سالم يا صاحبي
أنــزل مـن امليكروباص يوميًا، وأسـيـر فـي شـارع الـبـحـر (عــلــى الــنــيــل) عـشـر دقـــائـــق. أدلــــف يمينًا إلـــــى الــــشــــارع الــــواســــع جــــــدًا. فــــي نـــهـــايـــتـــه، مـحـل الـبـقـالـة الـــذي أعـمــل فـيــه. «األفــيــشــات» الضخمة على يـسـاري تعلن عـن عـــروض األفـــالم. مواعيد الــعــروض تتقاطع مــع مـواعـيـد عملي فــي دكـــان يملكه األســـتـــاذ هـــــارون، املـــوظـــف فــي املـحـافـظـة، الــذي لـم يكن يعلم حينها أنــي أواصـــل دراستي الــثــانــويــة، وأنــــي فـــور انــتــهــاء اإلجـــــازة الصيفية سأتركه، ألنتقل إلى الصف الثاني. أخفيت عنه األمر ألضمن موافقته على منحي العمل. فــي ذاك الـــعـــام، ،1989 كـــان االحــتــفــال الـتـاريـخـي برفع علم مصر معلنًا السيادة على طابا. أيضًا، عـــادت مـصـر إلـــى «جـامـعـة الــــدول الـعـربـيـة» بعد قطيعة 10 ســـنـــوات، إثـــر اتـفـاقـيـة كــامــب ديـفـيـد. األخبار في الصحف، التي يشتريها أبي مرتني فـــي األســـبـــوع، تـــركـــز عـلـيـهـمـا، خــاصــة مـوضــوع طابا، حيث االحتفاالت بالتلفاز، وأغنية شادية «مصر اليوم في عيد» يتردد صداها كثيرًا. مع ذلك، تظل ذكرى مشاهدتي أول فيلم في قاعة السينما أقــوى. كانت السينما صيفية، والهواء املـــقـــبـــل مــــن الـــنـــيـــل، الـــقـــريـــب جــــــدًا، فــــي مـنـتـصـف ســبــتــمــبــر/أيــلــول، يــلــطــف الـــجـــو بــشــكــل ســاحــر، ويجعلنا منغمسني مع األبطال. إنـــه «ســـالم يــا صـاحـبـي» لــنــادر جـــالل، مــع عــادل إمام وسعيد صالح وسوسن بدر. صدقًا، ال أعرف ملاذا عرض الفيلم في هذه السينما، في محافظة دمياط، في ذاك العام، رغم أنه منتج عام ؟1987 كما لم أهتم حينها باسم املخرج. جذبتني صورة عــادل إمــام. كنت أحــب أداءه جــدًا، والشخصيات التي يقدمها. لم يكن أبدًا فتى أحالمي، لكنه ظل لسنني طويلة يحتل مكانة راسخة في وجداني، بسبب مسلسليه «أحالم الفتى الطائر» ،)1978( و«دمــــوع فـي عـيـون وقـحـة» .)1980( فـي قريتي، الــتــي كــانــت مـنـفـى الـوطـنـيـني فــي عـهـد اإلنكليز واملــلــك، لــم يـكـن هـنـاك أي دار عـــرض سينمائي، وال مــــســــرح، وال أي وســـيـــلـــة تـــرفـــيـــه بـاسـتــثـنــاء األفــراح، واالحتفاالت الدينية، ومناسبات قليلة فـــي املــــدرســــة، كــاالحــتــفــال بــعــيــد األم، أو املــولــد النبوي في الطابور املـدرسـي صباحًا، أو إقامة مـسـابـقـة مـوسـيـقـيـة فــي املـــدرســـة اإلبــتــدائــيــة، أو مسابقة الشعر، أو حفظ القرآن الكريم في مرحلة اإلعــدادي، حيث اختفت حجرة اآلالت املوسيقية
وحصصها تـمـامـًا، وكـــان هــذا صـادمـًا لــي، ألنـي كـنـت أتـخـيـل أنـــه يـفـتـرض بــالــدروس املوسيقية أن تتواصل في اإلعــدادي. لكن، حني أتأمل األمر اآلن، أجدني أرجح أن السبب كامن في مجموعة مدرسني متشددين دينيًا، انتشروا في منتصف الثمانينيات في املدرسة، لتدريس مادتي العلوم والرياضيات، ومـادة املجاالت التي تهتم بأمور تتعلق بالكهرباء والصنائع. كـان هــؤالء يجهدون في نشر الـدعـوة، والتنفير من الفن باعتباره رذيلة، وإقناع الفتيات بارتداء الحجاب. أي مـدرس يحاول نشر أفكار معاكسة لهم، أو مستنيرة، يجهدون في إقصائه ونبذه، ومعاقبة أي طالب أو طالبة يحاول التقرب منه. كنت أعيش فترة املراهقة بكل تناقضاتها. أريد أن أكون فتاة صالحة مثالية، وفي الوقت نفسه تـجـذبـنـي أفـــكـــار املـتـسـائـلـني املــتــشــكــكــني، وأريـــد السير على خطاهم. عندما حاولت إجراء حوار مع أحدهم، في اإلذاعة املدرسية، تمت مقاطعتنا فـي منتصفه، وحــظــر هــذا النشاط مــجــددًا. كان عنيفًا وقاسيًا ما عشناه مع مدرسني أحببناهم، ألنهم فتحوا أعيننا على التفكير وإعمال العقل بالتشكيك فـي بعض الـثـوابـت السياسية، على األقـــل. ربـمـا لـكـل مـا سـبـق، لـم يخطر ببالي أبـدًا أن أفكر في السينما، كتابة نقدية أو سيناريو. كــانــت بــــذور تـكـويـنـي أدبـــيـــة وديــنــيــة، واملـكـتـبـة مـالذ أول وأخـيـر فـي أوقـــات الـفـراغ فـي املـدرسـة، أو االستعارة من زميلتي مـاجـدة، التي تساعد والــدتــهــا فــي بـيـع الــخــضــار، أو أذهــــب إلـــى بيت عـــمـــتـــي ألقــــــرأ ســـاعـــتـــني مــــن كـــتـــب ابـــنـــهـــا، الــــذي يحظر علي الـخـروج بــأي كـتـاب، مهما توسلت إلــى عمتي أو إلـيـه. أمــا فـي بيتنا، فـإضـافـة إلى الــصــحــف، كــانــت هــنــاك 3 مـــوجـــات فـــي الـــراديـــو فـقـط، إضـافـة إلــى القناتني األولـــى والثانية في التلفزيون املصري. كـان عــادل إمــام شحيح الظهور. مسلسالن فقط فــي 18 عــامــًا، ومـسـرحـيـتـان تـــعـــادان بـاسـتـمـرار:
ذكرى مشاهدتي أول فيلم في السينما أقوى من أي ذكرى أخرى «مـدرسـة املشاغبني» )1971( و«شـاهـد ماشفش حــــاجــــة» .)1976( جــــــن جـــنـــونـــي حــــني شـــاهـــدت صـــورتـــه تـــتـــصـــدر أفـــيـــش «ســـــالم يـــا صــاحــبــي»، وتــجــدد حنيني وإعــجــابــي بشخصية ابـراهـيـم الطاير، الـذي تطارده العصابة بعد أن خدعها، وشخصية الجاسوس الوطني جمعة الشوان. صرت أبحث عن حجة للغياب. جاء تني الفرصة، عندما قـــرر األســتــاذ هـــارون إغـــالق دكــانــه باكرًا ألداء واجـب العزاء في قريب له. دخلت السينما مــن دون أن أخــبــر أهــلــي، إذ غـــرس فينا اعـتـقـاد بـــأن «السينما عــيــب». كـــان هـنـاك هـجـوم عليها ال أفـهـم سـبـبـه، باستثناء مـشـاهـد مــن طفولتي األولى، عندما كان أبي يفتح التلفاز، فرأيت نيلي مـع محمود يـس فـي مشهد مثير. أمـــام صينية الـعـشـاء، املـوضـوعـة على األرض، تـجـمـدت يدي على رغيف الخبز، ورفعت رقبتي، فظلت عيناي مثبتتني على الشاشة. نهض أبي منتفضًا. أغلق التلفاز، قائال بغضب: «انتهوا من العشاء. هذا موعد النوم. ممنوع مشاهدة األفالم». خرجت مـع حـشـود مـن الـنـاس فـي حالة سعادة، كأني أحتمي بهم، رغم النهاية املأسوية للفيلم. بــاســتــثــنــاء ذلــــك، ال أتـــذكـــر شـيـئـًا عـــن الـجـمـهـور. يبدو لـي أنــه كـان مهذبًا، فأنا ال يمكن أن أنسى الـــتـــفـــاصـــيـــل الــــتــــي تــــخــــرج عــــن حـــــــدود الـــلـــيـــاقـــة، وال املــضــايــقــات. هـــذه تــظــل مــحــفــورة فـــي عقلي. بـالـعـكـس، حــني أسـتـعـيـد هـــذه املــشــاهــدة األولـــى، أشـعـر أنـــي كـنـت غـارقـة مـع أبـطـالـي فـي الشاشة. ربما ال يكون هذا غريبًا على الشعب الدمياطي، ألنه شعب مسؤول ومعروف عنه االلتزام واألدب في التعامل. استهالكه وسلوكه اقتصاديان في الدرجة األولـى، فأكبر نسبة عمالة على مستوى مــصــر مــــوجــــودة فـــي مــحــافــظــة دمــــيــــاط: صـنـاعـة األثاث الفاخر، الذي يصدر إلى الخارج، وصناعة الحلويات، وصيد السمك وتجفيفه وتعليبه في أشهر املصانع هناك. إضافة إلـى صناعة الغزل والنسيج، التي تسببت في إصابة املئات بالسل، وأنـهـت حياتهم، ومنهم عمتي عـفـاف، وزوجـهـا وابنتها. حملت هذا الفيلم معي طويال، وظل مشهد الثأر فـي الـدقـائـق األخــيــرة راسـخـًا فـي ذهـنـي، خاصة عادل إمام في شخصية مرزوق، وهو على الجرار يقتل «الكينغ». بدا لي ضخمًا، وانتقامه مرعبًا. حـني أعـــدت مشاهدته فـي الـتـلـفـاز، لـم يكن بهذا التأثير. ال أدري: هل السبب الشاشة الكبيرة، أم أن نظرتي تبدلت خالل السنني؟