Al Araby Al Jadeed

حانة األدوار أم كلثوم

- هيثم أبوزيد

فـــي الــثــالـ­ـث مـــن فـــبـــرا­يـــر/ شـبـاط عــام ،1951 وقفت أم كلثوم على مسرح حديقة األزبكية لتشدو - للمرة األولــى - بأغنيتها الخالدة «جـددت حبك ليه» التي كتبها أحمد رامي، ولحنها ريـــــــا­ض الـــســـن­ـــبـــاطـ­ــي. مـــنـــذ ذلـــــك الـــتـــا­ريـــخ، وإلـى اليوم، انقسم مؤرخو الغناء عمومًا، واملهتمون بسيدة الغناء خصوصًا، حول تصنيف هذه األغنية ضمن قالب من قوالب الـــغـــن­ـــاء املـــعـــ­روفـــة، وبــيــنــ­مــا ذهــــب بعضهم إلـى أن «جـــددت حبك» بمطلعها وطابعها الـوجـدانـ­ي تنتمي إلــى قـالـب «املــونــو­لــوغ»، رأى آخـــرون أن األغنية أقــرب إلــى أن تكون طــقــطــو­قــة، إذ تــضــمــن­ــت «مـــذهـــب­ـــًا» مــتــكــر­رًا هـو «أنــت النعيم والـهـنـا». لكن خلو مطلع األغـنـيـة مــن هـــذا املــذهــب، وتـأجـيـل ظـهـوره إلــى الــجــزء الــرابــع مــن الـكـلـمـا­ت، كــان سببًا لظهور رأي ثالث، يرى أن األغنية مزيج من «املونولوغ» و«الطقطوقة». وبالطبع، فإن هذا «املزيج» ال يمكن رده إلى قالب واضح من القوالب الغنائية املعتادة. لـــم تـقـتـصـر هــــذه الــحــيــ­رة الـتـصـنـي­ـفـيـة على «جـــــددت حـــبـــك»، فــقــد طـــاولـــ­ت أعـــمـــا­ال قبلها وبعدها، ال سيما عند تأليف الكتب الكبيرة واملوسوعات املرجعية املختصة بأم كلثوم، إذ يرى املؤلفون ضرورة وضع كل أغنية من أغاني السيدة ضمن قالب غنائي محدد. ووفــقــًا ملـوسـوعـة أعـــام املـوسـيـق­ـى الـعـربـيـ­ة، الــــــتـ­ـــــي أصــــــــ­درهـــــــ­ـا مــــــركـ­ـــــز تـــــوثــ­ـــيـــــق الــــــتـ­ـــــراث الحضاري، في مكتبة اإلسكندرية، فقد مثل قالب «الطقطوقة» نحو 34% من أغنيات أم كلثوم، وحظيت «القصيدة» بنسبة 26% من غنائها، وهي نفس النسبة التي نالها قالب «املـــونــ­ـولـــوغ»، ولـــم يــجــاوز «الــــــدو­ر» 6% من مجموع تراثها، كما لم يتعد «النشيد» .3% أما بقية األشكال الغنائية، من موشح وموال ومحاورة، فلم تحظ بنسب معتبرة. لكن هذا النظر اإلحصائي العجول ال يكفي لفهم عاقة أم كلثوم بقوالب الغناء العربي، وهي عاقة بالغة العمق، بدأت باالستيعاب والهضم، ومنه إلـى التجديد والتطوير، ثم بـلـغـت الــــــذر­وة بــالــدمـ­ـج والـــصـــ­هـــر، لــيــس في الــشــكــ­ل فــقــط، وإنـــمـــ­ا بــالــقــ­درة عــلــى توظيف تـقـنـيـات قــالــب فــي قــالــب مــغــايــ­ر، واســتــعـ­ـارة بعض جماليات «الدور» في أداء «طقطوقة»، أو شخصية «املوشح» في إنشاد «قصيدة»، أو طبيعة «املوال» في غناء «مونولوغ». فـــي الــنــظــ­ر اإلحـــصــ­ـائـــي، غــنــت أم كــلــثــو­م 19 دورًا، كـــان آخــرهــا «عــــادت لـيـالـي الـهـنـا» من ألـحـان الشيخ زكـريـا أحـمـد، عــام ،1937 لكن الست استوعبت واختزلت جماليات اآلهات امللحنة في األدوار، فاستخدمتها في كثير مــن أغنياتها، ومــن األمـثـلـة الـواضـحـة لذلك آهـــاتـــ­هـــا الــشــهــ­يــرة الـــتـــي ثـبـتـتـهـ­ا فـــي أغـنـيـة «عودت عيني»، وتحديدًا مع مقدمة الغصن الثالث: «زرعت في ظل ودادي»، وكذلك اآلهات الــتــي تطلقها قـبـل أداء الـغـصـن الــثــالـ­ـث من أغنية «لسه فاكر»، أو تلك اآلهات التي غردت بـهـا عـنـد إعـــــادة املــقــدم­ــة املـوسـيـق­ـيـة ألغنية «فكروني»، في محفل 2 فبراير/ شباط 1967 بدار سينما قصر النيل. واألعمال الثاثة من حيث الشكل تنتمي إلى قالب «الطقطوقة». ومـــــن األدوار أيــــضـــ­ـًا، نــقــلــت ســـيـــدة الــغــنــ­اء جماليات «الهنك»، وهو تبادل جملة معينة بـــن املـــطـــ­رب وبـــن أفـــــراد «الــــكـــ­ـورس»، الــذيــن يـــــــؤد­ون الــجــمــ­لــة بــنــغــم­ــة ثـــابـــت­ـــة، فـيـتـلـقـ­فـهـا املـــطـــ­رب لــيــؤديـ­ـهــا بــطــرق مـخـتـلـفـ­ة، مـــع قفلة تــســمــح لـــلـــكـ­ــورس بـــاســـت­ـــامـــهـ­ــا وتــــكـــ­ـرارهــــا. وبـــــديـ­ــــا عــــن «الــــــكـ­ـــــورس»، كـــانـــت أم كــلــثــو­م تمارس هذا «الهنك» مع فرقتها املوسيقية، حــيــث يـــعـــزف أعـــضـــا­ء الــفــرقـ­ـة جـــمـــا تـتـرجـم التصرفات اللحنية للسيدة، بطريقة تشابه الترديد في األدوار. من أوضح األمثلة لهذا التصرف محفل «أنا في انتظارك» يوم 3 مــارس/ آذار في مسرح حــديــقــ­ة األزبـــكـ­ــيـــة عــــام ،1953 وتـــحـــد­يـــدًا في عبارة «ويا األفكار» التي خلقت أم كلثوم لها لحنًا مغايرًا، جاء عفوًا أثناء االرتجال، ونال استحسان الجمهور. بـل إن عـازفـي فرقتها رددوا بأنفسهم عــبــارة تـشـبـه «الــهــنــ­ك» في مـحـفـل شـهـيـر ألغـنـيـة «غــنــي لــي شــــوي» في مسرح األزبكية في 4 ديسمبر/ كانون األول عام ،1952 إذ «العبتهم» أم كلثوم في عبارة «املغنى حياة الروح». أما «املوال»، فهو البرهان األكبر على قصور النظر اإلحصائي مـع فـن أم كلثوم، ألن هذا الـنـظـر ســيــرى أن نـصـيـب ســيــدة الــغــنــ­اء من هــذا القالب يقتصر على نـمـوذج وحيد هو «برضاك يا خالقي»، في فيلم «سامة» عام .1945 وبما أنــه كــان ضمن فيلم سينمائي، فقد خضع للتلحن املسبق مــن قـبـل زكريا أحــــمـــ­ـد، أي أنـــــه افـــتـــق­ـــد إلـــــى أهـــــم خــصــائــ­ص

األغنية الكلثومية المسرحية تتشابه مع «الوصلة» الكالسيكية استطاعت توظيف تقنيات قالب في قالب آخر أو مزجهما معًا

«املــــوال» وهــو االرتــجــ­ال الـعـفـوي. والحقيقة الـــتـــي يـعـلـمـهـ­ا كـــل مـسـتـمـع ألغــنــيـ­ـات سـيـدة الــــطـــ­ـرب، أن االرتــــج­ــــال مـــثـــل مــســاحــ­ة كـبـيـرة ومــهــمــ­ة مـــن تـــراثـــ­هـــا. حـــرصـــت أم كــلــثــو­م في معظم محافلها على ارتجال مقطع أو أكثر مـن األغـنـيـة الـتـي تـؤديـهـا، بغض النظر عن قالب هذه األغنية. ارتــــجــ­ــلــــت الــــســـ­ـيــــدة فــــــي أعــــــمـ­ـــــال مــــــن قـــالـــب «الطقطوقة»، ويمكن أن نمثل لذلك بجميع محافل «يـا ظاملني»، وفـي أكثر مـن موضع، مــــن أشــــهـــ­ـرهــــا «أطــــــــ­ــاوع فــــي هـــــــوا­ك قـــلـــبـ­ــي»، وارتــــجـ­ـــلــــت فــــي كـــثـــيـ­ــر مــــن مـــحـــاف­ـــل «عـــــودت عيني»، و«حيرت قلبي»، و«أنا في انتظارك»، و«أروح ملــــن»، و«أنــــســـ­ـاك»، و«إنــــت عــمــري»، و«فكروني». ولـــــعــ­ـــل أشـــــهــ­ـــر ارتـــــــ­جـــــــال لــــهــــ­ا داخـــــــ­ــل قـــالـــب الطقطوقة يتمثل في وقفتها التاريخية مع عـــبـــار­ة «نـــظـــرة وكــنــت أحـسـبـهـا ســـــام»، في طـقـطـوقـة هـــو «صــحــيــح الـــهـــو­ى غـــــاب»، من محفلها الشهير في الرباط. بل إن بعض هذه الـطـقـاطـ­يـق، تضمنت أحـيـانـًا أجــــزاء ملحنة بروح املوال، مثل مقطع «يا سعده اللي عرف مرة...» من أغنية الحب كده. كــمــا يـنـتـشـر االرتـــجـ­ــال الـكـلـثـو­مـي فـــي كثير مــن القصائد الفصيحة الـتـي صاغها كبار الشعراء، ومن األمثلة الشهيرة الرتجاالته­ا داخـــــل قـــالـــب الــقــصــ­يــدة، وقــفــتــ­هــا مـــع مقطع «أشــــكـــ­ـو فــتــكــذ­بــنــي الــــشـــ­ـكــــاة»، مــــن قــصــيــد­ة «أتـعـجـل الــعــمــ­ر»، عـــام ،1938 أو مقطع «أبــا الزهراء قد جاوزت قدري»، من محفل «سلوا قــلــبــي»، فـــي جــامــعــ­ة الــقــاهـ­ـرة عـــام ،1957 أو ارتــجــال­ــهــا ملـقـطـع «أيــهــا الــســاهـ­ـر تـغـفـو» من قصيدة «األطال»، في أكثر من محفل. أمـا ذروة ارتجاالتها القصائدية وأشهرها عــلــى اإلطــــــ­اق، فــكــانــ­ت لـبـيـت شــوقــي «حـتـى بــلــغــت ســـمـــاء ال يـــطـــار لــهــا عــلــى جـــنـــاح وال يسعى على قدم»، من قصيدة «نهج البردة»، بمحفلها في سينما دمشق عام .1955 ولها كذلك ارتجاالت في معظم محافل «رباعيات الخيام»، وبعض محافل «ذكـريـات»، و«هذه ليلتي». وحتى قالب املونولوغ، ذو الطابع الوجداني، منحته أم كلثوم قــدرًا الفتًا من ارتجاالتها، ال سيما فـي تلك املـونـولـ­وغـات الـتـي لحنها زكــــريــ­ــا أحــــمـــ­ـد، مــــثــــ­ل: «اآلهــــــ­ــــــات»، و«حــــلــــ­م»، و«أهل الهوى»، و«األولـة في الغرام»، وكذلك فــي بـعـض حـفـات «رق الـحـبـيـب» رغـــم لحن القصبجي املـتـدفـق. وإذن، كــان أثــر «املـــوال» بخصيصته األساسية املتمثلة في االرتجال ضخمًا وواضحًا في كل تراث سيدة الغناء. وأمـــــا املـــوشــ­ـح بـــروحـــ­ه وإيـــقـــ­اعـــه، فـيـمـكـن أن يستشعره املستمع فــي أعــمــال مـثـل: «حانة األقــــــ­در»، و«الـــرضـــ­ا والـــنـــ­ور»، و«غـــريـــب على باب الرجاء». ومــن الـافـت أن توافقا جمعيًا استقر على تسمية األغنية الكلثومية املسرحية الطويلة بــــ«الـــوصـــ­لـــة»، إذ تــقــدمــ­هــا الــســيــ­دة بـطـريـقـة انفعالية، وتضمنها كثيرا مــن الجماليات واإلعـــــ­ــــــــــ­ادات الـــــتــ­ـــي ال تـــســـمـ­ــح بــــهــــ­ا صــيــغــة االســـتــ­ـوديـــو، ولــفــظــ­ة «وصـــلـــة» مـــأخـــو­ذة من طرب عصر النهضة، وكانت تشمل عددًا من القوالب اآللية والغنائية املنتمية إلـى مقام واحد، وتبدأ غالبا بعزف بشرف أو سماعي، ثم تقاسيم من املقام، يتبعها ليال وموال، ثم موشح أو أكثر، ثم دور أو قصيدة أو كاهما معا. واألغـنـيـ­ة الكلثومية املسرحية تتشابه إلى حد كبير مع تلك «الوصلة» الكاسيكية، إذ تبدأ دائما بمقدمة موسيقية، ثم بغناء من طبقة خفيضة، يتصاعد تدريجيا، ثم توظف أم كـلـثـوم جـمـالـيـا­ت الــقــوال­ــب الـقـديـمـ­ة أثـنـاء غـنـائـهـا، بـــاآلهــ­ـات والـهـنـك واالرتـــج­ـــال الــذي تحن فيه كثيرًا فـرصـة التقاسيم، لفرسان فرقتها الكبار: محمد القصبجي على العود، ومحمد عـبـده صـالـح على الـقـانـون، وأحمد الـحـفـنـا­وي عـلـى الــكــمــ­ان. ال يطلق أحـــد اسـم «وصــلــة» عـلـى تسجيل اســتــودي­ــو، حـتـى لو كان ألغنية من املطوالت.

 ?? ?? مر على رحيلها 48 عامًا )Getty(
مر على رحيلها 48 عامًا )Getty(

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar