Al Araby Al Jadeed

أمامك العدّو وخلفك ال أحد

- باسل طلوزي

هل أعاد خيري علقم التاريخ الفلسطيني الضال إلى حتميته، أم قطع مع التاريخ برمته؛ لينشئ تاريخا جديدا بدأه وأقرانه من كوكبة الجيل الجديد، الذين يعيدون إلى الكوفية عقالها، وللبندقية رصاصها؟ هل كان علقم دولة برجل واحد، عندما عقد اجتماع ا مع نفسه في قاعة القلب، واتخذ، بوصفه رئيسا، قرارا بإعالن الحرب من جانب واحد، ردا على مجزرة جنني التي ذهب ضحيتها تسعة شهداء، على أن يتّم التنفيذ فوًرا، ومن دون التنسيق مع أي «سلطة بائدة»، أو حكومة «شقيقة» أو «صديقة»، وفي ذهنه يدور مشهد الغزال الـذي لم يقتله غير كثرة لفتاته إلى الخلف. أسئلة شتى تطرحها العمليات الفدائية التي تقودها، أخيرا، «أسود منفردة»، من حيث طبيعة هذه الظاهرة الفريدة، في مسار النضاالت البشرية، فعندما أقدم أول شاب فلسطيني على عملية من هذا النوع قبل نحو عامني، قيل حينها إن األمر ال يخرج عن كونه فعال ا قابال للوقوع في أي بلد محتل، يفجره موقف أو مناسبة ما، كأن يكون ردة فعل لحظية، أو مخططا لها في ذهن منفذ العملية وحده، وال عالقة لها بمخططات معقدة ومرسومة من تنظيمات مقاومة، غير أن توالي هذه العمليات، وبالطريقة نفسها، جعل منها ظاهرة وابتكارا

ا ألسلوب نضالي جديد لم يعرفه العدو سابقا، الذي اعتاد على عمليات منظمة ترسمها وتنفذها جهات معلومة ألجهزة «شاباكه» و«موساده»، ويسهل زرع العمالء بينها، ملعرفة تحّركاتها ونواياها، وربما إفشال عملياتها في املهد، أو الثأر منها في حال نجاح العملية، مع تعمد أن يشمل الثأر حواضن التنظيمات «املتورطة» بالعملية، لتأليب املجتمعات املحيطة عليها، كما يحدث في غزة، أو كما كان يحدث في لبنان عندما يباد البلد، حرفيا، بحجة صواريخ حزب الله. غير أن جنراالت إسرائيل وساستها يقفون اليوم واجمني تماما، كوجوم نتنياهو عندما زار موقع عملية القدس (غير األخيرة بالتأكيد)، وتنتابهم الحيرة في كيفية الثأر من مثل هذه العمليات، حيث ال تنظيمات وال حواضن، وحيث القتيل مقتول، إال إذا أرادت إعادة قتله. وأما التلويح بـ «ضربات شديدة ومركزة»، كما صدر عن مجلس الــوزراء اإلسرائيلي املصغر، فمحض هـراء وكـالم الستهالك الجمهور اإلسرائيلي الغاضب، الـذي لم يعد يأمن على نفسه في الـشـوارع، وال يـدري متى يتقاطع أجله مع رصاصة «أسـٍد منفرد»، وحـده من يقرر الزمان واملكان املالئمني لعمليته التي أقرتها «حكومته» الخاصة به وحـده. وعلى الغرار ذاتـه، تقف أجهزة االستخبارا­ت الصهيونية عاجزة ومرتبكة في كيفية استباق مثل هذه العمليات، وإفشالها في مهدها، ألنها نمط من العمليات السهلة املمتنعة التي ال تحتاج إلى خطط وتنظيمات، بل إلى شاب واحـد فقط ومسدس، وتوق عارم إلعـادة التاريخ الفلسطيني الضال، أو «املضلل» إلى مساره الصائب... والصواب هنا يحتاج إلى دقة في «التصويب»، وفــق نظرية خيري علقم، الــذي قــال إن األمــر ال يحتاج إلــى جيٍش عـرمـرم، بـل إلى مقاتل واحــد يتقن التصويب. فهل كـان هـذا الشهيد على يقٍني تــام أن الرصاصة التي أطلقها لم تكن موجهة إلى رأس املحتل فحسب؟ وإذا كان املحتل «مضافا»، فإن ّ«املضاف إليه» كثر، من سلطة العار إلى أنظمة التطبيع، التي ناحت وجاحت، وشقت الجيوب على «ضحايا» عملية القدس أزيـد من نوح نتنياهو وشــارون في قبره، وراحت خارجياتها (أو بيوت خارجها إن شئنا الدقة) تغدق من عبارات العزاء والرثاء ما فاق مرثية مالك ابن الريب، ومن عبارات التضامن مع «الشقيقة» إسرائيل ما خجلت منه املتحدثة بلسان البيت األبيض. كل هؤالء انتبذهم خيري علقم، عندما ارتدى زي الحرب، وامتشق بندقيته، محددا وجهته، وسابقا مصيره، أمامه العدو وخلفه «ال أحد».. هكذا قرر ونفذ.. ألنه كان يعرف جيدا معنى أن ينظر إلى الخلف.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar