Al Araby Al Jadeed

سيرورة الوهم الفلسطيني أميركيًا

- أسامة أبو ارشيد

إذا كـانـت الـقـيـادة الرسمية الفلسطينية مؤمنة فعال بأن حل الدولتني، إسرائيلية وفلسطينية، هـو الخيار الوحيد القائم والعملي واملقبول، فإن الواليات املتحدة لــيــســت هـــي الـــعـــن­ـــوان، ال فـــي األمـــــس وال اليوم، وال حتى في املستقبل القريب. هذا مــا تثبته عـقـود طويلة مــن الـتـجـارب مع واشنطن، واالسـتـمـ­رار على النهج نفسه ســـيـــكـ­ــون، فــــي أحـــســـن األحــــــ­ــــوال، إضـــاعـــ­ة لـــلـــوق­ـــت، وهـــــو قــــد يـــصـــل حـــــد الـــعـــب­ـــث فـي ظـــل تـغـيـيـب الــنــظــ­ر فـــي خــــيــــ­ارات أخــــرى، أو وســائــل جــديــدة لتحقيق حـلـم الــدولــة العتيدة، إذا كانت هذه غاية منى بعضهم. املفارقة أن ثمة إدراكــًا رسميًا فلسطينيًا لــحــقــي­ــقــة املـــــوق­ـــــف املــــؤسـ­ـــســــي األمـــيــ­ـركـــي (بــمــعــن­ــى أنــــه عـــابـــر لـــــــإد­ارات املـخـتـلـ­فـة)، انحيازًا لصالح إسرائيل وضعفًا أمامها أيــــضـــ­ـًا، ولـــكـــن األمــــــ­ر ال يـــتـــعـ­ــدى عـــبـــار­ات اإلدانــــ­ـة واالســتــ­نــكــار والــغــضـ­ـب، مــن دون السعي إلى بلورة استراتيجية واضحة، لينتهي األمـــر بـالـقـيـا­دة الرسمية عائدة إلــــــى «األمــــــ­ـــل األمـــــي­ـــــركـــ­ــي» الــــــــ­ذي يـــرفـــض أن يــتــحــق­ــق أبــــــــ­دًا. مــــن ذلــــــك أن الـــرئـــ­يـــس الفلسطيني، مـحـمـود عــبــاس، كـــان أعلن فــــي فـــبـــرا­يـــر/ شـــبـــاط ،2020 بـــعـــد كـشـف الرئيس األميركي السابق، دونالد ترامب، عن خطته املعروفة باسم «صفقة القرن»، عن رفض الفلسطينين­ي «رعاية الواليات املتحدة وحدها أيـة مفاوضات»، مطالبًا «بـرعـايـة دولـــيـــ­ة». كـــان املـنـطـق حينها أن إدارة ترامب منحازة باملطلق إلسرائيل. ولـــكـــن، مـــع انـــتـــخ­ـــاب جـــو بـــايـــد­ن رئــيــســًا، لــم تلبث السلطة الفلسطينية أن رفعت منسوب آمالها لـ«تصدم» بحجم ضعف إدارتــــه أمـــام إســرائــي­ــل، وانـحـيـاز­هـا كذلك لـهـا، خصوصًا مـع تركيز واشنطن أكثر على روسيا والصني. إنها متوالية الوهم نفسها من دون بديل يلوح في األفق. خـــالل زيــــارة وزيـــر الـخـارجـي­ـة األمـيـركـ­ي، أنتوني بلينكن، املنطقة، مطلع األسبوع الــجــاري، والـتـي التقى خاللها القيادتني اإلسرائيلي­ة والفلسطيني­ة، كـان واضحًا أن مـــقـــار­بـــة إدارة بــــايـــ­ـدن لــــأوضــ­ــاع فـي األراضــي الفلسطينية املحتلة تقوم على «اســتــعــ­ادة الــهــدوء» بـالـدرجـة األولــــى، ثم «عـلـيـنـا أن نفعل أكــثــر مــن مــجــرد خفض التوترات». أما سبيل تحقيق ذلك فيكون «مــــن خــــالل الـــحـــف­ـــاظ عــلــى رؤيـــــة دولــتــني لشعبني». ما ينبغي االنتباه إليه هنا أن إدارة بايدن دخلت في عامها الثالث في الــحــكــ­م، وخـــــالل أشـــهـــر ســتــبــد­أ الـحـمـالت االنـــتــ­ـخـــابـــ­يـــة الــــرئــ­ــاســــيـ­ـــة، وهـــــــذ­ا يــعــنــي، بـــــالــ­ـــضـــــر­ورة، أن املــــلــ­ــف الــفــلــ­ســطــيــن­ــي – اإلسرائيلي سيتم ركنه على الــرف، وهذا أحد عوارض املشكلة فحسب. لـــــم تـــفـــعـ­ــل إدارة بــــــايـ­ـــــدن، فـــــي الـــعـــا­مـــني املنصرمني، الكثير ملحاولة إيجاد تسوية فلسطينية – إســرائــي­ــلــيــة. عـلـى الـعـكـس، حافظت على أســـوأ قــــرارات إدارة سلفها تـــرامـــ­ب، كــمــا فـــي اإلبـــقــ­ـاء عــلــى االعـــتــ­ـراف بالقدس عاصمة إلسـرائـيـ­ل، واالستمرار فـــي إغـــــالق مــكــتــب مــنــظــم­ــة الــتــحــ­ريــر في واشنطن، وكـذلـك تـرددهـا فـي إعـــادة فتح القنصلية األميركية في القدس الشرقية، دع عنك جهودها في توسعة «االتفاقات اإلبراهيمي­ة»، عربيًا وإسالميًا، مع تجاهل الـحـقـوق الفلسطينية. ومـــع أنـهـا أعـــادت االتـصـاال­ت السياسية مع الفلسطينين­ي، واســتــأن­ــفــت كــذلــك املــســاع­ــدات اإلنـسـانـ­يـة التي تقدمها لهم، إال أنها رفضت بوضوح

أن تـــضـــغـ­ــط عـــلـــى إســــرائـ­ـــيــــل الســتــئـ­ـنــاف املفاوضات معهم، على أساس أن الظروف غير مواتية بعد. إذا كــانــت إدارة تـــرامـــ­ب الــســابـ­ـقــة تجسد نـــمـــوذ­ج االنـــحــ­ـيـــاز والـــتـــ­واطـــؤ األمــيــر­كــي الـــفـــج مـــع الــــدولـ­ـــة الـــعـــب­ـــريـــة، فــــإن نــمــوذج إدارة بايدن يجسد مزيج االنحياز الفاقع والضعف في العالقة معها. وتحتاج هذه املسألة تفصيال أكثر، ليس هذا مكانه، عن ديناميكيات العالقة املختلة بـني املــوكــل (الــواليــ­ات املتحدة) والوكيل (إسـرائـيـل)، أيـن نجح الوكيل فـي النفاذ إلـى حصون املوكل والتأثير، إلى حد كبير، في شؤونه الـــداخــ­ـلـــيـــة وعــــلـــ­ـى كـــثـــيـ­ــر مــــن مــســاهــ­مــيــه املتشاكسني واملتعارضن­ي. عـنـدمـا جـــاء بـــايـــد­ن إلـــى الـــرئـــ­اســـة، مطلع عام ،2021 كان يحمل معه إرثًا من املرارة تجاه رئيس الـوزراء اإلسرائيلي، حينها، بنيامني نتنياهو. لــم يـنـس بــايــدن كيف دس هذا األخير أنفه في الشأن األميركي الداخلي مساندًا الجمهوريني ضد إدارتي بـــاراك أوبــامــا 2009( – ،)2017 الـتـي كان بـــايـــد­ن نــائــبــًا لــلــرئــ­يــس فــيــهــم­ــا. لـــم يقف نتنياهو عند ذلــك الـحـد، بـل إنــه تحالف مع الجمهوريني ضد الديمقراطي­ني خالل رئــاســة تــرامــب 2017( – .)2021 ومــن ثــم، تــطــلــب األمـــــر أكـــثـــر مـــن شــهــر بــعــد تسلم بايدن مهامه الرئاسية ليجري أول مكاملة هاتفية مع نتنياهو. ومع تصعيد حكومة نتنياهو، حينئذ، اعتداءاتها على أحياء فـلـسـطـيـ­نـيـة فـــي الـــقـــد­س الــشــرقـ­ـيــة وعـلـى الـــحـــر­م الــقــدسـ­ـي الــشــريـ­ـف، كـــان رد إدارة بــايــدن خــجــوال، رغـــم امتعاضها مــن تلك الـسـيـاسـ­ات. ولـكـن، مـا إن شـنـت إسرائيل عـــدوانــ­ـهـــا عــلــى قـــطـــاع غـــــزة، مـــايـــو/ أيـــار ،2021 حتى كــان الـدعـم األمـيـركـ­ي ينهمر على إسـرائـيـل مــن كــل حــدب وصـــوب، مع ضـــغـــوط وراء األبــــــ­ـواب املــــوصـ­ـــدة إلنــهــاء العدوان بسرعة. صحيح أن إدارة بـايـدن سـعـدت بإطاحة نــتــنــي­ــاهــو، فـــي يـــونـــي­ـــو/ حــــزيـــ­ـران ،2021 ودعــمــت حـكـومـة غـريـمـيـه، نفتالي بينت ويــئــيــ­ر لــبــيــد. لــكــن ذلـــك لـــم يــنــقــض مـزيـج الــضــعــ­ف واالنـــحـ­ــيـــاز الــــذي يـطـبـع إدارتــــه فـــي الــعــالق­ــة مـــع إســـرائــ­ـيـــل. فـــجـــأة، أصـبـح منطق إدارة بايدن ضــرورة الحفاظ على تلك الحكومة القائمة على تحالف هش بني اليمني واليسار والوسط، وبالتالي، تأجيل أي حـديـث عـن إحـيـاء املفاوضات بــــني الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــني واإلســـرا­ئـــيـــلـ­ــيـــني. لـم يــقــف األمـــــر عــنــد ذلــــك الـــحـــد، إذ مــارســت إدارة بــــايـــ­ـدن غـــضـــًا لـــلـــطـ­ــرف عــــن جـــرائـــ­م

ألم يئن األوان بعد أن تفكر القيادة الفلسطينية خارج الصندوق، ولو مرة واحدة، وتبحث عن خيارات وآفاق جديدة؟

ذلـــك الـتـحـالـ­ف، ســـواء تـحـت قــيــادة بينت أم لـبـيـد بــعــد ذلــــك، بــحــق الفلسطينين­ي. ومـــع عـــودة نتنياهو إلـــى الـحـكـم، أواخـــر العام املاضي، على رأس حكومة توصف بأنها األكـثـر تطرفًا فـي تـاريـخ إسرائيل، لم يتغير ضعف إدارة بايدن وانحيازها أمـــامـــ­هـــا، ورأيـــنــ­ـا ذلــــك فـــي زيـــــارة بلينكن أخــيــرا، الـتـي أدان فيها رد فعل الضحية الفلسطيني فـي عملية الــقــدس، فـي حني اعـتـبـر الـجـريـمـ­ة اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة فــي جنني، وغـــيـــر­هـــا مــــن الــــجـــ­ـرائــــم األخــــــ­ـــرى، ضـمـن ســــيــــ­اق «الـــــحــ­ـــرب عـــلـــى اإلرهـــــ­ـــــــاب». وفـــي حـني تمضي إسـرائـيـل فـي تقويض «حـل الــدولــت­ــني» وتـهـويـد ومـــصـــا­درة مـزيـد من األراضــــ­ي، وتـمـارس عقابًا جماعيًا بحق الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــني، وتـــســـت­ـــمـــر فــــي إضـــعـــا­ف السلطة الفلسطينية، يتحدث بلينكن عن «معارضة» الواليات املتحدة أي سياسات تجعل هدف حل الدولتني «بعيد املنال»، بــــمــــ­ا فـــــي ذلـــــــك الـــــتــ­ـــوســـــ­ع االســـتــ­ـيـــطـــا­نـــي اإلسرائيلي والتحركات «نحو الضم في الضفة الـغـربـيـ­ة». وتتمثل ثالثة األثـافـي في تأكيد إدارة بايدن أن إصرار إسرائيل عـــلـــى هـــــذا الـــنـــه­ـــج لــــن يـــؤثـــر عـــلـــى الـــدعـــ­م األميركي غير املحدود لها، بل وأبعد من ذلــك مطالبتها الفلسطينين­ي باستمرار «التنسيق األمني» مع إسرائيل، والقيام باملهمات القذرة نيابة عنها. باختصار، صحيح أن الـواليـات املتحدة تملك أغــلــب أوراق الـتـأثـيـ­ر عـلـى السياق الفلسطيني – اإلسرائيلي، لكن كثيرًا من تلك األوراق معطلة، إمـا انحيازًا متعلقًا بــالــطــ­بــيــعــة اإلمـــبــ­ـريـــالــ­ـيـــة األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة، أو ضـعـفـًا بـفـعـل الـديـنـام­ـيـكـيـات السياسية فــــي واشــــنــ­ــطــــن، أو مـــزيـــج­ـــًا بــــني االثـــنــ­ـني. ال يــزعــم هـــذا املــقــال أن الــقــيــ­ادة الرسمية الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــة تـــمـــلـ­ــك خــــــيــ­ــــارات كـــثـــيـ­ــرة، ضــمــن املــعــطـ­ـيــات املـــوضــ­ـوعـــيـــ­ة الــقــائـ­ـمــة، وكــــذلــ­ــك فــــي ظــــل الـــتـــج­ـــريـــف والــتــجـ­ـويــف اللذين مارستهما القيادة نفسها عقودا للمشروع الوطني الفلسطيني، وفي ظل تهافت دول عربية وإسالمية كثيرة على التطبيع مـع إسـرائـيـل، مـن دون االلتفات إلى الحقوق الفلسطينية. ولكن، ألم يئن األوان بـعـد أن تـفـكـر هـــذه الــقــيــ­ادة خــارج الصندوق، ولـو مــرة واحـــدة، وتبحث عن خــيــارات وآفــــاق جــديــدة عـبـر الــعــودة إلـى شعبها، الــذي هـو فـوق صـمـوده العظيم، ومقاومته الجبارة، يملك أفضل الكفاءات املـــوزعـ­ــة فــي الـعـالـم كـلـه، بـمـا فــي ذلـــك في الواليات املتحدة نفسها؟

 ?? (األناضول) ?? عباس وبلينكن في رام اهلل، الخميس الماضي
(األناضول) عباس وبلينكن في رام اهلل، الخميس الماضي

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar