Al Araby Al Jadeed

«المكتوب واضح من عنوانه»

- سالم الكواكبي

«الــرســال­ــة واضــحــة مــن عـنـوانـهـ­ا»، عـبـارة لطاملا تــــرددت بكل اللهجات املحكية في الـثـقـافـ­ة الـيـومـيـ­ة فــي بــالدنــا الـعـربـيـ­ة من املـــحـــ­يـــط إلـــــى الـــخـــل­ـــيـــج. وحـــيـــث يـــــــرا­د مـن استخدامها اإلشـــارة إلـى أن مجرد قـراءة عــنــوان الــرســال­ــة يـكـفـي ملـعـرفـة املـضـمـون، وبالتالي ال حاجة لالستفاضة. ولكن، متى كانت الثقة عالية باألقاويل الشعبية لدى حاملي الحد األدنى من الفكر النقدي؟ فكم مـن الـنـصـوص انـتـقـدت وفـكـكـت مثل هذه األقاويل، وأحالتها على الخيال التقليدي االنــهــز­امــي. لكن إطـــالق هــذا الحكم جزافًا يمكن أن يكون أيضًا نوعًا من املبالغة، ألن حكمًا شعبية كثيرة تصدق وتمثل واقعًا يجدر التوقف عنده، ولو بلحظة تفكير. عـــن أيــــة رســـالـــ­ة وعــــن أي عـــنـــوا­ن نـتـحـدث هـنـا؟ فـي السنة األولـــى للثورة السورية، وقـــبـــل تــحــولــ­هــا بــفــعــل فـــاعـــل إلــــى مـقـتـلـة، دعت مجموعة من املفكرين والسياسين املعارضن إلـى لقاء «أكاديمي» جـرى في عاصمة عربية للتفكير عميقًا بمسارات االنــتــق­ــال الــديــمـ­ـقــراطــي املــنــشـ­ـود فـــي بـــالد مضت عليها العقود، وهي ترزح تحت نير الحكم التسلطي والقمع املنهجي وثقافة الخوف وشيوع الفكر املنهزم أو الخاضع. وقـــــد كـــانـــت الـــقـــا­ئـــمـــة تـــحـــتـ­ــوي عـــلـــى أبــــرز ممثلي الـتـيـارا­ت الفكرية وأبـــرز أصحاب املوقف النقدي الوطني. ومـــن بـــاريـــ­س، حـمـلـت الــطــائـ­ـرة مجموعة هــي األهـــم مـنـهـم، حــيــث، لـلـمـصـاد­فـة، كـان مشاركون في اللقاء كثيرون يقيمون في العاصمة الفرنسية. وقــد تـكـرمـت الجهة املنظمة على املـشـاركـ­ن املـدعـويـ­ن بحجز مـقـاعـد مـريـحـة فــي قــمــرة درجــــة األعــمــا­ل، تــقــديــ­رًا مـنـهـا بــــأن الـشـخـصـي­ـات املـــدعــ­ـوة تـــحـــتـ­ــاج راحـــــــ­ـة تـــتـــنـ­ــاســـب مـــــع أعـــمـــا­رهـــا املتقدمة، ومع الحاجة لتخصيص الوقت لــلــتــف­ــكــيــر، ولـــيـــس ملــعــالـ­ـجــة عـــنـــاء الــســفــ­ر الطويل. وفي منتصف زمن الرحلة، نهض أحدهم، وهو من البارزين، على األقـل في الكالم، في املواقف النضالية والحقوقية، ودعــــانـ­ـــي لــكــي أرافــــقـ­ـــه بـــاتـــج­ـــاه مــقــصــو­رة الدرجة السياحية. وعلى اعتبار أنني كنت

في حينها أصغر املدعوين سنًا، امتثلت لطلبه لباقة واعـتـقـادًا مني بأنه يريد أن يـتـنـزه قليال برفقتي. وعـنـد وصـولـه إلى مقعد شاغر في الدرجة السياحية، جلس عليه فـــورًا وأنـــا خلفه منتصب الـقـامـة ال أمـشـي أنتظر معرفة الـسـبـب. فالتفت لي طـالـبـًا تـصـويـره فــي هـــذا املــكــان، ومــشــددًا عــلــى أن أظـــهـــر بـــوضـــو­ح أنــــه فـــي الــدرجــة الـــســـي­ـــاحـــيـ­ــة. وعـــنـــد­مـــا بـــــــدأ­ت بـــاالمــ­ـتـــثـــا­ل لطلبه، أضاف قائال ومصحوبًا بابتسامة عريضة أنـه صــور زميل نضال في درجة األعــمــا­ل، وبالتالي فهو سينشر صورته فــي الـــدرجــ­ـة الـسـيـاحـ­يـة الـــى جــانــب اآلخــر في درجـة األعمال على وسائل التواصل، لــيــظــه­ــر الــــفـــ­ـارق الـــــذي يــســتــح­ــق الــتــوقـ­ـف عنده، خصوصًا في هـذا الظرف الوطني الــهــام. امتنعت عــن االســتــم­ــرار فــي إنجاز املـهـمـة «الـــقـــذ­رة»، وعـــدت أدراجــــي مصابًا بنوع من اإلحباط املبكر والحزن العميق على مستوى االنتماء إلى قضية بأهمية املـسـألـة الـسـوريـة لـــدى هـــذا اإلنــســا­ن ومـن يمثله ومن يماثله. وتنبأت بمصير قاتم ملسار التحول املنشود في ظل «قـيـادات» من هذه النوعية. فــــي الـــســـن­ـــة الـــثـــا­نـــيـــة مــــن مـــســـار الـــثـــو­رة الــــســـ­ـوريــــة، وقـــبـــل انــتــقــ­الــهــا بــقــلــي­ــل إلـــى مرحلة املقتلة، عقدت أكثر من 126 دولة مــؤتــمــ­رًا ألصـــدقــ­ـاء الــشــعــ­ب الـــســـو­ري في مقر وزارة الخارجية الفرنسية، حضره كـبـار قـــادة الـعـالـم أو ممثلوهم لـتـدارس امللف الــســوري، وللتعبير عـن التضامن مع سعي الشعب الـسـوري، أو جـزء منه، لـلـتـغـيـ­يـر الـــديـــ­مـــقـــرا­طـــي والــتــخـ­ـلــص من ثقافة الخوف، والرعب، والقمع، واملذلة. وكـان جسم املعارضة السورية األول قد تشكل وشــارك وفـد كبير من ممثليه في هــــذا املـــؤتــ­ـمـــر. وقــبــل افــتــتــ­اح الـجـلـسـا­ت، شـعـرت بـنـوع مـن الـتـوتـر يـسـود أوســاط بــعــض املـــشـــ­اركـــن الـــســـو­ريـــن. وعــنــدمـ­ـا حاولت تقصي أسبابه، واعتقدته بداية نـاجـمــًا عـــن مـشـكـالت بـنـيـويـة مـهـمـة في تــنــظــي­ــم الـــلـــق­ـــاء أو فـــي تــرتــيــ­ب املــواعــ­يــد أو الـجـلـسـا­ت، فـــإذا بــي أفــاجــأ بــأن سبب الــتــوتـ­ـر الــرئــيـ­ـســي فـــي أوســـــاط بعضهم أن فــنــدق اإلقـــامـ­ــة ذو نــجــوم ثــالثــة فقط،

حكم شعبية كثيرة تصدق وتمثل واقعًا يجدر التوقف عنده ولو في لحظة تفكير

معتبرين ذلــك مــؤشــرًا على عــدم احـتـرام الجهة املستضيفة ذواتهم املهمة. في السنة الثالثة للثورة/ املقتلة السورية، دعــيــت، بصفتي باحثًا أكـاديـمـي­ـًا، إلــى أن أستعرض أمــام هيئة سياسية معارضة كــانــت ســتــشــا­رك فـــي مـــفـــاو­ضـــات ال تملك أوراقـــًا سياسية جـاهـزة لـهـا، نتائج عمل مجموعة أكاديمية بلغ عدد أفرادها أكثر مــــن ســبــعــن ســــوريــ­ــة وســــوريـ­ـــًا اجـتـمـعـت طوعيًا على امتداد أشهر طويلة، لتخرج بـتـوصـيـا­ت علمية لـهـا عــالقــة بالدستور والــــحــ­ــوكــــمـ­ـــة واالنـــــ­ـتــــــقـ­ـــــال الــــديــ­ــمــــقــ­ــراطــــي والـتـعـدد­يـة واالنــتــ­خــابــات، إلـــخ. وسـافـرت عـلـى عـجـل مــســافــ­ة طــويــلــ­ة، وانـتـقـلـ­ت من املطار إلى مقر إقامة الهيئة املوقرة. وبعد أن بـدأت عرضي املختصر بدقائق قليلة، نظر أحدهم الى ساعته ودعاني الختصار أكبر بسبب قــرب موعد الــغــداء، وخشيته مـــن أن يــغــلــق مـطـعـم الــفــنــ­دق ذو الـنـجـوم الخمسة، فانسحبت محبطًا وعـــدت إلى املطار مودعًا بمثل ما استقبلت به من قلة حماسة وجوع مبكر. يـــحـــكـ­ــى أن زعــــيـــ­ـم الـــــثــ­ـــوار الــفــيــ­تــنــامــ­يــن هوتشي مينه 1890( ـ ،)1969 عندما كان يــفــاوض األمـيـركـ­يـن املحتلن لــبــالده في بـاريـس، كـان يرفض عــروض االستضافة من الحكومة الفرنسية، مفضال اإلقامة في غرفة طالب فيتنامي في املدينة الجامعية. هــــــــل كـــــــــ­ـان املــــــك­ــــــتـــ­ـــوب عـــــلـــ­ــى الـــــســ­ـــوريــــ­ـن والسوريات واضحًا من عنوانه؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar