كالفينو وعشق السينما وذاكرة الحرب
لــم أكـــن تـــجـــاوزت الــعــاشــرة مــن عــمــري، حني خـــرجـــت عــائــلــتــي، لــلــتــو، مـــن مـشـكـلـة كـبـيـرة مــع الـحـكـومـة، بمعناها املـــجـــازي: طــلــب من أبـــي، سـائـق قــطــار، أن «يـحـشـر» 500 سجني يــســاري (شـيـوعـي) فــي الـعـربـات الـحـديـديـة، فــي صـيـف تــمــوز/ يـولـيـو الــقــائــظ، إلـــى أحـد أكثر السجون رعبًا في العراق، سجن «نقرة الــســلــمــان» (الـــجـــنـــوب). أمـــر نـقـلـهـم يتضمن أيضًا سـيـر القطار بـبـطء، ليموت أكبر عـدد منهم. تحايل أبي على األمر، وسار بالقطار بـــأقـــصـــى ســـرعـــتـــه، إليـــصـــالـــهـــم ســـاملـــني إلـــى سجنهم. هـذه الحادثة اعتبرها اليساريون مـلـحـمـة وطــنــيــة، ومـــجـــدوا بــطــولــة الــســائــق، وســمــي الـقـطـار «قــطــار املــــوت». فــي مثل هذا الـجـو، دخلت أول مــرة إلــى صالة عــرض في بغداد، بداية سبعينيات القرن الـ02، صحبة أخـــي الـكـبـيـر. كـــان الـفـيـلـم املـــعـــروض «سـاكـو وفانزيتي»، إنتاج عام ،1971 كتبه وأخرجه اإليـــطـــالـــي جــولــيــانــو مــونــتــالــدو، بـــنـــاء على أحداث محاكمة نيكوال ساكو وبارتولوميو فانزيتي، وإعدامهما. لكن، يبدو أن الفيلم لم يكن عاديًا. فصيحات الــــجــــمــــهــــور فـــــي الــــصــــالــــة تـــــصـــــرخ غـــاضـــبـــة بــــشــــعــــارات يــــســــاريــــة، وأنــــــــا مــــنــــدهــــش مــمــا يحصل، حـتـى وجدتني أتـاطـم فـي نهايته مــــع الـــجـــمـــهـــور فــــي الــــشــــارع الــــــذي تـــقـــع فـيـه الــصــالــة، مــــردديــــن الـــشـــعـــارات نـفـسـهـا. كنت خـائـفـًا وســعــيــدًا، ألنـــي بـبـسـاطـة أشـــــارك في مظاهرة. بـعـد أن نـضـج وعــيــي الحــقــًا، عــرفــت أن هـذا الــفــيــلــم ســـبـــب مـــظـــاهـــرات غـــاضـــبـــة، أشـعـلـت مــدنــًا مــثــل رومــــا وبــويــنــس آيــــرس وبــاريــس ولـيـشـبـونـة، وغــيــرهــا. إذًا، لــم تـكـن املـظـاهـرة الــصــغــيــرة فـــي بـــغـــداد، الـــخـــارجـــة مـــن صـالـة سينما سميراميس، إال جــزءًا من مظاهرات عـــــمـــــت عــــــواصــــــم كـــــثـــــيـــــرة. فـــقـــضـــيـــة ســـاكـــو وفانزيتي أثارت العالم، في عشرينيات القرن املاضي، وخلدتها السينما في سبعينياته. الـسـبـعـيـنـيـات؟ إنـــهـــا الـعـقـد الــــذي شـهـد مـــدًا يساريًا طامحًا إلى تسجيل حضوره. هناك سؤال ظل يراودني، حتى هذه اللحظة: لــــم ال أخـــلـــد مـــا فـعـلـه أبـــي مـــع الــســجــنــاء؟ أال يستحق ذلــك توثيقًا، فتعرف األجــيــال هذه القصة البطولية للسجناء والسائق؟ نعشق الحكايا والقصص من أفواه جداتنا، ومن فن الرواية. لكن، ما أمر هذا القص؟ هل ليسلينا، أم تراه تأثيرًا فينًا وعبرة لنا؟ الـــســـيـــنـــمـــا اخـــــتـــــراع ســــحــــري جــعــلــنــا نــحــب الحكايا، وسرد األحداث التي تمر بنا. لكننا نحبها أيضًا ألنها توفر علينا عناء الخلق والــتــخــيــل. فـنـحـن نــخــوض، كــأبــطــال الفيلم، أحــــداثــــًا تــصــنــع بـــمـــهـــارة، تـــطـــابـــق إلــــى حــد كبير حياتنا، فـنـروح معهم فـي متعة سرد األحــــداث، بـل والتأثير بها. نغضب ونحزن ونفرح، وأحيانًا ننتقم. الجميل في السينما أنك تتعاطى معها بـ«ديمقراطية»، ألنك أنت مـن يختار الفيلم الــذي يتماهى وطبيعتك، وال أحد يفرض عليك ما تختاره. السينما كلمة تنفتح عـلـى عــوالــم البهجة والــــحــــزن، والـــفـــوضـــى واالنـــســـجـــام، والــحــب والاحب، تمامًا مثل كالفينو في إحساسه أن ما يشاهده على الشاشة فقط هو الذي يمتلك املميزات املطلوبة من العالم: االمتاء والــــضــــرورة واالنـــســـجـــام، وأحـــــام الـيـقـظـة. بـبـسـاطـة: مــــاذ مـصـطـنـع، تشغلنا الـحـيـاة بـــه. السينما تجعلنا أكــثــر وعــيــًا فــي رؤيــة وجودنا اليومي، وفي تكوين شخصيتنا، وال بــــأس أن نــتــمــاهــى مـــع الـــخـــرافـــة، شــرط أن نـتـقـمـص الـشـخـصـيـة الــتــي نـــحـــب، على طريقة «إيرما الدوس». مثل كالفينو، وهو يفضح عشقه للسينما في «مذكرات مرتاد سينما»، فـي هـروبـه مـن املــدرســة والـذهـاب إلى صالة العرض. كان يشاهد نصف فيلم، ويـكـمـل الـنـصـف اآلخـــر فــي الـتـلـفـزيـون بعد أربعني عامًا. مــثــلــه أيـــضـــًا، كــــان لــلــحــرب حـــضـــورهـــا. عند كالفينو، اضطهاده املرير من انقطاع الرؤية بسبب قـرار الفاشية حظر األفـام األميركية فـــي الـــحـــرب. وعـــنـــدي، عــنــدمــا حـجـبـت عـنـي الــحــرب نفسها ولــــوج عــالــم أحــــب. لــكــن ذلـك
لــــم يــمــنــعــنــي يـــومـــًا مــــن الــــهــــروب مــــن إحــــدى جـبـهـاتـهـا مـــبـــاشـــرة، بـــاتـــجـــاه بـــوابـــة سـاحـة االحتفاالت املكتظة بخوذ قتلى الحرب، إلى «سينما املــنــصــور»، حيث يــعــرض «بـاريـس واآلخـرون»، قصيدة كلود لولوش البصرية. وعلى إيقاع موريس بيجار، أستعيد مأساة الحرب وأهوالها في عتمة الصالة. «صـــالـــة األحــــــــام»، هـــكـــذا بــبــســاطــة وجــدهــا روالن بارت. عالم ساحر يومض، منبثقًا من عتمتها الـحـالـكـة، الـتـي هــي عـنـد بورخيس رمادية، تشبه عالم الشاشة الفضية. كــــــان الـــحـــضـــور الــــشــــهــــوانــــي لـــلـــنـــســـاء، عـنـد كــالــفــيــنــو، يــجــعــل مـــارلـــني ديـــتـــريـــش ليست مــوضــوعــًا لــلــرغــبــة، بـــل الــرغــبــة نـفـسـهـا. أمـــا عـــنـــدي، فــهــو حـــضـــورهـــا اإلنـــســـانـــي، تـمـامـًا كــدمــوع ســــوزان هـــيـــوارد وهـــي تــواجــه حبل املشنقة فـي «دعـونـي أعـيـش»، ومــوت رومـي شنايدر في «أشياء للحياة». الحياة إذًا هي القرينة. السينما ممر إلــى الـــذات فـي لحظة انعتاقها. نهاية طريق لم يبدأ بعد. هـذا العشق للسينما جعلني أرغـــب، بشدة، فـي أن أكـــون فـي دوامــتــهــا، فـاخـتـرت الكتابة عـنـهـا. قـبـل ذلـــك، حــاولــت أن أدرســهــا بشكل علمي. لــكــن، لــأســف، لــم تسنح لــي الفرصة فــــــي الـــــــدراســـــــة الــــنــــظــــريــــة، بـــســـبـــب طــبــيــعــة فــهــم املـــؤســـســـة الــحــاكــمــة فـــي الــــعــــراق، فـتـرة الـسـبـعـيـنـيـات املـــاضـــيـــة، مـــوضـــوع الـتـعـلـيـم، حــيــث لـــم يــســمــح لــغــيــر املــتــحــزبــني بـــدراســـة بــــعــــض الـــــــفـــــــروع اإلنـــــســـــانـــــيـــــة، كــــالــــريــــاضــــة والـــفـــن والـــتـــدريـــس، بـاعـتـبـار أن املـتـخـرجـني سيدخلون سلك تعليم األجـيـال. هـذا زادنـي إصرارًا على اكتساب املعرفة السينمائية من غير مصادرها األكاديمية الصرفة، واعتماد الـــقـــراءة املـتـخـصـصـة، واملــشــاهــدة املستمرة لأفام، فضا عن ماحقة أبرز إنجازات هذا الفن وتياراته. ال يازمني شـعـور بــأن الــدراســة األكاديمية كانت ستضيف لي ما هو أكثر مما فعلته، خاصة أن املؤسسات األكاديمية السينمائية لــديــنــا تــعــانــي قـــصـــورًا واضـــحـــًا فـــي أدائـــهـــا التعليمي، ومـعـظـم خـريـجـيـهـا تستوعبهم الوظائف اإلدارية.
السينما اختراع سحري جعلنا نحب الحكايا وسرد األحداث