ذلك الفيلم
سينمات حمص هل نحتفظ بذائقة الطفولة؟
في حمص ميزت مرحلة الشباب أفالم فرنسية شعبية ممتازة
إنها صور واضحة من أفام ضبابية، تركت أثرها على أحاسيس طفولة بعيدة. هناك بطل ال يقهر، يقضي على الشر واألشـــرار. وســيــم طـبـعـًا. عـــاري الــصــدر، لـــزوم الحقبة الـــتـــاريـــخـــيـــة، وربــــمــــا أيــــضــــًا لـــــــزوم إظـــهـــار الــعــضــات املــفــتــولــة. كــــان الـــســـؤال املــحــيــر: مــن أفـضـل يــا تــــرى: هــرقــل، بـطـل األسـاطـيـر اإلغــريــقــيــة والـــرومـــانـــيـــة، ورمـــــز الـشـجـاعـة والـــــقـــــوة الـــهـــائـــلـــة والـــتـــحـــمـــل؛ أم مــنــافــســه (ســيــنــمــائــيــًا)، مــاشــيــســتــي؟ االثــــنــــان بطا الطفولة. هرقل (املمثل ستيف ريفز في معظم األفام)، حامي الرياضيني، وابن اإلله الذي ينبذ الخطر. أحيانًا، بحسب الحالة، تنحاز نظرات اإلعجاب إلى أحدهما أكثر من اآلخر. لكنهما، ربما ماشيستي (اإليـطـالـي كيرك مــوريــس) أكــثــر، مــثــا فــي املخيلة انتصار الخير، وتجسيد العدالة على األرض. هل يشعر األطفال بأنه الصراع األبدي لهذه الحياة؟ كانت أفام انتصارات وأمل. لم يكن األمل طفوليًا فحسب، فاألجواء كلها كانت متفائلة. أفــــام كــهــذه كــانــت تــعــاد مـــــرارًا، وتـلـقـى في حمص السورية شعبية كبيرة. كنا ال نفوت منها فيلمًا، ال سيما في «سينما حمص». كـل سينمات املدينة مشرعة أمامنا. يكفي هاتف سريع من أبي. عيدا الفطر واألضحى كــانــا الــســيــنــمــا. فــيــلــم وراء آخــــر. كــلــهــا مع ماشيستي وهرقل. ربما ألني كنت مجبرة، حينها، على مرافقة أخـي األكبر سنًا. كان هــؤالء أبطاله الذين باتوا أبطالي. تعلقت بـــهـــذه الــســيــنــمــا وأبـــطـــالـــهـــا األســـطـــوريـــني وقـصـصـهـا الــتــاريــخــيــة، الــتــي كــانــت تـــدور أحـــداثـــهـــا قــبــل املــــيــــاد، ال ســيــمــا فـــي رومـــا الـقـديـمـة والــيــونــان ومــصــر. أفــــام أطلقها، بـــعـــد املــــوجــــة األولـــــــى فــــي عـــصـــر الـسـيـنـمـا الصامتة ثم فترة هوليوود، ريكاردو فريدا، املخرج واملمثل وكاتب السيناريو اإليطالي املولود في مصر، مع «سبارتاكو» .)1952( كـــان الـعـصـر الــذهــبــي لـلــ«بـيـبـلـوم». تعبير توصف بـه األفـــام التاريخية األسطورية، الــتــي تـقـع أحــداثــهــا فــي الـعـصـور الـقـديـمـة، استند بعضها إلى قصص العهدين القديم والـجـديـد. ثــم سيطرت السينما اإليطالية الـشـعـبـيـة عــلــى هــــذا الـــنـــوع، وأنـــتـــجـــت منه أفام عدة، يواجه فيها باسم العدالة أبطال، كهرقل وماشيستي، أســوأ األشـــرار وأعــداء اإلنــســانــيــة. فـــي نـهـايـة مــعــاركــهــم، يـتـلـقـون إعــجــاب وقــبــات حــســنــاوات السينما ذلـك الحني. هـذه املجموعة الفريدة، التي دامت نحو 10 سنوات 1958( ـ ،)1969 كانت تعرض ويـــعـــاد عــرضــهــا بــاســتــمــرار فـــي الـــصـــاالت. وجدت في معظم ما شاهدته منها بطا ال يقهر، يبحث عن تحقيق العدالة. هذا ما بقي في ذاكرة غضة، في أجواء نهاية ستينيات منفتحة في حمص، املــأى بالـ«سينمات» الـشـعـبـيـة والـــبـــورجـــوازيـــة. سينما لـأفـام األجنبية، وثانية للعربية، وثالثة للهندية، وأخرى محرمة علينا، ألنها للـ «زعران» فقط. فيلم، كانت استعادته الدائمة مهمة سينما «األمير». كان الخروج األول عن هذه األفام. تصطحبني قريبتي الشابة ملشاهدة عبد الـحـلـيـم، مـعـبـود الــنــســاء فــي ديـــارنـــا. كنت تبريرًا مناسبًا للسماح لها بدخول السينما. كان محظرًا عليها ارتياد هذا املكان «العيب».
ّّ لكن، طاملا تعلق األمر باصطحاب صغيرة الـــعـــائـــلـــة، املـــدلـــلـــة واملـــلـــحـــاحـــة سـيـنـمـائـيـًا، فــا بـــأس. كـــان عــاملــًا آخـــر فــي صــالــة عـرض «معبودة الجماهير» ،)1967( لحلمي رفلة. نساء، ونساء فقط، خافًا ألفام هرقل، حيث شباب، وشباب فقط، وأنا مع أخي. فرضوا علي أفامهم، لكني تعلقت بأبطالهم. في «مـعـبـودة الجماهير»، تعلقت طفلة بعبد الحليم ونظراته لسنوات، ثم لم أعد، شابة، أطيقها، حني عرفت بما فرضه على سعاد حـسـنـي مـــن إخـــفـــاء عـــاقـــة الـــحـــب بينهما. بعد أن أصبحت النسوية شغلي الشاغل، كرهت عبد الحليم. لكن، حينها، جذبتني العواطف الرقيقة في الفيلم، وأثار فضولي ما كان يثيره من دمـوع في عيون العذارى واملتزوجات، حتى أولئك اللواتي كن يأتني إلـــى السينما مــع أطـفـالـهـن الـــرضـــع. كانت دار العرض كالسوق، بعضهن جلسن على األرض، المتاء الصالة عند كل حفلة بعد الظهر. أم ترضع طفا أثناء عرض الفيلم، أو فــي االســتــراحــة، بينما آخـــر يــجــري بني املقاعد بعد أن مل الحكاية. أخريات يشهقن بالبكاء. بعضهن ال يتوقفن عـن تعليقات متعاطفة مع حليم ضد شادية، ثم في الدعاء على يوسف شعبان، الذي أوقع بني االثنني. كانت النساء يحفظن الفيلم عن ظهر قلب، ويتوقعن كـل حــدث، فتبدأ التعليقات قبل حدوثه. كـانـت أول مـــرة أشــاهــد فيها فيلمًا يـحـول نظرتي عـن ماشيستي، فــأرى عبد الحليم أكــــثــــر ســــحــــرًا بـــقـــلـــيـــل مــــنــــه. هــــــذا لـــــم يـمـنـع استغرابًا: كيف تفضله شادية على يوسف شعبان، األكثر وسامة ورجـولـة؟ ربما ألن يوسف شرير. والشرير سيخسر كالعادة. فـي ذلــك الـوقـت، كانت سينما االنتصارات عــلــى الـــشـــر. إنــــمــــا، ألول مـــــرة، بــــدا الــشــريــر وسيمًا وجذابًا في نظري، وحافظ يوسف شعبان على مكانته لدي حتى النهاية. قريبتي نفسها اصطحبتني، كمبرر أيضًا، إلى فيلم هندي، كل ما احتفظت به كذكرى ذاك الزحام الهائل والفوضى في السينما، وعـبـارة «سـوكـو سـوكـو». فيلم كـان حديث املـديـنـة، وكـــان يـعـرض دائــمــًا، ويـذهـب إليه أناس ال يرتادون، عادة، دور السينما. لكني لم أحفظ مشهدًا واحـدًا منه، ولم يجذبني. كنت أنتظر، كما أذكر، انتهاء ه بفارغ الصبر.
بــقــي الــنــفــور مـــن أفــــام هــنــديــة إلــــى الــيــوم، وفـي هـذا شـيء عجيب. هل نحتفظ بذائقة الطفولة؟ حني تسأل: ما فيلمك األول الـذي تـرك أثره لديك، يتبادر إلى الذهن، فورًا، الحب األول الذي «علم». إن أحببنا جميعنا ترداد بيت شعر املتنبي «نــقــل فـــؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إال للحبيب األول»، أدركنا
سريعًا عدم مطابقته ملشاعر الحياة. هناك أفـــام عـــدة، كلها أولـــى فـي دورهـــا، وفــي ما أضــافــتــه عـلـى حـيـاتـنـا. فــي حــمــص، مــيــزت مـــرحـــلـــة الـــشـــبـــاب أفـــــــام فــرنــســيــة شـعـبـيـة مـــمـــتـــازة، كـــانـــت تـــغـــزو قـــلـــوب الــجــمــاهــيــر. أبطالها آالن دولــون وجــان ـ بـول بلموندو ولــيــنــو فـــنـــتـــورا. كــانــت «سـيـنـمـا الــكــنــدي»، الــتــابــعــة لـــــــوزارة الــثــقــافــة، تـــعـــرض الـكـثـيـر