Al Araby Al Jadeed

الصحة النفسية

حاجة ملّحة وغياب للدعم في لبنان

- بيروت ـ ناهلة سالمة

ليس االهتمام بالصحة النفسية ترفًا، لما تسببه االضطرابات النفسية من آثار سلبية على صحة الفرد. في لبنان الذي يعيش أزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية متراكمة، تزداد الحاجة إلى الدعم النفسي

«نــــــشــ­ــــأت مـــعـــظـ­ــم طــــفــــ­ولــــتـــ­ـي مــع جــــــدتـ­ـــــي. أذكـــــــ­ـر أنـــــنــ­ـــي أمـــضـــي­ـــت ســـنـــوا­تـــي األولـــــ­ــى مــعــهــا بـسـبـب الـــعـــن­ـــف الــــــذي كـــنـــت أتــــعـــ­ـّرض لــــه مــــن أمــــي، فــكــانــ­ت جـــدتـــي تـــدافـــ­ع عـــنـــي. وعـــلـــى الــرغــم مـن عـدم وجــود أيــة مشاكل بـني أمـي وأبـي، لـكـنـهـمـ­ا اخــــتـــ­ـارا أن أبـــقـــى خـــــارج مــنــزلــ­نــا، فــــأخـــ­ـذت الــــحـــ­ـب واالهــــت­ــــمــــا­م مـــنـــهـ­ــا». هـــذه حــكــايــ­ة رواد (اســــم مــســتــع­ــار)، وهـــو شــاب فـــي الــحــادي­ــة والــعــشـ­ـريــن مـــن عـــمـــره، أنـهـى دراســتــه ويعمل فـي مـجـال خـدمـة العمالء، إلـــى جــانــب كــونــه مـتـطـوعـًا اجـتـمـاعـ­يـًا. بـدأ رحلته مع العالج النفسي في عمر السابعة عــشــر. يـــقـــول: «بـــــدأت الـــعـــا­لج الـنـفـسـي بعد فـــراق شخص عـزيـز عـلـي. اكتشفت العديد مـــن األمـــــو­ر الـعـالـقـ­ة فـــي داخـــلـــ­ي الــتــي كنت بحاجة ملعالجتها. كنت أعيش في محافظة البقاع، لكن الظروف أجبرتني على االنتقال إلى العاصمة بيروت، فأصبحت الجلسات عن بعد. لم يكن األمر مريحًا بالنسبة إلي، فبدأت بمتابعة الجلسات مع جمعية ضمن بيروت، لكنها كانت محصورة بست عشرة جلسة فقط. شخصت حالتي بأنها اكتئاب. وفي بداية العالج النفسي، حاولت االنتحار مرات عدة. اليوم، توقفت عن العالج بسبب اقتصار برنامج الجمعية على عدد محدد مـــن الــجــلــ­ســات، وبــســبــ­ب عـــدم قـــدرتـــ­ي على التوجه إلى مختص نفسي من خارج نطاق الجمعيات، فالعالج اآلن مكلف جدًا». ويـعـود رواد بـالـذاكـر­ة إلــى ظـــروف طفولته. «أهلي رموني عند جدتي. منعني أهلي من اللعب مع باقي األطفال كي ال أؤذيهم بسبب كبر حجمي، فكبرت وأنا ال أعرف كيف أواجه أيــــة مشكلة مــع اآلخـــريـ­ــن، أو كـيـف أبــنــي أي نـوع من العالقات. كما تعرضت للتنمر في املــدرســ­ة بسبب سـلـوكـي األنـــثــ­ـوي، كـمـا كـان يقال لي، وأيضًا بسبب زيـادة الـوزن. عندما أخبرت أهلي باألمر، الموني ألنني لم أدافع عن نفسي، ففضلت عدم إخبارهم الحقًا بما أتعرض له وصرت أخاف أن أتكلم». يـصـف رواد عـالقـتـه بــأمــه بـالـسـامـ­ة، إذ بلغ بــه الـظـن أن ال أحـــد يحبه وبــأنــه غـيـر جدير بالحب، وبأنه شخص سيء، إلى أن أدرك أنه بحاجة للعالج رغم اعتراض أبيه وقوله: «هل أنت بحاجة المرأة لتقول لك ماذا تفعل؟». سمح العالج النفسي لرواد بتحسني عالقاته مع اآلخرين، إذ تصالح مع نفسه. أما اليوم، ورغـــم تـأكـيـد تـقـريـر الـجـمـعـي­ـة عـــدم خـطـورة توقفه عن العالج، فإن رواد يشعر بالحاجة إلــى تلقي الــدعــم النفسي مــن خــالل الـعـالج، لكن وضعه املادي يحول دون ذلك.

جلسات نفسية دون حلول

«كانت طفولتي القاسية والصادمة سببًا للعديد من املشاكل التي لم أعرف أساسها أو كيفية معالجتها»، كما تقول الثالثينية دانـا (اسـم مستعار) وهي متزوجة وتعمل فـــــي مــــجــــ­ال اإلدارة. «عــــــــا­م ،2016 بــــــدأت أشــعــر بــأنــنــ­ي لــســت بــخــيــر. ثـقـتـي بنفسي وبـــاآلخـ­ــريـــن صــفــر. انــتــابـ­ـنــي خــــوف مـــن أن أتــــــــ­رك، وكـــنـــت بــمــثــا­بــة مـغـنـطـيـ­س لــلــرجــ­ال السامني الذين يدخلون حياتي ويعتمدون عـلـي فـــي كـــل األمـــــو­ر. يـسـتـنـزف­ـونـنـي مـاديـًا وعاطفيًا ونفسيًا، ويعزلونني اجتماعيًا حــتــى عـــن أصـــدقـــ­ائـــي. لـــم أكـــن أعــــرف سبب مـا يحصل مـعـي، فـأنـا فاعلة فـي املجتمع، وشخصيتي قوية، وحققت نجاحات عدة. فـــلـــمـ­ــاذا أتــــحـــ­ـول إلــــى شــخــص ضــعــيــف في الـــحـــب والــــصــ­ــداقــــا­ت؟ كـــانـــت عــالقــات­ــي غير صحية، وكنت أبــرر استغالل اآلخـريـن لي. أدركـت أنني بحاجة للمساعدة، فتواصلت مــع طبيب أعـطـانـي عــالجــًا. لــم أعــد أتفاعل مع أي شيء، ال الفرح وال الحزن. حتى إنني توقفت عن القيام بأعمالي اليومية، ألعرف الحـقـًا أن أحــد األدويــــ­ة كــان ملــرض الـصـرع، فـتـوقـفــ­ت عـــن تـــنـــاو­ل األدويــــ­ــة ألعــلــم الحـقـًا بخطورة التوقف عنها فجأة». بعد معاناة

صحية طويلة، توجهت دانــا إلــى معالجة نفسية وطبيب أعصاب. «بعد عشر دقائق مـن جلستي معه عـن بـعـد، شـخـص بأنني أعاني من االضطراب ثنائي القطب (عبارة عن حالة صحية عقلية تتسبب في تقلبات مـــزاجـــ­يـــة مـــفـــرط­ـــة تــتــضــم­ــن االرتــــف­ــــاعــــ­ات - الهوس أو الهوس الخفيف، واالنخفاضا­ت العاطفية)، فوصف لي دواء خاصًا بتقلب املــزاج، رغـم أنني شرحت له أنني ال أعاني من تقلب مزاج، لكنه أصر على تشخيصه». لم يأت العالج بنتيجة، فتركت دانا جلسات العالج وتخلت عن الدواء تدريجيًا، بعدما بــــــدأت آثـــــــا­ره الــجــانـ­ـبــيــة تــظــهــر عــلــيــه­ــا، إذ يصيبها بالتخدير الــدائــم، وعــدم التفاعل مع األحداث. تـــوقـــف­ـــت دانــــــا عــــن تـــلـــقـ­ــي أي عـــــالج بـسـبـب التكاليف الباهظة وعدم جدوى التشخيص والـجـلـسـ­ات. «لـيـس مــن املنطقي أال يتوفر دعـــم نفسي مـجـانـي للجميع، وأن ينتحر بــــعــــ­ض األشــــــ­خــــــاص بـــســـبـ­ــب عـــــــدم وجـــــود داعـــمـــ­ني مـتـخـصـصـ­ني. ومــــن الـخـطـيـر جـــدًا أن يـتـحـول الـعـالج النفسي إلــى تـرنـد على وســـائـــ­ل الـــتـــو­اصـــل االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي، فتنتشر نــصــائــ­ح مـــن غــيــر املــتــخـ­ـصــصــني، عــــدا عن استغالل املرضى ماديًا على نطاق واسع».

دعم شخصي لتخطي االكتئاب

«بعد عالقة عاطفية صعبة، عشت االكتئاب»، تـــقـــول ســـــالم (اســــــم مـــســـتـ­ــعـــار) وهـــــي ســيــدة أربعينية تعمل فـي مـجـال الكتابة. «تـأثـرت صــحــتــي الـــجـــس­ـــديـــة وامـــتـــ­نـــعـــت عــــن الــقــيــ­ام بالعديد مـن األعــمــا­ل، وأصـابـنـي صـــداع في الـــــــر­أس مــــا اضـــطـــر­نـــي لـــلـــقـ­ــيـــام بــفــحــو­صــات وتخطيط دماغ ملعرفة السبب، فرجح الطبيب أنــه اكـتـئـاب ونصحني بـالـدعـم النفسي من دون دواء. بـــدأت الـعـالج عــام 2021 واستمر ملـــــدة ثــمــانــ­يــة أشـــهـــر. كـــانـــت جــلــســا­ت مكثفة ومـكـلـفـة إذ كـنـت أدفــــع مــائــة دوالر للجلسة الواحدة، لكنني كنت أقـول إنني أستحق أن أهتم بصحتي النفسية». فـــقـــدا­ن ســــالم عـــــددًا مـــن أصــدقــائ­ــهــا أعـــادهــ­ـا إلـــى دوامـــــة االكــتــئ­ــاب، لكنها لــم تـتـمـكـن من مـــتـــاب­ـــعـــة جـــلـــسـ­ــات الــــعـــ­ـالج بـــســـبـ­ــب كـلـفـتـهـ­ا املرتفعة، فقررت أن تطبق آليات احتواء القلق واالكتئاب بنفسها. تقول مديرة ومطورة مشاريع في مجموعة «نـــون التضامن» النسوية فــرح أبــي مرشد: «الدولة غير معنية بقضايا الشعب، إذ رفعت الــدعــم عــن أدويــــة عــــدة، منها أدويــــة الصحة النفسية، رغـم الحاجة امللحة لهذه األدويــة، عدا الفوضى وعـدم وجـود رقابة على قطاع األدوية. واملخيف هو صمت نقابة املعالجني الـنـفـسـا­نـيـني، وعــــدم اتــخــاذه­ــا أي إجـــــراء أو خـــطـــوا­ت فــاعــلــ­ة ملـــواجــ­ـهـــة خـــطـــور­ة انــقــطــ­اع الـــدواء، وتـراجـع الخدمات الصحية، وتفلت أسعار الجلسات العالجية». وعـــن دور الــجــمــ­عــيــات، تــوضــح أبـــي مـرشـد: «أقــدمــت الجمعيات على التدخل ومحاولة حل أي مشكلة في موضوع الصحة النفسية، ولـــكـــن تــواجــهـ­ـنــا الـــيـــو­م اعـــتـــب­ـــارات عــــدة لها عــــالقــ­ــة بــــــاأل­مــــــان والــــخــ­ــصــــوصـ­ـــيــــة وأمــــاكـ­ـــن الـجـلـسـا­ت، كما نـظـرة الجمعيات ألصحاب الــــدخــ­ــل املــــحــ­ــدود الــــذيــ­ــن هــــم بـــحـــاج­ـــة لــهــذه الــخــدمـ­ـات. وهـــل هــنــاك مـسـتـوصـف­ـات تدخل العالجات النفسية ضمن خدماتها؟ وكذلك األمر بالنسبة لتدريب املوظفني على كيفية

المعالج هو سبيل المريض للنجاة من مخاطر التداعيات

األزمات المعيشية رفعت الطلب على خدمات الصحة النفسية

التعاطي مـع هــذه الــحــاال­ت». كما تؤكد أبي مـرشـد أن «األزمــــة االقـتـصـا­ديـة ساهمت في ارتفاع الطلب على خدمات الصحة النفسية بسعر رمـــزي أو شبه مـجـانـي، مــا أثـــر سلبًا عـلـى الـــقـــد­رة االسـتـيـع­ـابـيـة لـلـجـمـعـ­يـات ذات الـــتـــخ­ـــصـــص. لــكــن يــجــب أن يـــجـــري اعــتــمــ­اد خـــطـــط بـــديـــل­ـــة، كـــالـــع­ـــمـــل عـــلـــى الـــتـــم­ـــكـــن فـي تقنيات الرعاية الفردية والرعاية الجماعية، وتعميمها وصــوال إلى األماكن البعيدة عن مـــراكـــ­ز الـــخـــد­مـــات، والــتــوع­ــيــة حــــول الـصـحـة الـنـفـسـي­ـة، والـتـنـبـ­يـه مـــن خـــطـــور­ة اســتــخــ­دام املهدئات واملنومات بشكل عشوائي»، مشيرة إلـــى أن عـــدم وجــــود قــانــون يـحـمـي املــرضــى، وغـيـاب دور النقابة، يفاقمان الـوضـع الـذي سببته األزمة االقتصادية الراهنة.

مخاطر عدم العالج

عروة (اسم مستعار) شاب سوري ثالثيني، يــعــمــل فـــي مـــجـــال الــتــســ­ويــق، شـــخـــص عــام 2018 بــاالضــط­ــراب ثـنـائـي الــقــطــ­ب، وبـــدأت رحلة عالجه في سورية، ليتابعها في لبنان قبل أن يتوقف عن العالج، إثر انهيارات عدة تعرض لها. يقول: «ولـدت في عائلة مكونة من ثالثة أوالد وأمي وأبي. أنا االبن األوسط فــــي الـــعـــا­ئـــلـــة. كـــــان أبـــــي يــعــمــل فــــي الــســلــ­ك العسكري وكان قاسيًا بشكل مجحف، عكس أمي التي كانت حنونة جدًا، فكنت أكثر من يــتــحــم­ــل الــظــلــ­م واألســـــ­ـى، كــمــا كــنــت أســبــب األذى لآلخرين وأتلقى العقاب أيضًا. كبرت وأنــــا أعـــانـــ­ي مـــن مـشـاكـل تـقـلـب املـــــزا­ج. عـام ،2018 بــدأ األمـــر يـؤثـر على عملي ويسبب لي املشاكل بفعل نوبات االكتئاب التي كنت أتـعـرض لها. شخصت باالضطراب ثنائي القطب من الدرجة الثانية. اقتنعت بضرورة البدء بالعالج وأخذ الدواء، لكنني لم أستمر بــه، إذ إن االضــطــر­اب يسيطر على مزاجي وسلوكياتي».

 ?? (جوزيف عيد/ فرانس برس) ?? كان النفجار مرفأ بيروت تأثير كبير على صحة اللبنانيين النفسية
(جوزيف عيد/ فرانس برس) كان النفجار مرفأ بيروت تأثير كبير على صحة اللبنانيين النفسية
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar