فــــي املــــجــــال لـــكـــبـــار الـــرأســـمـــالـــيـــني لالستثمار في قطاعي االستيراد والتجارة. ( نــتــذكــر هــنــا قــصــة الــقــطــط الـــســـمـــان، االســـم الــــــذي أطــــلــــق فــــي حــيــنــه عـــلـــى كـــبـــار الــتــجــار واملــحــتــكــريــن املـحـظـيـني مـــن الــنــظــام والــذيــن تبادلوا املنافع مع أركـانـه)، فكانت النتيجة أن ارتــفــعــت، بـنـسـب كــبــيــرة، أســعــار مختلف السلع االستهالكية األساسية، ومنها الخبز ما أدى إلى انتفاضة 18 و91 يناير 1977 التي ووجــهــت بالقمع ومـــحـــاوالت الـتـشـويـه التي كان في صدارة مطلقيها أنور السادات نفسه، حني أطلق عليها اسم «انتفاضة الحرامية». وكــان إهـمـال القطاع الـعـام املنتج واالمتناع عن تطوير مصانعه وتجهيزاته قد مثل أولى انــتــكــاســات االقــتــصــاد الـتـشـغـيـلـي فـــي مصر الذي تراجعت قدراته اإلنتاجية ومردوديته، فــــي مــــحــــاولــــة لــبــيــعــه والـــتـــخـــلـــص مــــنــــه، قـد تواصال في عهد الرئيس حسني مبارك، ما أوصـل إلـى تراجع كبير في مستوى معيشة العمال واملوظفني، األمر الذي أدى الى حركات احتجاجية مـتـكـررة لـعـمـال مصانع القطاع الـعـام، وخصوصا عـمـال مصنع غــزل املحلة وســـواهـــم، وصــــوال إلـــى إضـــرابـــات 6 أبــريــل/ نيسان 2008 التي شملت إلــى عـمـال مصنع املحلة مراكز إنتاجية ومؤسسات عديدة في كل مصر تلبية لدعوة شباب حركة 6 أبريل الـــذيـــن كـــانـــوا قـــد أعـــــــدوا لـــهـــذا الــــحــــراك الـــذي ووجه بالقمع البوليسي، وسقط فيه ضحايا واعـــتـــقـــل آخــــــــرون. كـــــان لـــتـــراجـــع الــقــطــاعــات اإلنــتــاجــيــة كـثـيـفـة الـتـشـغـيـل أثـــــر بـــالـــغ على العمالة املصرية، فارتفعت نسب البطالة بني الشباب الذين آثر مئات األلوف منهم الهجرة والـــعـــمـــل فـــي الــــخــــارج. وكـــــان الــــعــــراق وجـهـة أســـاســـيـــة لــلــعــمــالــة املـــصـــريـــة فـــي ثـمـانـيـنـات الـــقـــرن املـــاضـــي، حـــني كـــان املــجــهــود الـحـربـي للعراق يستنزف شبابه وقواه التشغيلية، ما مكن مئات آالف املصريني من أن يجدوا فرص عمل متنوعة في العراق. لكن ما حدث للعراق بعد غــزو الـكـويـت وحـــرب عاصفة الصحراء (تحرير الـكـويـت) ثـم الحصار املـديـد تسبب بـــكـــوارث ومـــــآس طـــاولـــت الـــعـــمـــال املـصـريـني هناك. وإذا كانت دول الخليج العربي تمثل وجهة أخــرى والحـقـة للعمالة املـصـريـة، فإن تمييزا كبيرا لحق باملصريني فـي بعضها، أوجــــد مــعــانــاة إضــافــيــة دفــعــت كـثـيـريـن إلــى إعـــادة النظر والــعــودة الــى مصر. وقــد مثلت كل هذه الضغوط السبب املـادي الرئيس في تفاقم النقمة على نظام حسني مبارك وحزبه، وعلى الطبقة السياسية املتحكمة باالقتصاد املصري ومعيشة الشعب ومستقبله. إلــى جـانـب الـعـوامـل االقـتـصـاديـة واملعيشية املــتــفــاقــمــة الـــتـــي دفـــعـــت دوائـــــــر إضـــافـــيـــة مـن املـجـتـمـع املـــصـــري إلـــى االنــضــمــام إلـــى دائـــرة الفقر والتهميش، كان انسداد األفق السياسي
أمــــــام املـــصـــريـــني قــــد بـــــدأ يــظــهــر أكـــثـــر ســمــكــا وقتامة، حني بدأت الطبقة السياسية الحاكمة تــــروج لـخـالفـة جـمـال مــبــارك أبـــاه فــي رئـاسـة مـــصـــر. تـــرافـــق ذلــــك مـــع حـــمـــالت قــمــع واســعــة لـلـمـعـارضـني والـــقـــوى الــداعــيــة إلـــى التغيير، وفي مقدمتهم ناشطو حركة 6 أبريل وقيادات الحركة املصرية للتغيير (كفاية). صــحــيــح أن دورا بـــــارزا لـــثـــورة 17 ديسمبر التونسية، ولنتيجتها املباشرة التي تجلت انــــتــــصــــارا مـــبـــدئـــيـــا، ولـــكـــن فــــريــــدا، فــــي فــــرار الــرئــيــس الــتــونــســي زيــــن الــعــابــديــن بـــن علي وســــقــــوط نـــظـــامـــه فــــي 14 فـــبـــرايـــر 2011 فـي تشجيع املصريني على االنتفاض، (التوانسة مــــوش أجـــــدع مــنــنــا، تـــونـــس مـــش أجـــــدع من مصر..) ( في الواقع لقد بدأت تنتشر الدعوات إلـــى الـــثـــورة فـــي 25 يــنــايــر فـــي الـــوقـــت نفسه الذي أعلن فيه عن فرار زين العابدين). كانت الـــشـــرارة الــتــي عصفت بـاحـتـقـان مــزمــن لـدى املصريني زاد توترا بعد حادثة مقتل الشاب خـــالـــد ســعــيــد عــلــى يـــد الــشــرطــة 6( يــونــيــو/ حـزيـران )2010 وبعد حـادثـة تفجير كنسية الــقــديــســني فــي اإلســكــنــدريــة (فــجــر األول من يناير/ كانون الثاني ،)2011 إال أن األسباب املـاديـة الحقيقية النتفاضة 25 يناير تكمن في تفاقم األوضاع املعيشية للطبقات الدنيا التي توسعت على مـدى عقود، مضافا إليه العامل السياسي الـــذي تـبـدى بـانـسـداد أفق التغيير الديمقراطي السلس، وما ترافق معه من قمع ومنع واحتقار لقوى التغيير، وفي مقدمتهم شباب مصر وعمالها وفالحوها. وهكذا تضافرت عوامل االستجابة الواسعة والجريئة واالندفاعة الكبرى للشعب املصري يوم 25 يناير 2011 وما بعده. ولـئـن مثلت عائلة الرئيس املخلوع حسني مبارك وحكومته والدوائر املقربة في الحزب الـــوطـــنـــي الـــديـــمـــقـــراطـــي (الـــحـــاكـــم) الــواجــهــة الـسـيـاسـيـة لــلــنــظــام، فـــإن كــبــار املـسـتـشـاريـن والقادة العسكريني واملؤسسات االستثمارية للجيش وســــواه، وكــبــار املـتـمـولـني والـتـجـار ودوائـــــرهـــــم، ًّ تـــجـــســـدتفــيــهــم دوائــــــر الـــدولـــة الـعـمـيـقـة مــســلــحــة بــشــبــكــات وأدوات أمـنـيـة وقــضــائــيــة وإعـــالمـــيـــة وثــقــافــيــة داعـــمـــة. وقــد لـوحـظ منذ الـيـوم األول للثورة تـــورط كامل لــأجــهــزة األمــنــيــة فـــي مــواجــهــة املـتـظـاهـريـن وقـــمـــعـــهـــم بـــكـــل الــــــطــــــرق، بـــمـــا فـــيـــهـــا إطـــــالق الــنــار الــحــي املــبــاشــر، واســتــخــدام البلطجية واملــــجــــرمــــني الـــــذيـــــن أطــــلــــقــــوا مـــــن الـــســـجـــون بشريطة قمع املتظاهرين والـتـعـدي عليهم، ولــــــوزارة الــداخــلــيــة املــصــريــة بـــاع طــويــل في هذه األمور، بينما وقف الجيش على الحياد يراقب عن كثب وال يتدخل. وكما كان هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» شعلة الثورة ومــــحــــشــــدهــــا، كـــــان إطــــــالق هـــتـــاف «الــجــيــش والشعب إيد واحدة» بداية املشوار في عملية
إجهاض الثورة تلته مباشرة عملية تنحية مــــبــــارك واســــتــــالم املـــجـــلـــس األعــــلــــى لــلــقــوات املسلحة السلطة في 11 فبراير/ شباط .2011 تــال ذلــك جــر املـصـريـني تــكــرارا إلــى صناديق االقتراع في استفتاءات وانتخابات متتالية على مــدى سنتي 2011 2012و فـي مخادعة ديـمـقـراطـيـة، انـتـهـت إلـــى فـــوز محمد مرسي من حزب الحرية والعدالة (إخوان مسلمون) بـمـنـصـب رئـــاســـة الــجــمــهــوريــة، بــعــد أن كــان حــزبــه قـــد فــــاز أيــضــا مــتــقــدمــا عـــن ســــواه في انــــتــــخــــابــــات مـــجـــلـــســـي الـــشـــعـــب والـــــشـــــورى. وتخللت السنتني كما تخلل العام الذي تولى فيه مرسي منصب الرئاسة أحــداث جسام ( تفجيرات إرهابية وحوادث مفجعة ومجازر دموية: ماسبيرو، حرق مقرات، أحداث سيناء .. حوادث اإلخفاء القسري للناشطني)، وكانت تـبـعـاتـهـا تـــعـــلـــق إمــــا عــلــى اإلرهـــــــاب أو على خارجني على القانون. كان من أبرز النتائج املباشرة لثورة 25 يناير، وفي عز اندالعها، انـــكـــشـــاف دور وزارة الــداخــلــيــة والــشــبــكــات الـــتـــي شــكــلــهــا الــــوزيــــر حــبــيــب الـــعـــادلـــي فـي تـفـجـيـر كـنـيـسـة الــقــديــســني. وهــــذه قـــد تـكـون قــريــنــة تـــؤشـــر إلــــى أن مــثــل هــــذه الــشــبــكــات، امللحقة ســـواء بــــوزارة الـداخـلـيـة أو بأجهزة الـــحـــزب الـــحـــاكـــم، أو بـــقـــادة بــعــض األجـــهـــزة األمــنــيــة والــعــســكــريــة، ربــمــا تــكــون خــلــف كل هذا املسلسل من أعمال العنف التي أريد منه تشويه ثورة 25 يناير، وتسهيل االنقضاض على ناشطيها البارزين. ولــــــم يـــكـــن تـــســـهـــيـــل وصــــــــول حــــــزب الـــحـــريـــة والــــعــــدالــــة (إخــــــــوان مـــســـلـــمـــون) مــــن املـجـلـس العسكري إلــى السلطة فـي أعـقـاب الـثـورة إال تمهيدا لشيطنة «اإلخــــوان» وأخـونـة الثورة ثم التخلص منهما على يد العسكر. وتمكن وزيـر الدفاع عبد الفتاح السيسي من ركوب مـــــوجـــــات االحـــــتـــــجـــــاج عــــلــــى حــــكــــم اإلخــــــــوان واالنــقــالب على الديمقراطية الشكلية التي خــدعــوا بها املـصـريـني. ولــم ينته األمـــر هنا، فقد تالحقت جرائم العسكر من اعتقال مرسي إلى مذبحة ميدان رابعة العدوية إلى مالحقة كـــل فــاعــلــيــات ثــــورة 25 يــنــايــر ومـحـاكـمـتـهـم واعـتـقـالـهـم والـعـمـل عـلـى تـشـويـه صـورتـهـم، ثــم اعـتـقـال كــل مــن تــســول لــه نـفـسـه الـتـرشـح النتخابات الرئاسة في وجه السيسي. وفي وقـت جـرت فيه تبرئة رمــوز النظام السابق، قتل الرئيس املنتخب محمد مرسي باإلهمال الطبي في أثناء اعتقاله، وال يزال عبد املنعم أبو الفتوح يعاني اإلهمال الطبي في معتقله، بعد أن أخضع ملحاكمة صورية. أما من تبقوا مــن ناشطي 25 يناير أو مــن بقي منهم في مصر، فـال يـزالـون قيد املالحقة أو االعتقال، منهم عـــالء عـبـد الـفـتـاح ومـاهـيـنـور املـصـري التي أطلق سراحها قبل أشهر، بعد محاكمة صورية وسنوات من املالحقة واالعتقال. بـعـد 12 عــامــا، وفـــي ظــاهــر األمــــر، اسـتـعـادت الدولة العميقة بواسطة العسكر سطوتها ما قبل 25« يناير». وضعت يدها على اإلعالم، أمـــســـكـــت بـــقـــوت املـــصـــريـــني بــــشــــدة، (انـــهـــيـــار العملة الوطنية) محاوالت الستقطاب فئات طفيلية تــمــجــد الـسـلـطـة فــي عـــز ارتـكـابـاتـهـا بحق الجغرافيا والــحــدود (قضية جزيرتي تـــيـــران وصــنــافــيــر) واالقـــتـــصـــاد والـــخـــدمـــات األساسية، تمجيد عمليات القمع املتواصلة بحق الفئات املهمشة واإلصــرار على تشويه ثــــورة يــنــايــر. ويــشــي هــــذا كــلــه بــــأن الــعــوامــل التي دفعت املصريني إلى االنتفاض والثورة تضاعفت، وأن احتماالت عودة 25 يناير من إجازتها القسرية املديدة تتزايد، فمصر التي تصبر على الضيم ال تصبر على القهر. وإن غدا لناظره قريب.
العوامل التي دفعت المصريين إلى االنتفاض والثورة تضاعفت، وإن احتماالت عودة 25 يناير من إجازتها القسرية المديدة تتزايد
األسباب المادية الحقيقية النتفاضة 25 يناير تكمن في تفاقم األوضاع المعيشية للطبقات الدنيا التي توسعت عقودًا، مضافًا إليه العامل السياسي