الحاجة إلى نموذج اقتصادي تصحيحي
عندما سمى االقتصاديون القدامى في القرنني السابع عشر والـــثـــامـــن عــشــر عـلـمـهـم «الـــحـــســـاب الــســيــاســي»، فــقــد ضــربــوا الشاكوش على رأس املسمار، ووضعوا أصابعهم على قضية العالقةَّبني الشعوب وحكامهم. ولقد قدم القرآن في كثير من آياته ذكر املال على ذكر األوالد، مثل الجهاد باملال والنفس، والذين يحبون املال حبًا جمًا، وغيرها من الشواهد التي تؤكد أن قراءة للنفس البشرية تجعلها تؤثر املــال على العيال. ولـذلـك، يعتبر املــال املقدم من أي مواطن إلى الحكومة غرمًا، واملال الذي يجنيه من املال العام غنمًا. ومع تقدم الوقت، وزيادة الدراسات، لم يعد االقتصاد محصورًا في البعد املالي، فتغير اسمه إلـى علم «االقتصاد السياسي». وهذا ما أكده واضعو علم االقتصاد الكالسيكيون أمثال ديفيد ريكاردو و «جون ستيوارت ميل» ( )J.S.MILL اللذين وسما كتابيهما بعنوان واحـــد، وهــو «مـبـادئ االقتصاد السياسي»، ورأى هــؤالء أن الفصل بني السياسة واالقتصاد غير ممكن، ولذلك حافظوا على االزدواجية في العنوان. وبعد ذلك برزت املدرسة األملانية - النمساوية االقتصادية التي أدخل أصحابها نظريات الرياضيات والفيزياء والهندسة في علم االقتصاد. فالهامشية مقتبسة من التفاضل والتكامل، وردة فعل العنصر التابع إلى تغير بسيط في العنصر املستقل هي نظرية الفيزياء الحرارية التي تقيس معامل التمدد، والهندسة تجلت في الرسومات واملنحنيات ذات البعدين أو الثالثة أبعاد لرسم عالقة املتغيرات االقتصادية مع بعضها البعض. وهكذا صار االقتصاد بحد ذاتـه علمًا، وأصبح من أكثر العلوم االجتماعية واالنـــســـانـــيـــة قــابــلــيــة لــلــقــيــاس. ومــــن هــنــا بــــرز عــلــم االقــتــصــاد الرياضي. واالقتصاد القياسي، وبناء النماذج االقتصادية من معادلة واحدة أو من معادالت كثيرة صار عرفًا متداوال. وساهم في هذا األمر التطور الهائل في أجهزة الحاسوب ونمو قدرتها على الـقـيـاس. ولـكـن هــذا لـم يقلل مـن أهمية الـعـالقـة املـالـيـة بني الحكومات والشعوب، بل زادها عمقًا وإحاطة. ولـــذلـــك بــــرزت نــظــريــة املــالــيــة الــعــامــة « »FISCAL POLICY FINANCE«وأ »PUBLIC أو نظرية املالية العامة، وملا تطورت الــنــظــريــة الــنــقــديــة، أو الــســيــاســة الــنــقــديــة »« MONETARY »POLICY وأدواتــــهــــا مــثــل ســعــر الــفــائــدة (الـــخـــصـــم)، الكتلة النقدية، واألموال القابلة لإلقراض، صارت هذه السياسة مرتبطة بالسياسة املالية وأدواتــهــا مثل الـضـرائـب والــرســوم واإلنـفـاق واالقتراض املباشر أو عن طريق السندات واألذونات الحكومية. ومـــن املــفــتــرض حـسـب نـظـريـة الـــــدورة االقــتــصــاديــة أن تـتـآزر السياسة املـالـيـة مــع السياسية الـنـقـديـة، وأن يصبا فــي نفس الهدف، فمثال إذا عانت الدول من التضخم، فإن السياسة النقدية فــي هــذه الـحـالـة تملي زيـــادة أســعــار الــفــوائــد، وتنقيص الكتلة النقدية، أي سحب السيولة النقدية من األسواق. أمـا السياسة املالية فتملي زيــادة الضرائب، وتنقيص اإلنفاق العام، واالقتراض الحكومي من السوق حتى تقل القدرة الشرائية. وإذا تضاربت هاتان السياستان، وشدت كل واحدة منهما في اتجاه معاكس عن األخرى، فإنهما سيلغيان آثارهما أو يقلالن من فعالية مكافحة التضخم. وقـد تلجأ بعض الحكومات في هذه الحالة إلى سوق العمل لكي تمنع ارتفاع األجور النقدية أو لتقلل من نسبة ذلك االرتفاع وتوقيته. ولكن تداخل االقتصادات العاملية قد خلق تشابكًا بني اقتصادات العالم. ولعل أوضح مثال على ذلك ما قامت به الواليات املتحدة خالل السنة املاضية ونيف من زيادة أسعار الفائدة لكي تكافح التضخم في اقتصادها. وقد أدى هذا الوضع إلى زيادة أسعار الفائدة على الدوالر 9 مرات منذ مارس /آذار 2022 بـ )350( نقطة أســاس وألعلى من .%5 وهناك دول ترتبط عملتها بـالـدوالر، وتحتفظ بمعظم االحتياطي النقدي الــذي لديها بــالــدوالر، إن لم يكن كله. وتخشى هـذه الــدول أن يــؤدي عـدم مجاراتها إلى رفع أسعار الفائدة على االستثمارات النقدية إلى بيع الجمهور الـــذي يحتفظ بـهـذه االسـتـثـمـارات بالعملة املحلية واستبدالها باستثمارات بالدوالر. في هذه الحالة سيزيد الطلب على الدوالر في تلك الدولة، وسوف يؤدي ذلك إلى تراجع سعر صرف العملة املحلية لصالح الدوالر، مما يرفع أسعار مستوردات هذه الدولة بالعملة املحلية ممعنًا في رفع معدالت التضخم. وسيرافق هذا كله زيــادة في كلفة اقتراض الحكومة من السوق املحلية ومن الخارج فيزيد من أعبائها املالية. صحيح أن التضخم ينفع الحكومات التي تجني معظم الضرائب على السلع والخدمات بنسب مئوية. ولكن ارتفاع أسعار هذه السلع والخدمات سيزيد من تحصيالت الحكومة وايراداتها. غير أنها لن تزيدها بمقدار زيـادة النفقات ألنها أصـال تعاني من عجز، أو زيادة النفقات على اإليـرادات، وهكذا يزداد العجز في املوازنة العامة، ويــزداد كذلك الطلب الشعبي على الحكومة لكي تزيد الدعم، وترفع األجور. وسيرافق هذا زيادة في ضغط النقابات العمالية على الشركات في القطاع الخاص لكي تعوض عمالها عن التدني الذي حصل في القوة الشرائية لألجور. وإن استجابت الحكومة والشركات الخاصة لهذه الطلبات ارتفعت أكالفها، وقلت أرباحها ما يؤدي إلى تراجع اإليرادات الحكومية وزيـادة اإلنفاق وتوسيع فجوة العجز الحكومي. وهكذا تسير السياسة املالية العامة في اتجاه معاكس للسياسة املالية. نحن بحاجة إلى نموذج اقتصادي تصحيحي يمكن واضيعي الــســيــاســة االقـــتـــصـــاديـــة مـــن زيـــــادة فــعــالــيــاتــهــا، والــتــمــكــن من حـل املعضالت الهيكلية. وهـــذا هـو التحدي االقـتـصـادي الـذي سيفرض نفسه على االقتصادات العربية كلها. وال تستثنى من ذلك الـدول األغنى، أو تلك التي ترى أن لديها اإلمكانات الكافية الحداث تنمية مستدامة في اقتصاداتها. ونحن في الوطن العربي لدينا إمكانات هائلة، والحكومات قادرة على دعــم بعضها البعض وأن تستفيد مـن بعضها البعض. وقد بنينا نحن العرب ألنفسنا مؤسسات مشتركة هامة بعد ارتـفـاع أسعار النفط عـام ،1974 وقدمت الــدول األغنى الكثير لـلـدول العربية األخـــرى مـسـاعـدات وقــروضــًا مـيـسـرة، ووفــرت أيضًا االستثمارات وفرص العمل لفائض العمالة في الدول غير النفطية. وكــان عقدا السبعينات ومعظم الثمانينات شاهدين عــلــى حـــركـــة بـيـنـيـة اســتــثــمــاريــة وعــمــالــيــة وتـــجـــاريـــة (خــاصــة الخدمات) حتى أكثر مما كنا نرجو.