«المكتوب واضح من عنوانه»
«الــرســالــة واضــحــة مــن عـنـوانـهـا»، عـبـارة لطاملا تــــرددت بكل اللهجات املحكية في الـثـقـافـة الـيـومـيـة فــي بــالدنــا الـعـربـيـة من املـــحـــيـــط إلـــــى الـــخـــلـــيـــج. وحـــيـــث يـــــــراد مـن استخدامها اإلشـــارة إلـى أن مجرد قـراءة عــنــوان الــرســالــة يـكـفـي ملـعـرفـة املـضـمـون، وبالتالي ال حاجة لالستفاضة. ولكن، متى كانت الثقة عالية باألقاويل الشعبية لدى حاملي الحد األدنى من الفكر النقدي؟ فكم مـن الـنـصـوص انـتـقـدت وفـكـكـت مثل هذه األقاويل، وأحالتها على الخيال التقليدي االنــهــزامــي. لكن إطـــالق هــذا الحكم جزافًا يمكن أن يكون أيضًا نوعًا من املبالغة، ألن حكمًا شعبية كثيرة تصدق وتمثل واقعًا يجدر التوقف عنده، ولو بلحظة تفكير. عـــن أيــــة رســـالـــة وعــــن أي عـــنـــوان نـتـحـدث هـنـا؟ فـي السنة األولـــى للثورة السورية، وقـــبـــل تــحــولــهــا بــفــعــل فـــاعـــل إلــــى مـقـتـلـة، دعت مجموعة من املفكرين والسياسين املعارضن إلـى لقاء «أكاديمي» جـرى في عاصمة عربية للتفكير عميقًا بمسارات االنــتــقــال الــديــمــقــراطــي املــنــشــود فـــي بـــالد مضت عليها العقود، وهي ترزح تحت نير الحكم التسلطي والقمع املنهجي وثقافة الخوف وشيوع الفكر املنهزم أو الخاضع. وقـــــد كـــانـــت الـــقـــائـــمـــة تـــحـــتـــوي عـــلـــى أبــــرز ممثلي الـتـيـارات الفكرية وأبـــرز أصحاب املوقف النقدي الوطني. ومـــن بـــاريـــس، حـمـلـت الــطــائــرة مجموعة هــي األهـــم مـنـهـم، حــيــث، لـلـمـصـادفـة، كـان مشاركون في اللقاء كثيرون يقيمون في العاصمة الفرنسية. وقــد تـكـرمـت الجهة املنظمة على املـشـاركـن املـدعـويـن بحجز مـقـاعـد مـريـحـة فــي قــمــرة درجــــة األعــمــال، تــقــديــرًا مـنـهـا بــــأن الـشـخـصـيـات املـــدعـــوة تـــحـــتـــاج راحــــــــة تـــتـــنـــاســـب مـــــع أعـــمـــارهـــا املتقدمة، ومع الحاجة لتخصيص الوقت لــلــتــفــكــيــر، ولـــيـــس ملــعــالــجــة عـــنـــاء الــســفــر الطويل. وفي منتصف زمن الرحلة، نهض أحدهم، وهو من البارزين، على األقـل في الكالم، في املواقف النضالية والحقوقية، ودعــــانــــي لــكــي أرافــــقــــه بـــاتـــجـــاه مــقــصــورة الدرجة السياحية. وعلى اعتبار أنني كنت
في حينها أصغر املدعوين سنًا، امتثلت لطلبه لباقة واعـتـقـادًا مني بأنه يريد أن يـتـنـزه قليال برفقتي. وعـنـد وصـولـه إلى مقعد شاغر في الدرجة السياحية، جلس عليه فـــورًا وأنـــا خلفه منتصب الـقـامـة ال أمـشـي أنتظر معرفة الـسـبـب. فالتفت لي طـالـبـًا تـصـويـره فــي هـــذا املــكــان، ومــشــددًا عــلــى أن أظـــهـــر بـــوضـــوح أنــــه فـــي الــدرجــة الـــســـيـــاحـــيـــة. وعـــنـــدمـــا بـــــــدأت بـــاالمـــتـــثـــال لطلبه، أضاف قائال ومصحوبًا بابتسامة عريضة أنـه صــور زميل نضال في درجة األعــمــال، وبالتالي فهو سينشر صورته فــي الـــدرجـــة الـسـيـاحـيـة الـــى جــانــب اآلخــر في درجـة األعمال على وسائل التواصل، لــيــظــهــر الــــفــــارق الـــــذي يــســتــحــق الــتــوقــف عنده، خصوصًا في هـذا الظرف الوطني الــهــام. امتنعت عــن االســتــمــرار فــي إنجاز املـهـمـة «الـــقـــذرة»، وعـــدت أدراجــــي مصابًا بنوع من اإلحباط املبكر والحزن العميق على مستوى االنتماء إلى قضية بأهمية املـسـألـة الـسـوريـة لـــدى هـــذا اإلنــســان ومـن يمثله ومن يماثله. وتنبأت بمصير قاتم ملسار التحول املنشود في ظل «قـيـادات» من هذه النوعية. فــــي الـــســـنـــة الـــثـــانـــيـــة مــــن مـــســـار الـــثـــورة الــــســــوريــــة، وقـــبـــل انــتــقــالــهــا بــقــلــيــل إلـــى مرحلة املقتلة، عقدت أكثر من 126 دولة مــؤتــمــرًا ألصـــدقـــاء الــشــعــب الـــســـوري في مقر وزارة الخارجية الفرنسية، حضره كـبـار قـــادة الـعـالـم أو ممثلوهم لـتـدارس امللف الــســوري، وللتعبير عـن التضامن مع سعي الشعب الـسـوري، أو جـزء منه، لـلـتـغـيـيـر الـــديـــمـــقـــراطـــي والــتــخــلــص من ثقافة الخوف، والرعب، والقمع، واملذلة. وكـان جسم املعارضة السورية األول قد تشكل وشــارك وفـد كبير من ممثليه في هــــذا املـــؤتـــمـــر. وقــبــل افــتــتــاح الـجـلـسـات، شـعـرت بـنـوع مـن الـتـوتـر يـسـود أوســاط بــعــض املـــشـــاركـــن الـــســـوريـــن. وعــنــدمــا حاولت تقصي أسبابه، واعتقدته بداية نـاجـمــًا عـــن مـشـكـالت بـنـيـويـة مـهـمـة في تــنــظــيــم الـــلـــقـــاء أو فـــي تــرتــيــب املــواعــيــد أو الـجـلـسـات، فـــإذا بــي أفــاجــأ بــأن سبب الــتــوتــر الــرئــيــســي فـــي أوســـــاط بعضهم أن فــنــدق اإلقـــامـــة ذو نــجــوم ثــالثــة فقط،
حكم شعبية كثيرة تصدق وتمثل واقعًا يجدر التوقف عنده ولو في لحظة تفكير
معتبرين ذلــك مــؤشــرًا على عــدم احـتـرام الجهة املستضيفة ذواتهم املهمة. في السنة الثالثة للثورة/ املقتلة السورية، دعــيــت، بصفتي باحثًا أكـاديـمـيـًا، إلــى أن أستعرض أمــام هيئة سياسية معارضة كــانــت ســتــشــارك فـــي مـــفـــاوضـــات ال تملك أوراقـــًا سياسية جـاهـزة لـهـا، نتائج عمل مجموعة أكاديمية بلغ عدد أفرادها أكثر مــــن ســبــعــن ســــوريــــة وســــوريــــًا اجـتـمـعـت طوعيًا على امتداد أشهر طويلة، لتخرج بـتـوصـيـات علمية لـهـا عــالقــة بالدستور والــــحــــوكــــمــــة واالنــــــتــــــقــــــال الــــديــــمــــقــــراطــــي والـتـعـدديـة واالنــتــخــابــات، إلـــخ. وسـافـرت عـلـى عـجـل مــســافــة طــويــلــة، وانـتـقـلـت من املطار إلى مقر إقامة الهيئة املوقرة. وبعد أن بـدأت عرضي املختصر بدقائق قليلة، نظر أحدهم الى ساعته ودعاني الختصار أكبر بسبب قــرب موعد الــغــداء، وخشيته مـــن أن يــغــلــق مـطـعـم الــفــنــدق ذو الـنـجـوم الخمسة، فانسحبت محبطًا وعـــدت إلى املطار مودعًا بمثل ما استقبلت به من قلة حماسة وجوع مبكر. يـــحـــكـــى أن زعــــيــــم الـــــثـــــوار الــفــيــتــنــامــيــن هوتشي مينه 1890( ـ ،)1969 عندما كان يــفــاوض األمـيـركـيـن املحتلن لــبــالده في بـاريـس، كـان يرفض عــروض االستضافة من الحكومة الفرنسية، مفضال اإلقامة في غرفة طالب فيتنامي في املدينة الجامعية. هــــــــل كــــــــــان املــــــكــــــتــــــوب عـــــلـــــى الـــــســـــوريـــــن والسوريات واضحًا من عنوانه؟