جنراالت في أفريقيا يبيعون شعوبهم
)1(
مــن مـشـاهـد األلـفـيـة الـثـالـثـة مــا هــو ماحظ مـن غلبة املصالح على العقائد السياسية، وأبرز دالالته بانت في التمهيد النهيار دولة االتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين، وتفتتها إلى دول مستقلة، تراجعت شعوبها إلــى انتماءاتها القومية الضيقة، اقتصادًا واجتماعًا وثقافة. لم تعد لأيديولوجيات من سطوة، بل عاد الركون إلى املصالح االقتصادية مدخا حاسمًا في عاقات الدول وتعاونها في ما بينها. ليس ذلك زعمًا قاطعًا، لكن صورة املجتمع الدولي بعد أفـــول منافسات حقبة الـحـرب الــبــاردة، صـــارت األقــــرب إلـــى الـتـمـتـرس املـصـلـحـي، ال التكتل العقائدي، معيارًا لعاقات التعاون بني كيانات املجتمع الدولي.
)2(
غير أن هذه التحوالت في العاقات بني تلك الــكــيــانــات بــاتــت مـحـكـومـة بـمـعـايـيـر بـديـلـة، تــتــصــل بــــااللــــتــــزام بــحــكــم راشــــــد وبـــاحـــتـــرام إلرادة الـشـعـوب، وبـإيـمـان بمجمل حقوقها اإلنـسـانـيـة. إلــى ذلــك ظلت املـواثـيـق الدولية على فاعليتها، أعـمـدة راسـخـة يـقـوم عليها الــحــرص عـلـى األمـــن والـسـلـم الــدولــيــني، وإن
أصاب تلك األعمدة وهن واستضعاف. جراء ذلك التنافس املغموس بالشر بشأن تحديات استجدت في الساحة الدولية، مثل تناقص املــــوارد أمـــام االنــفــجــار الـسـكـانـي، وتـحـوالت الـــطـــبـــيـــعـــة الــــتــــي لـــحـــقـــت بـــالـــبـــيـــئـــة واملــــنــــاخ واالســـــتـــــحـــــرار، ضــــاعــــت مـــصـــالـــح الــشــعــوب فـي الـبـلـدان الغنية بـثـرواتـهـا، والـفـقـيـرة في قياداتها. هـكـذا، باختصار، عــاد العالم إلى قــديــمــه، فـيـمـا تــصــاعــدت وتـــيـــرة الــصــراعــات الـتـي تـحـتـدم بــني أقــويــاء الـعـالـم وضعفائه. وفي مثل هذه الصراعات، تتراجع االلتزامات القيمية واألخاقية، فتكاد أن تطغى قوانني الغاب و«داروينية» البقاء لأقوى.
)3(
لــقــد أنـــهـــكـــت تــلــك الـــصـــراعـــات أعـــمـــدة األمـــن والسلم الدوليني، ليس املنظمات اإلقليمية، مثل جامعة الدول العربية في الشرق األوسط، أو االتـحـاد األفريقي فـي الــقــارة الـسـمـراء، أو مجموعة «اآلســـيـــان» هـنـالـك فــي آســيــا. تلك نماذج لكيانات ارتضتها بلدان أقاليم العالم وقـــــاراتـــــه وتـــوافـــقـــت عــلــيــهــا، ولـــكـــن بعضها أصـاب نجاحًا، فيما لحق بأكثرها تهميش مــنــكــور، مــثــل الــــذي شــاهــدنــاه عــالــقــًا بهيئة األمــم املـتـحـدة، بكامل أذرعـهــا وأطـرافـهـا. ما نرى من حرب مستعرة بني روسيا وأوكرانيا هو وجه من صراع قد يكون مدمرًا بني شرق
وغرب، فيما تعجز األمم املتحدة، وقد غلبها األمر، والعالم مهدد بانتحار ماثل. من ينظر إلى أحـوال القاّرة األفريقية،ٍ يرى جنراالتها وقد انقلبوا على حكومات بلدانهم، بلدًا بعد آخــــر، بــخــاصــة فـــي وســـط أفــريــقــيــا وغــربــهــا، يديرون أحوال بلدانهم بغير كفاء ة، وبإهمال متعمد للمواثيق اإلقليمية والدولية.
)4(
تنافس األقـويـاء يدفع أثمانه الـفـقـراء، فكما يجري املثل، فإن األفيال ال تهمها الحشائش الــتــي تــــدوس عـلـيـهـا، واملــصــيــبـة الــكــبــرى أن الــفــقــراء يـمـتـلـكـون مــن الـــثـــروات واملــــــوارد ما يسيل لـه لعاب األقــويــاء الطامعني. تتراجع فــي لـعـبـة املــصــالــح والــســيــطــرة تـلـك املــبــادئ وااللــتــزامــات األخــاقــيــة، يبصرها األقــويــاء، وتعمى عنها عيون الفقراء. فـــي مــثــل تــلــك الـــصـــراعـــات و«املــــونــــديــــاالت» السياسية، ال مكان اللتزامات أو ألخـاق أو لقيم. دولـة قوية، مثل روسيا، تنشئ جيشًا من املرتزقة، تبعث بهم إلى ما وراء حدودها لتحقق مـكـاسـب عسكرية واقــتــصــاديــة، وال يــســأل أحـــد عــن حــقــوق الــشــعــوب فــي اإلرادة الـــحـــرة، وفـــي الــكــرامــة، وفـــي مـــراعـــاة املــبــادئ اإلنسانية. تعبث مرتزقة مجموعات فاغنر فـــي الــــســــودان وفــــي أفــريــقــيــا الــوســطــى وفــي تـــشـــاد وفــــي بـــلـــدان أفــريــقــيــة أخـــــرى عـــديـــدة،
ولــيــس بـيـد اآلخـــريـــن إال تصنيف مـثـل تلك املجموعات بأنها «إرهابية»، وينتهي األمر، فيما الصراع الشرير على أشده. مــؤســف أن جــنــراالت أفـريـقـيـا ينجحون في تـــــجـــــاوز مـــصـــالـــح شـــعـــوبـــهـــم ومـــخـــادعـــتـــهـــا لـــيـــخـــدمـــوا مـــصـــالـــح األقـــــويـــــاء مــــن الـــبـــلـــدان األخـــرى، فيقبضون الثمن فـي غــض الطرف عــن تـلـك الــتــجــاوزات. ذلـــك نـــوع مــن االرتــــزاق الـــســـيـــاســـي، يــبــقــي مـــثـــل هــــــؤالء الـــجـــنـــراالت فـــي كـــراســـي الــحــكــم فـــي بــلــدانــهــم، رغــــم أنــف
شعوبهم، فـا يسأل أحــد عـن مـبـادئ الحكم الــــرشــــيــــد والــــشــــفــــافــــيــــة الــــســــيــــاســــيــــة، وتـــلـــك االلـــتـــزامـــات والــتــعــهــدات الــتــي تـفـضـلـوا بها عـــلـــى مـــنـــظـــمـــات إقــلــيــمــيــة ال يــحــفــظــون لـهـا إال قليل احــتــرام. مـا أن يـقـدم جـنـرال أفريقي عـلـى انــقــاب عـسـكـري، إال وتــســارع املنظمة األفريقية إلــى تجميد عضوية بـــاده فيها. لـكـن مـــن مـــن الــجــنــراالت يـعـبـأ بـــقـــرارات مثل هـــذه؟ السـتـدامـة مصالحهم، يعمد األقـويـاء إلى استدامة قيادات هشة تتحكم في شعوب مغلوبة على أمرها في أنحاء القارة.
)5(
فـي الـوقـت نفسه، تعمد إسـرائـيـل إلــى محو األرض الفلسطينية، حارة بعد حارة، وحرق مـــزرعـــة بــعــد مـــزرعـــة، وبــعــدمــا كــــادت تمحو الـــشـــعـــب الــفــلــســطــيــنــي مــــن ذاكـــــــرة املــجــتــمــع الــــــدولــــــي، فـــــــإن مـــســـيـــرة الـــتـــطـــبـــيـــع الـــعـــربـــي األفــــريــــقــــي مــــع إســــرائــــيــــل تـــجـــري عـــلـــى قــــدم وســـاق، بــل على ســفــارات وبــيــارق. وهــا هي زيـارة وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهني، إلى الخرطوم، قبل أيام، يرمي، في ظنه، إلى مزبلة التاريخ، الءات الخرطوم الثاث، فهل سيصدق التاريخ كذب القتلة الظاملني، وتلك الـــــــاء ات أغـــلـــى مـــا مــنــح الــشــعــب الـــســـودانـــي للشعب الفلسطيني؟
مسيرة التطبيع العربي األفريقي مع إسرائيل تجري على قدم وساق، بل على سفاراٍت وبيارق