خرائط اإلصالح والتجديد في األزمنة الحديثة: المشارب والتجارب
عطفا على املقال السابق «أفـكـار أولية في العالقة بني الظاهرتني الدينية والسياسية» فــــي «الــــعــــربــــي الــــجــــديــــد» ،)2013/1/20( واهـتـم بكتاب «الـنـهـوض الـعـاثـر: اإلصــالح والــتــجــديــد فـــي األزمـــنـــة الــحــديــثــة» (املــركــز الـــعـــربـــي لـــأبـــحـــاث ودراســــــــة الـــســـيـــاســـات، بـــيـــروت، الــــدوحــــة، )2020 لـلــبـاحــث محمد حلمي عبد الوهاب، وخصوصا في قسميه األول «إصـــالح مـؤسـسـات املــجــال الديني» والــثــالــث «األصـــولـــيـــة واألولــــويــــة املـــضـــادة: العيش املشترك وقضايا األقليات الدينية»، تأتي سطور هـذا املقال إلـى القسم الثاني، والذي قام على تصنيف خرائط التجاهات الـتـغـيـيـر اإلصـــالحـــيـــة؛ وعـــنـــوانـــه «تـــجـــارب اإلصــالح والتجديد في العالم اإلسالمي»، تــنــاول فـيـه عـبـد الــوهــاب تــجــارب وخـبـرات متنوعة ومـتـفـاوتـة زمـنـيـا نـسـج فيها بني مالك بن نبي، ومحمد عبده وفـرح أنطون، وشــــاه ولـــي الــديــن الــدهــلــوي، وأبــــو األعـلـى املودودي، وغيرهم. تــبــني فـــصـــول الــقــســم الـــثـــالثـــة اســتــمــراريــة مـــســـاعـــي الـــنـــهـــوض اإلســــالمــــي وتـــجـــاربـــه، وتـــشـــار إلــــى أنـــهـــا لـــم تـــتـــوقـــف، بـــل امــتــدت انــعــكــاســاتــهــا إلــــى خـــــارج الــعــالــم الــعــربــي، مــثــل االنـــتـــشـــار فـــي شــبــه الــــقــــارة الــهــنــديــة. وكــــان املــؤلــف مـوفـقـا فــي حـديـثـه عــن مالك بن نبي، املفكر صاحب املشروع الحضاري املــــوصــــوف مــنــه بـــأنـــه «يـــعـــد عـــالمـــة فــارقــة فــــي إطــــــار املــــشــــاريــــع الـــنـــهـــضـــويـــة الــكــبــرى فـــي األزمــــنــــة الـــحـــديـــثـــة». ويــــعــــرف بـالـبـيـئـة السياسية التي نشأ فيها بن نبي وتأثيرها عـــلـــى فــــكــــره، خـــصـــوصـــا مـــســـألـــة االحـــتـــالل الـغـربـي معظم الــــدول اإلســالمــيــة، وهـــو ما دفعه إلى التأكيد على أن انشغاله سينصب عــلــى مـــركـــزيـــة مــفــهــوم الــســنــن الــتــاريــخــيــة واالجـــــتـــــمـــــاعـــــيـــــة فــــــي مـــــشـــــروعـــــه الــــفــــكــــري الحضاري. ويبدأ من مساءلة مالك بن نبي فـي كتابه املهم «شـــروط النهضة لحركات اإلصالح والتجديد»، مؤكدا أن مالك لم يكن
منقطع الصلة ال باملوضوع وال بالحركات التجديدية. ويحشد مـن املعلومات املهمة ما يؤكد على ذلـك، بل ويستشهد بما يدل عـلـى أن مــالــك بــن نـبـي حـــرص عـلـى إرســـاء حالة نقدية من خالل تقويمه أبرز الوجوه اإلصالحية كجمال األفغاني ومحمد عبده وأحمد خـان وغيرهم. بني الكاتب انشغال مـالـك بــن نـبـي بــســؤال النهضة وبــضــرورة الــســيــر فـــي االتــــجــــاه الــصــحــيــح للمجتمع الـــــذي يـــــراه اتـــجـــاه الــســيــر نــحــو املـسـتـقـبـل، وأن تتسلح النهضة بالعلم واملعرفة، وأن تــــزاوج فــي تطلعها بــني الـفـكـر واملــمــارســة، لتتحول إلى حركة وبرنامج عمل إيجابي، كما رصد انفتاحه على التاريخ اإلسالمي، وهــــو مــشــبــع بـــــروح الــنــقــد املــــــــزودة بـحـس اجـــتـــمـــاعـــي دقـــــيـــــق، وكــــــــذا حــــــال املـــدنـــيـــات اإلنــســانــيــة فــي رأيــــه، خـصـوصـا أنـــه يـراهـا حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار املـدنـيـة اإلسـالمـيـة واملسيحية، فالتجارب الـتـاريـخـيـة الـعـامـة، أي الـسـنـن التاريخية، تؤكد أطوار الحضارات هذه. ويمكن القول إن عملية الـنـهـضـة عـنـد بــن نـبـي تقتضي عــمــال ســلــبــيــا يــتــصــل فـــي فــصــل األمـــــة عن رواســــب املـــاضـــي، وعــمــال إيـجـابـيـا يصلها بمقتضيات املستقبل. أفـرد مؤلف الكتاب عنوانا مهما عن مركزية السنن التاريخية واالجتماعية ودورهــا في التغيير، وأشـار إلى ارتكاز مالك بن نبي على اآلية الكريمة
َِ {إن الله ال يغير ما بـقـوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد:11)، والتي أصبحت مثل شــعــار لـكـل مـــن يــريــد أن يـنـخـرط فـــي سلك اإلصـــــالح والــتــجــديــد. واعــتــبــر ذلـــك مـدخـال مناسبا ملناقشة جهود املفكرين، مثل ابن بـــاديـــس ومــحـمــد عــبــده وجـــمـــال األفــغــانــي. وأشـــار إلــى أهمية السنن وإدراك املفكرين لـــهـــا، ودلــــــل عـــلـــى ذلـــــك بـــربـــاعـــيـــة غـــايـــة فـي األهمية، تتمثل في الوعي بالسنن اإللهية والــتــاريــخــيــة، وربــــط الــنــهــوض والـتـحـضـر بضرورة تغيير النفس، ومحورية التاريخ فــي فـهـم عملية الــنــهــوض، ومــركــزيــة العلم والــثــقــافــة فــي تحقيق الـنـهـضـة، مـــؤكـــدا أن املفكرين، كل بطريقته، حرص على االهتمام بهذه املسائل بشكل كبير، وبيان دورها في عملية النهوض أو التحضير لها. واستعرض عبد الـوهـاب تـيـارات اإلصـالح والـــتـــجـــديـــد فـــي شــبــه الــــقــــاّرة الــهــنــديــة من شــــاه ولــــي الــلــه الـــدهـــلـــوي إلــــى أبــــي األعــلــى املـــــــــــودودي؛ مـــبـــيـــنـــا انـــشـــغـــال تـــلـــك الــبــيــئــة بــــتــــيــــارات اإلصـــــــــالح والــــتــــجــــديــــد وعـــالقـــة اإلســالم بالغرب بصورة مبكرة عن العالم الــعــربــي، مـشـيـرا إلـــى عـــدة مـؤلـفـات رصــدت ذلك األمر. وتيسيرا على القارئ، وفي إطار قدرته الكبيرة على التصنيف، أورد الكاتب اتجاهات مفكري شبه الــقــارة الهندية عن الــدعــوات اإلصـالحـيـة وقضاياها الفرعية، مشيرا إلـى «االتـجـاه املحافظي» ممثال في أتباع شاه ولي الله الدهلوي، الذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله وسنته، و«االتـجـاه التحديثي» ممثال في شخص السيد أحمد خان الذي دعا إلى ضــــرورة االقــتــبــاس مــن الــحــضــارة العربية في علومها ونظمها وفنونها مع التمسك بــالــثــوابــت الــعــقــديــة، بــعــد تــوضــيــح سـيـاق القضية فكريا وتاريخيا. واستطاع الكاتب أن يرسم خريطة أهم التيارات اإلصالحية فـــي شــبــه الــــقــــارة الــهــنــديــة ابــــتــــداء بـظـهـور التيار اإلحيائي السلفي، مـــرورا باالتجاه الـتـحـديـثـي الــلــيــبــرالــي، وانــتــهــاء بـاالتـجـاه اإلصالحي التجديدي. وبعد أن استعرض الكاتب أهم القضايا واملفكرين والرؤى التي عرفتها تجربة اإلصالح والتجديد في شبه القارة الهندية، طالب بضرورة التعلم منها على اختالف اتجاهاتها وتنوع تياراتها. وفـي الفصل األخير من هـذا القسم، تناول الــكــاتــب الــســجــاالت الــتــي جـــرت بــني محمد عـبـده وفـــرح أنــطـون، نموذجا على الـجـدال في شأن الدين والدولة التي عرفتها األزمنة الــحــديــثــة، مـــؤكـــدا أن هـــذه الـقـضـيـة احتلت الصدارة في النقاشات العربية اإلسالمية إبـــــــان عـــصـــر الـــنـــهـــضـــة، كـــمـــا أنـــهـــا احــتــلــت مــســاحــة شــاســعــة مـــن اهــتــمــامــات املثقفني الـعـرب واملسلمني وكتاباتهم، وفــي وجـوه تأملهم فـي الحاضر والـتـاريـخ، كما اعتبر أن ملف العالقة بني الدين والدولة جزء من ظـاهـرة أعــم وأشــمــل، هـي ظـاهـرة الصحوة اإلسـالمـيـة الـتـي مثلت فـي النصف الثاني من القرن العشرين. ومن جهة أخرى، الحظ الكاتب أن ثمة ربطا نــخــبــويــا يــتــخــذ عـــــادة طــابــعــا قــســريــا بني العلمانية والــحــداثــة، بوصفها العلمانية فـلـسـفـة ومــنــهــاجــا لـلـفـكـر والـــحـــيـــاة، حيث
يـفـتـرض مــنــظــروهــا فــي معظمهم انـقـطـاع األمة عن ماضيها وعن إسالمها، وعيشها على وهم االستمرار في املاضي. وقد عالج الكاتب هذه القضية من خالل التعرف على جداالت الدين والدولة في األزمنة الحديثة، من خـالل التركيز على النقاشات املوسعة الــتــي دارت بــني اإلمــــام محمد عــبــده وفــرح أنــــطــــون، خــصــوصــا مـــا يـتـعـلــق بـمـسـألـتـي الدين والعلم، والطابع املدني للسلطة في اإلســـــالم، خــالفــا لـثـيـوقـراطـيـة الـسـلـطـة في الــديــانــة املسيحية، والــتــي تـمـحـورت حـول أربــــــع نـــقـــاط رئـــيـــســـة: املـــقـــارنـــة بــــني سـلـطـة الـــرؤســـاء فــي كــل مــن اإلســــالم واملـسـيـحـيـة، وتــبــيــان الــقــاعــدة املـتـعـلـقـة بـسـلـطـان رجــال الــكــنــيــســة عـــلـــى غـــيـــرهـــم، وتـــوضـــيـــح مــبــدأ الفصل بني السلطتني: الدينية والسياسية/ املدنية في الديانة املسيحية، وقلب السلطة الدينية باعتباره أصال خامسا من أصول اإلسالم في فكر اإلمام محمد عبده. وصــل الـبـاحـث محمد حلمي عبد الـوهـاب إلـــــى خــــالصــــات مـــهـــمـــة، تــــنــــاول فــيــهــا دور املـــؤســـســـة الــديــنــيــة ومــــا مـــــرت بـــه ومــوقــف مفكرين عديدين، وخصوصا محمد عبده وتالميذه منها، كما توسع في استخالص الــدروس من تجربة مالك بن نبي العميقة. وأشـــــار إلــــى اتـــجـــاهـــات مــــبــــادرات اإلصــــالح الـــديـــنـــي، والـــتـــي تـــراوحـــت مـــا بـــني املـسـعـى التوفيقي الـــذي هـــدف إلـــى مــواءمــة الـوافـد الغربي مع املرجعية اإلسالمية، واالتجاه الليبرالي الذي انحاز إلى الحداثة الغربية، واالتجاه األصولي الذي تأرجح بني املرونة والسلبية الكاملة. ويخلص الكاتب إلى أن اإلصــالح ظـل عائما فـوق صفائح متجذرة وصلبة من البنى التقليدية التي لم يستطع اخــتــراقــهــا، مــا جـعـلـه، فــي الـنـهـايـة، نشاطا نـخـبـويـا يـفـتـقـد الــعــمــق االجــتــمــاعــي وقـــوة الدفع االجتماعية. ولعل هذه املالحظة في حاجة ملزيد من الفحص للعالقة بني التيار الـــحـــداثـــي وظـــاهـــرة الــتــحــديــث واملــــؤشــــرات التي جعلته يتوصل إلى هذه النتيجة.
ظل اإلصالح عائمًا فوق صفائح متجذرة وصلبة من البنى التقليدية التي لم يستطع اختراقها، ما جعله، في النهاية، نشاطًا نخبويًا
ربط نخبوي يتخذ عادة طابعًا قسريًا بين العلمانية والحداثة، بوصف العلمانية فلسفة ومنهاجًا للفكر والحياة