Al Araby Al Jadeed

تحّوالت نخب ثورة فبراير في اليمن

- بشرى المقطري

تأخذ حركة االحتجاجات الشعبية سمات قـواهـا السياسية، إذ تتضمن فـي بنيتها تناقضاتها الداخلية الـتـي قـد تخلف، في حــــــاال­ت كـــثـــيـ­ــرة، انـــقـــس­ـــامـــات عــمــيــق­ــة تـمـتـد إلـــى املـجـتـمـ­ع، إال أنــهــا تـنـتـج، فـــي املـقـابـل، نخبا صاعدة قد تدفع إلى تجديد الحياة الــســيــ­اســيــة. وفــــي الــتــجــ­ربــة الـيـمـنـي­ـة الـتـي تـــدخـــل عــقــدهــ­ا الـــثـــا­نـــي فـــي شــهــر فــبــرايـ­ـر/ شــــبــــ­اط الــــحـــ­ـالــــي، شـــكـــلـ­ــت ســــمــــ­ات الـــقـــو­ى املتصدرة لالحتجاجات بنيتها وأدواتـهـا ومـــــن ثــــم نــخــبــه­ــا، ومـــــع أنـــهـــا لــــم تــــــؤد إلـــى تـشـظـي املـجـتـمـ­ع، حـيـث انـحـصـر سياسيًا في تشظي مراكز النفوذ التقليدية والنخب الــحــزبـ­ـيــة، فـــإن ارتـــدادا­تـــهـــا الــكــارث­ــيــة ظـلـت حاضرة، بدءا بتجربتها في إدارة السلطة فـــي املــرحــل­ــة االنــتــق­ــالــيــة إلـــى هــــروب معظم قــيــادات­ــهــا إلــــى الـــخـــا­رج مـــع بـــدايـــ­ة الــحــرب، بحيث فقد املجتمع إيـمـانـه بالنخب التي تدعي تمثيله، وإذا كان حصاد ثورة فبراير قـــد تـمـظـهـر سـيـاسـيـًا فـــي تـفـتـيـت مـؤسـسـة الــســلــ­طــة الـــتـــا­ريـــخـــي­ـــة، فــإنــهــ­ا أعــــــاد­ت بــنــاء نفسها فـي سلطات الـحـرب الـتـي تنضوي فيها نخب فبراير نفسها، والتي تمنحها مشروعية الثورة بحسب مصالحها. فرضت طبيعة السلطات في اليمن وطريقة صـــعـــود­هـــا شــكــل املـــعـــ­ارضـــة الـــتـــي تــتــصــد­ر مواجهتها سياسيا أو حتى عسكريًا، وذلك المتالكها أدواتــهــ­ا، وإذا كانت السلطة في الـيـمـن انـبـثـقـت تـاريـخـيـًا مــن الـــصـــر­اع، وإن تــبــنــت، فـــي مــرحــلــ­ة الحـــقـــ­ة، آلــيــة تستوعب القوى املناوئة لها أو تعمل على تحييدها، فإن قطاعات املعارضة التي تصدرت ثورة فبراير ضد الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، امتلكت، هي األخرى، أدوات النظام، كونها جزء ا من بنيته املؤسسية والعسكرية واالجتماعي­ة. ولذلك فرضت مسار التغيير فــــي بـــعـــد أحــــــــ­ــادي، انـــحـــص­ـــر بـــــإزاح­ـــــة رأس النظام، ومن ثم لم تنتج ثورة فبراير حالة سياسية مغايرة، سواء في مستوى األدوات أو البنى، بما في ذلـك االشـتـغـا­الت، بيد أن األســوأ هو أن تمظهرات هـذا التغيير الذي لــم يتعد سطح الـحـيـاة السياسية افتقرت لـــــرؤى وطــنــيــ­ة تــســتــو­عــب املــشــهـ­ـد الـيـمـنـي بجملته، بحيث أنتجت املشكالت نفسها في سلطة الرئيس صالح، فمن خالل حصرها الــصــراع فـي مـركـز جـغـرافـي، ممثال بشمال الـــيـــم­ـــن، فــإنــهــ­ا دفـــعـــت الـــجـــن­ـــوب إلــــى خـــارج معادلة الثورة، وإن منحت تمثيال محدودًا لنخب األحـــزاب املهيمنة في جنوب اليمن، إضافة إلى القوى املوالية للنخبة الجنوبية املستقرة في الشمال، وهو ما أدى إلى فصل املسار السياسي بني شمال اليمن وجنوبه، استغلته القوى االنفصالية واملتدخلون في مرحلة الحرب. ومن جهة أخرى، كرست قوى املعارضة التي صعدت على حساب جموع الــشــبــ­اب بــنــيــة ســيــاســ­يــة لـــلـــثـ­ــورة، هيمنت عليها القوى األكثر تنظيمًا وتمويال لجهة الـــقـــر­اريـــن الــســيــ­اســي والـــعـــ­ســـكـــري، بــمــا في ذلــك تمثيل مصالح مـراكـز النفوذ القديمة التي أعـادت تدوير نفسها في بنية الثورة، مقابل تهميش الفئات االجتماعية والقوى السياسية األقــــل تــأثــيــ­رًا. ومـــن جـهـة ثانية، استهداف القوى املتصدرة الثورة مؤسسة السلطة لم يكن بهدف إنشاء بديل سياسي متوازن وخارج دائرة الصراعات التاريخية، وإنما بهدف وراثتها، إلى جانب أنها أصال جــــزء مـــن الـــصـــر­اع الــتــاري­ــخــي، فـإنـهـا كـانـت فاقدة األهلية لتشكيل نموذج وطني يمثل اليمنيني. ومع أن البعد االنتقامي بني طرفي النظام القديم اللذين بـات أحدهما يهيمن عـلـى الــثــورة حـــدد اتـجـاهـات­ـهـا، فــإنــه فـرض تــداخــل شبكة املـصـالـح الـتـي كـانـت أحيانًا تعضد طرفا على حساب اآلخر، بما في ذلك تنمية تحالفات سياسية – عسكرية غير معلنة بني أطــراف متناقضة، مقابل توليد صـــراع أنـتـجـتـه تـجـربـة الـسـلـطـة االنتقالية فـــي إدارة الـــدولــ­ـة، بـحـيـث اسـتـغـلـت­ـه الـقـوى التي تمتلك أدوات القوة، والتي صعدت هي األخرى من حواف الثورة وتناقضاتها إلى السطح. واقـعـيـًا، تشكلت سلطة املـرحـلـة االنتقالية مــن تـولـيـفـة سـيـاسـيـة تــتــكــو­ن مــن األحــــزا­ب املعارضة وقطاعات من شباب ثورة فبراير الـتـي تــم استقطابها إلـــى الـسـلـطـة. وفـــرض الـــرئـــ­يـــس عـــبـــد ربـــــه مـــنـــصـ­ــور هـــــــاد­ي، وفـــق املبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية لنقل الـسـلـطـة، رئـيـسـا تـوافـقـيـ­ا. ومـــع أن السلطة االنتقالية خضعت لتحوالت عديدة طوال عـــقـــد، حــيــث تـــغـــيـ­ــرت تــركــيــ­بــتــهــا، فــــإن املـهـم تـحـلـيـل تـجـربـتـه­ـا بـشـكـل عــــام، ســــواء على مـسـتـوى نخبها وأثــرهــا فــي صـنـع املشهد السياسي االنتقالي الذي أفضى إلى الحرب الــحــالـ­ـيــة، إلـــى جــانــب تـأثـيـر إدارة السلطة االنــتــق­ــالــيــة لــكــيــا­ن الــــدولـ­ـــة وإســـهـــ­امـــهـــا في تشظيه، فمن جهة فرضت القوى املهيمنة عـــلـــى ثــــــورة فـــبـــرا­يـــر قــــرارهـ­ـــا عـــلـــى الـسـلـطـة االنتقالية، بما في ذلك تدخل قـواه القبلية والعسكرية في توجيهها، وهو ما أدى إلى صبغ مؤسسة السلطة بصبغة سياسية، إلــى جـانـب تـحـولـه إلــى دولـــة داخـــل الـدولـة. ومـــن جــهــة ثــانــيــ­ة، ظــلــت الــنــخــ­ب الـشـبـابـ­يـة الــتــي تـــم تـصـعـيـده­ـا مـمـثـلـة لـــثـــور­ة فـبـرايـر

فـــي الــســلــ­طــة االنــتــق­ــالــيــة مـشـتـتـة الــــــوا­لءات بني قـوى املعارضة، بحيث لم تشكل فارقًا فـــي الــتــجــ­ربــة االنــتــق­ــالــيــة، إذ لـــم تـمـتـلـك أي خبرة سياسية، عـدا انضوائها في الحوار الـــوطـــ­نـــي الــــــذي أصـــبـــح فــيــمــا بـــعـــد املــعــيـ­ـار الوحيد فـي تمثيل الشباب فـي الحكومات املتعاقبة، إال أن األخــطــر تأسيس السلطة االنتقالية الختالالت جذرية في مؤسسات الدولة، بدءا بإفساد الوظيفة العامة، وذلك بـــفـــرض الـــتـــع­ـــيـــني فــــي مـــفـــاص­ـــل مــؤســســ­ات الــدولــة والـجـيـش وفــق االنـتـمـا­ء السياسي، ولــيــس املـــؤهــ­ـل والــخــبـ­ـرة، مـقـابـل استبعاد الـكـوادر املؤهلة، تسيس الوظيفة الـذي بدأ مــع املـرحـلـة االنـتـقـا­لـيـة وتــحــول فــي الـحـرب إلـى فــرض الـــوالء املذهبي بالنسبة لسلطة جماعة الحوثي بخصوص شغل الوظيفة العامة، والوالء املناطقي بالنسبة للمجلس االنتقالي الجنوبي في املناطق الجنوبية. إلــى جـانـب ذلـــك، قــدمــت السلطة االنتقالية تجربة إداريــة فاشلة في مؤسسات الدولة، ناهيك عن توظيف املال العام لشراء والء ات جـديـدة. وإذا كانت هـذه النتائج قـد أعاقت تثبيت الــدولــة ونـقـل الــصــراع إلــى داخلها، فإنها أدت إلى استثمار القوى التي وجدت نفسها خـــارج السلطة االنـتـقـا­لـيـة إلسـقـاط الدولة وفرض مسار الحرب لتغير موازين القوى السياسية والعسكرية. أعــــــاد­ت الـــحـــر­ب رســــم الــخــريـ­ـطــة الـسـيـاسـ­يـة تبعا ألدوات الـقـوة التي يمتلكها الفاعلون املــحــلـ­ـيــون وحــلــفــ­اؤهــم اإلقــلــي­ــمــيــون، بــيــد أن الالفت في تجربة نخبة ثورة فبراير، أو على األقــل القوى السياسية التي تصدرتها هي تـوزعـهـا بـني معسكرات الـحـرب املتعارضة، ومــن ثــم تشظيها سياسيا فــي أطــرهــا، إلى جــانــب تـبـنـيـهـ­ا مــرجــعــ­يــات سـيـاسـيـة تــعــزز سلطتها، ففي حـني حافظت سلطة املرحلة االنـــتــ­ـقـــالـــ­يـــة عـــلـــى مـــواقـــ­عـــهـــا فــــي مـــؤســـس­ـــات الدولة مع بداية الحرب، فإن تدخل التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية إلعـادة الرئيس هــادي إلـى السلطة، ضـد املتمردين الحوثيني، فـرض التمسك بشرعية الرئيس هادي مرجعية سياسية للسلطة في اليمن، إلى جانب القرارات األممية، بحيث أصبحت الـــقـــو­ى الـسـيـاسـ­يـة املـــتـــ­صـــدرة ثــــورة فـبـرايـر ضمن الشرعية، وضمنت في املرحلة األولى من الحرب من خالل تحولها إلى مركز إسناد لـسـلـطـة هـــــادي تــكــويــ­ن ســلــطــة مـسـتـقـلـ­ة في املناطق املحررة، وتعميق نفوذها جغرافيا وعــســكــ­ريــا واقـــتـــ­صـــاديـــ­ا، بــيــد أن مـــصـــاد­رة الـــســـع­ـــوديـــة، ومـــــن ثــــم اإلمــــــ­ــــارات، الـــقـــر­اريـــن، الــســيــ­اســي والــعــسـ­ـكــري لـلـسـلـطـ­ة الــشـرعــ­يـة، جعلت والء األحزاب السياسية متأرجحًا بني الـــوالء للرئيس واملـتـدخـ­لـني، قبل أن يحسم، في مرحلة الحقة، بالترهيب وأحيانا بالقوة لصالحهم، بيد أن استراتيجية املتدخلني هدفت إلـى السيطرة على مؤسسة السلطة، وتغيير مرجعيتها، والــــذي يقتضي، أوال، تغيير مشهد املـرحـلـة االنتقالية بسلطتها ونــخــبــ­هــا الــســيــ­اســيــة املــهــيـ­ـمــنــة، وذلـــــك عبر تنمية شبكة حـلـفـاء محليني خـــارج سلطة الرئيس هـادي والقوى السياسية املتحالفة مـعـه، بـــدءا بتصعيد املجلس االنـتـقـا­لـي في جنوب اليمن إلى القوى السلفية، واستقطاب شباب من نخبة فبراير، فيما دفعت تحوالت الحرب انضواء القوى السياسية التي كانت متحالفة مــع جـمـاعـة الـحـوثـي إلـــى معسكر السعودية واإلمـــار­ات إلـى رسـم مسار جديد للمشهد السياسي، ووضع املتدخلني إلطاره العام الذي ينطلق من تقويض سلطة املرحلة االنتقالية، ومـن ثم بقايا سلطة فبراير، في إطارها السلطوي على األقل. فــي كــل الـــحـــا­الت، السلطة الــفــاسـ­ـدة، والـتـي تعتمد عـلـى إســنــاد الـحـلـفـا­ء، تـتـقـوض من خـــارجـــ­هـــا وداخـــلــ­ـهـــا، والســتــن­ــفــاد مهمتها الــــتـــ­ـاريــــخـ­ـــيــــة بـــوصـــف­ـــهـــا غـــــطـــ­ــاء يــمــنــح­ــهــم مشروعية تدخلهم في اليمن، فقد كـان من الضروري تقويض السلطة الشرعية بإزاحة رأســــهــ­ــا مـــمـــثـ­ــال بـــالـــر­ئـــيـــس هــــــــا­دي، مــقــابــ­ل تكريس سلطة متشظية على أنقاضها، وبال ٍّ مرجعيةسياس­ية ناظمة لقواها، عدا الوالء لــلــمــت­ــدخــلــن­ي، فـــبـــإز­احـــة الــرئــيـ­ـس هــــادي في أبريل/ نيسان ،2022 ونقل السلطة قسريًا إلـــى املــجــلـ­ـس الـــرئـــ­اســـي، جـــرى طـــي صفحة املرحلة االنتقالية وما سمي الربيع اليمني. ومع أنه ال يمثل جوهريًا ثـورة فبراير، وال مطالب القطاعات الواسعة من املتظاهرين، فـــإنـــه كــــان رمـــــزًا لـلـمـرحـل­ـة االنــتــق­ــالــيــة الـتـي انبثقت عـنـهـا، والــتــي فرضتها السعودية من خالل املبادرة الخليجية حينها. ولذلك، نقل السلطة إلى املجلس الرئاسي يؤسس ملــرحــلـ­ـة جـــديـــد­ة فـــي الــيــمــ­ن، تــخــلــق قطيعة حقيقية مـــع ثــــورة الــربــيـ­ـع الــعــربـ­ـي، والـــذي يعتبر هـدفـا رئيسيا بالنسبة للسعودية واإلمارات، إذ تمثل سلطة املجلس الرئاسي مـــنـــظـ­ــومـــة ســـيـــاس­ـــيـــة وعـــســـك­ـــريـــة مـــتـــعـ­ــددة األقطاب، تشمل قوى النظام القديم والقوى الـــتـــي الــتــحــ­قــت بـــثـــور­ة فـــبـــرا­يـــر، إلــــى جـانـب القوى الجنوبية املوالية لإلمارات بشقيها السلفي واالنتقالي، وكذلك النخب الشبابية الــتــي صـعـدتـهـا الـــثـــو­رة والــــحــ­ــوار الـوطـنـي فــي مـؤسـسـات الــدولــة، والــتــي يمثل رئيس الوزراء معني عبد امللك، املدعوم من اإلمارات والــســعـ­ـوديــة، أحـــد رمـــوزهــ­ـا، كـمـا أن تباين أجــــنـــ­ـدات قــــوى ســلــطــة املــجــلـ­ـس الـــرئـــ­اســـي، وتعارض مرجعياتها السياسية، يفتحان املــــجــ­ــال ملـــشـــر­وعـــيـــا­ت ســـيـــاس­ـــيـــة مـــتـــعـ­ــددة، يمكن أن توظفها كـل قـــوة لصالحها، ومن ثــم تـكـمـن مــفــارقـ­ة ثــــورة فــبــرايـ­ـر، لـيـس فقط في سوء مآالتها، وإنما فشلها في الحفاظ على ملمحها الوحيد املتمثل فـي التغيير الــســيــ­اســي، وذلــــك بـسـبـب انــتــهــ­ازيــة الــقــوى الــتــي صــعــدت عـلـى حــســاب الـــثـــو­رة، والـتـي كيفت مصالحها مع رغبة املتدخلني. ومن جـــهـــة أخـــــــر­ى، إذا كـــــان االنـــتــ­ـمـــاء لــســاحــ­ات الـثـورة قد مكن نخبا شبابية من الوصول إلــى السلطة وحـتـى أعـلـى منصب تنفيذي فــي الــدولــة اليمنية، خـالفـا لجميع ثـــورات الربيع العربي، فذلك لم يكن سوى تصعيد لوجوه املرحلة التي تمثل مصالح الخارج، وبالطبع ليس مصالح اليمنيني.

فرضت طبيعة السلطات في اليمن وطريقة صعودها شكل المعارضة التي تتصدر مواجهتها سياسيًا أو حتى عسكريًا

كان من الضروري تقويض السلطة الشرعية بإزاحة رأسها ممثًال بالرئيس هادي، مقابل تكريس سلطة متش ّظية على أنقاضها

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar