ذلك الفيلم لحظات السينما األولى
ألن يكون ألهل تأثيرات تنبثق من أوضاع اجتماعية وثقافية؟
«عودة االبن الضال» و«صوت الموسيقى»: أيهما األول؟
تنشر «العربي الجديد» حلقة ثانية وأخيرة (األولى منشورة في 14 يناير/ كانون الثاني )2023 من ملف عن «أول فيلم»، عنوانه «لحظات السينما األولى»، يتضمن مقاالت لزمالء وزميالت، يروون فيها حكاياتهم الشخصية مع السينما، من دون التغاضي عن ظروف وأحداث ومفاصل يعيشونها في تلك اللحظات نفسها
أول فــيــلــم. أيـــكـــون هـــنـــاك، فــعــا، أول فـيـلـم مـــؤثـــر فـــي حــيــاة أحـــد؛ أم أن تــــراكــــمــــا مــــن األفـــــــــام، فـي مناسبات وظروف مختلفة، يصنع تأثرًا بالسينما، وبما فيها مـن عـوالـم وصــور وحكايات وانفعاالت واشـتـغـاالت؟ أفـام وظـروف فقط، أم أن هناك تربية عائلية، وســلــوكــا اجــتــمــاعــيــا، وتـثـقـيـفـا مـعـرفـيـا؟ أي ظـــرف يساهم فـي هـــذا؟ أي وقـــت وأي حالة وأي واقـع وأي رغبة وأي عمر وأي وعــــي، ولــلــطــفــولــة/املــراهــقــة وعـــي خـــاص بكل واحــدة منهما؟ أيكون للسينما، في بـــيـــروت مـــثـــا، تــأثــيــر يـخـتـلـف، كــثــيــرًا أو قليا، عن ذاك التأثير الحاصل في مدن
ٍّ عــربــيــة أخــــــرى، أو فـــي الــــغــــرب، واملــعــنــي بــتــأثــيــر بـــيـــروت مـــرتـــبـــط بــفــتــرة ســابــقــة، بقليل، على انـــدالع الـحـرب األهلية فيها 13( أبـــريـــل/ نــيــســان ،)1975 وبـلـحـظـاٍت أولى منها؟ مــــاذا عـــن الـــوضـــع االجــتــمــاعــي، والــحــالــة الثقافية، والـتـربـيـة النفسية؟ ألـــن يكون ألهل تأثيرات، يفترض بها أن تنبثق من أوضاع لهم، اجتماعية وثقافية وتربوية ومسلكية؟ أهناك اهتمام لهم بالسينما، أو بــالــفــن، أو بــالــثــقــافــة، واهـــتـــمـــام كـهـذا يتوقع له أن ينعكس على ابــن، يولد في بـــيـــروت قــبــل أقـــــل مـــن 10 أعــــــوام، بـقـلـيـل، على انـدالع حربها األهلية، وفي األعـوام الــــ01 تـلـك خــضــات وارتــبــاكــات وتــبــدالت، تـنـكـشـف لــه تـدريـجـيـا فــي أعـــــوام الحـقـة؟ واألهـــــل، الـــذيـــن يـــؤثـــرون فـــي غـيـر الـبـالـغ 10 أعــــــــوام بــــعــــد، «يـــــــطـــــــردون» مــــن بـــلـــد، يـولـد بعضهم فـيـه، ويـهـاجـر بـعـض آخر إلـيـه، فــإذا بمتغيرات عـــدة، فـي السياسة والقيادة والسلطة في ذاك البلد، تفرض خـروجـا يشبه السلخ، والـذهـاب/الـعـودة إلــى بـلـد، يفترض بـه أن يكون «األصـــل»، لــكــن ظــروفــا أخــــرى سـابـقـة تــدفــع أجــــدادًا إلى هجرة، تختار اإلسكندرية بديا عن بيروت، بداية القرن الـــ02، قبل أن تسبب «ثــورة ضباط أحـــرار» 25( يوليو/ تموز ،)1952 وتــــداعــــيــــات ســلــبــيــة جـــمـــة لــهــا، بــهــجــرة قـسـريـة ألهـــل وأقـــــارب، لــن تكون أقــــل مـــن انـــســـاخ قـــاهـــر وقـــاتـــل، إلــــى بلد األصل، وأي أصل هذا، أن يهجر أبناءه/ بناته، أللف سبب، أو لسبب واحد؟ أيـعـقـل أن يـكـون الــتــأثــر األفــعــل واألعـمــق واألجــــــمــــــل، وإن يـــبـــقـــى غــــامــــضــــا وغـــيـــر معروف حينها، منبثقا من سيرة أهل مع السينما، في إسكندرية ثاثينيات القرن الـ02، وأربعينياته وخمسينياته؟ أيكون تأثير، عند استماع شبه دائـم لحكايات أهـــــــــل مــــــع أفـــــــــــام وصــــــــــــاالت و«نــــــجــــــوم/ نــجــمــات»، والـحـيـويـة نــاشــطــة، والــهــنــاء ـ السابق على خراب ـ معمم، والتداخل بني العائلي والعام فاعل في لحظات؟ هـــــــذا يـــســـتـــدعـــي ســـــــرد حــــكــــايــــة عـــائـــلـــيـــة بـــســـيـــطـــة، قـــبـــل كـــــــام عـــــن الــــتــــأثــــر األول بــفــيــلــم أو بـــأكـــثـــر، والـــحـــكـــايـــة فــاعــلــة في عـــاقـــة شــخــصــيــة بــالــســيــنــمــا، وســتــكــون (الــــحــــكــــايــــة) أســـاســـيـــة فــــي ارتـــــبـــــاط غـيـر واضـــح بالشاشة الكبيرة، يـأتـي مـع أول جـلـوس فـي صـالـة، مـع أفـــراد كثيرين من األهل/العائلة، ملشاهدة فيلم يسبق آخر، سيكونان، الفيلمان معا رغـم وقـت قليل يـمـر بـني مـشـاهـدة كــل واحـــد منهما، أول تأثر بالسينما. يحدث هذا في 29 مايو/ أيـار .1955 إنه يـــوم عـــرس املــخــرج الـسـيـنـمـائـي املـصـري يـــوســـف شـــاهـــني فــــي «كــنــيــســة الــقــديــس
يـــوســـف ـ فــلــيــمــيــنــغ» فــــي اإلســـكـــنـــدريـــة. أحــــد املـــدعـــويـــن: عــمــر الـــشـــريـــف. لـــم يشأ الكاهن فيليبوس، عـم الـوالـدة أم سليم، إتـــمـــام مـــراســـم الــــعــــرس، لـــخـــاٍف كـنـسـّي مـــع املــمــثــل، زوج الــرائــعــة فــاتــن حـمـامـة، إال بعد خروجه من الكنيسة. في لحظة مستلة من اللحاق بزوجها، الذي يعتنق اإلســــام لـــلـــزواج بــهــا، فـيـكـون هـــذا سبب الخاف الكنسي معه، تستوقفها الوالدة والــخــالــة كــاتــي أمــــام بـــاب الـكـنـيـسـة، من أجل صـورة، ستظل وقائعها وحكايتها تــحــفــر فـــي املــخــيــلــة الــشــخــصــيــة طـــويـــا، لــــكــــثــــرة تـــــكـــــرارهـــــا، وســـتـــبـــقـــى الــــصــــورة مـحـفـوظـة فــي أرشــيــفــي الـــخـــاص. صــورة مـحـفـورة، وحـكـايـة ضـاغـطـة، تنعكسان، الحــــقــــا، فــــي كـــيـــفـــيـــة مــــشــــاهــــدة الـــــوالـــــدة، تــــحــــديــــدًا، أفــــامــــا مـــصـــريـــة عـــلـــى شــاشــة التلفزيون، فـي مدينة (بـيــروت) تمقتها الـــــــوالـــــــدة، ولــــــو بـــصـــمـــٍت قـــــــــاٍس، خـــاصـــة تـــلـــك املــــــصــــــورة، كـــلـــهـــا أو بـــعـــضـــهـــا، فـي اإلسكندرية، املدينة التي تعشقها: «هذه مــحــطــة بـــــاب الـــــرمـــــل». «هــــــذا الـــتـــرامـــواي يـــمـــتـــد مــــن مــحــطــة بـــــاب الــــرمــــل إلـــــى أول شارع العطارين». «هذا مقهى ايليت في شارع صفية زغلول». «هذه مدرسة دون بــوســكــو». «هـــذا شــاطــئ أبـــو قــيــر». «هــذا شــــارع الــعــطــاريــن (الـــشـــارع الــــذي يشهد والدة أم سليم، ويسكن األهـل فيه سنني مديدة)». «هذا كذا»، و«ذاك كذا». تـعـلـيـقـات الـــوالـــدة ســتــحــول، دائـــمـــا، دون فــــرجــــة ســــويــــة. لــــكــــن، ال جـــــــرأة تـــحـــرض عـــلـــى اعـــــتـــــراض. هـــــذا قـــبـــل إدراك مـعـنـى تــلــك الــلــقــطــات عــنــد امــــــرأة، تـعـيـش أبـهـى أيـــام حياتها فـي مـديـنـة تشهد والدتـهـا، فــتــحــتــضــنــهــا 30 عـــامـــا فـــقـــط، مــــن أصـــل .90 الحــــقــــا، ســـــــأزور اإلســــكــــنــــدريــــة، ولـــن أتــذكــر مـوعـد الـــزيـــارة، أبــــدًا. الـتـجـوال في شــــــوارع املـــديـــنـــة، والـــجـــلـــوس فـــي مـقـهـى «إيــــلــــيــــت»، واتـــــصـــــال هـــاتـــفـــي بــــالــــوالــــدة. املــفــاجــئ لـــي أنــــي غــيــر مــكــتــرث بــصــاالت السينما في املدينة التي تشهد حياة ألم، قبل أن تـنـهـب الـحـيـاة منها. لـكـن املـؤكـد أنــــي غــيــر عـــائـــد الــبــتــة إلـــى اإلســكــنــدريــة، بعد تلك الــزيــارة، وأنـــي سـأوطـد عاقتي بـــالـــقـــاهـــرة، كـــي أصـــنـــع جـــــزءًا مـــن حــكــايــة شـــخـــصـــيـــة لـــــي مـــــع الـــســـيـــنـــمـــا والـــــذاكـــــرة والحياة واملدينة. لــن أروي الـحـكـايـة لـيـوسـف شــاهــني، في أول لقاء بيننا 2( أكتوبر/ تشرين األول ،)1994 وال في أي لقاء الحــق، واللقاءات الــاحــقــة كــثــيــرة. لـــن أخــبــر فــاتــن حـمـامـة أيـــضـــا، فـــي لــقــاء وحــيــد بــهــا 3( فــبــرايــر/ شـبـاط .)2001 ال سبب يـحـول دون سرد الحكاية لشاهني، لكني غير عارف مغزى عدم سردها له. مع فاتن حمامة، السبب واضــــح: تـفـرض منعا تـامـا على أي كـام مختص بعاقتها مع عمر الشريف.
أول فيلم؟ أم أنّهما «أول» فيلمين؟
«عـــــودة االبــــن الـــضـــال» )1976( لـيـوسـف شــــاهــــني، و«صـــــــوت املـــوســـيـــقـــى» )1965( لروبرت وايز: أيهما األول؟ متى املشاهدة؟ أم أن مـشـاهـدة أحـدهـمـا مـتـرافـقـة، كثيرًا، مــع مـشـاهـدة الــثــانــي؟ أم أن الــتــأثــر األول بالسينما متمثل بصالة، سأعرف الحقا أن اســمــهــا «ســيــنــمــا ســــان شـــــــارل»، وأن موقعها في املبنى الذي ال يزال غير مرمم من أيــام الحرب األهلية اللبنانية 1975( ـ ،)1990 أي مبنى فـنـدق «هـولـيـداي إن»، الـذي سيكون معلما أساسيا في بدايات تلك الحرب، بما سيعرف الحقا بـ«معركة الـــفـــنـــادق» (أكــتــوبــر/تــشــريــن األول 1975 ـ مــــارس/ آذار )1976 يـصـعـب الـتـحـديـد، أو الــحــســم. ربــمــا لــهــذا تــعــشــق السينما، فــــا شـــــيء فــيــهــا ومـــنـــهـــا مــــحــــدد وثـــابـــت ومحسوم. كما الحياة. كما الكتابة. كما العيش. كما الحب. صـــالـــة «ســيــنــمــا ســــان شــــــارل» بــاقــيــة في ذاكــرة معطوبة، فا الفيلم املشاهد فيها مـــــعـــــروف، وال زمــــنــــه، بــــل فـــقـــط مــدخــلــهــا الـــطـــويـــل، والـــثـــريـــا فــيــه ضــخــمــة وبــهــيــة، والـــســـجـــاد أحـــمـــر ورائـــــــع. لـــكـــن، مـــــاذا في الـصـالـة؟ كـم حجمها؟ كـبـيـرة؟ نـعـم. لكن، كــــم مـــقـــعـــدًا فـــيـــهـــا؟ كـــيـــف شـــكـــل شـاشـتـهـا وحجمها؟ أسئلة معلقة وما من إجابات، ال قــبــل اآلن، وال بـــعـــده، رغــــم مــعــلــومــات مـتـفـرقـة تنكشف الحــقــا، وبعضها يقول إن الـصـالـة كـبـيـرة، وإن افتتاحها سابق عـــلـــى انــــــــدالع الــــحــــرب الـــلـــبـــنـــانـــيـــة بـــوقـــت قصير. هذا معطوب كليا. أيكون «صوت املـــوســـيـــقـــى»؟ ربـــمـــا. أمــــا ســـؤالـــي الــاحــق بعد أعـــوام، فإجابة الـوالـدة عليه مرتبكة وغامضة. أيكون «الفالس الكبير»؟ هناك شبه استحالة، فالفيلم منتج عـام ،1938 ومـــخـــرجـــه غـــيـــر مــــعــــروف لــــي ال حـيـنـهـا، وال بــعــد ذلــــك بــــأعــــوام مــــديــــدة: جــولــيــان دوفيفييه (مــع فكتور فليمينغ وجــوزف فــون سترنبيرغ، مـن دون ذكــر اسميهما في الجينيريك). إعــادة عـرض فيلم قديم في صالة، تفتتح حديثا، صعبة للغاية، إن لــــم تـــكـــن مــســتــحــيــلــة. افـــتـــتـــاح صــالــة جديدة، قبل أشهر على اندالع تلك الحرب اللعينة، يحتاج إلـى فيلم جديد (أم أنـي أتـــوهـــم هـــــذا، كـــي أخـــفـــف قــلــيــا مـــن عــبء نسيان غير مقصود؟). لكن، أي فيلم؟ ال. هناك عطب في مسألة كهذه. األفضل، أن أعود إلى فيلمي شاهني ووايز، ولن يكون مــهــمــا تــحــديــد الــصــالــة وزمــــن املــشــاهــدة. إنهما األرسخ في الذاكرة، كـ «أول فيلم».