Al Araby Al Jadeed

من يحدد المشهد التركي المقبل؟

- غازي دحمان

أبـــــــر­زت االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات الـــتـــر­كـــيـــة، الــرئــاس­ــيــة والبرملاني­ة، واملـشـارك­ـة الشعبية الواسعة، حجم االستنفار والتوتر اللذين تعيشهما تركيا. وإذا كان للقضايا الحياتية العادية وعــوامــل الـكـاريـز­مـا والـعـواطـ­ف الشخصية دور مهم في هـذا التحشيد، إال أن الواضح أن مــا حـصـل يـكـشـف بـــدرجـــ­ة كــبــيــر­ة حجم االســــتـ­ـــقــــطـ­ـــاب، االجــــتـ­ـــمــــاع­ــــي والـــســـ­يـــاســـي والثقافي، الذي تقع تركيا في قلبه. لم تخف تصريحات السياسيني وبرامجهم عناصر االســـتــ­ـقـــطـــا­ب، بــــل أكـــــــد­ت عــلــيــه­ــا بـشـفـافـي­ـة ووضوح، وشكلت رهاناتها األساسية للفوز فــي االنــتــخ­ــابــات الـحـالـيـ­ة، حـتـى أن تركيا، على وقــع ذلــك، تحولت إلــى جــزر منفصلة، أو على األقـــل إلــى تركيتني، وبـــدا كـل فريق مهتما بسكان الجزيرة التي تعنيه وتؤمن بـه، من دون أي محاولة الستقطاب آخرين من الطرف اآلخر، فقد تركزت اللعبة بدرجة كبيرة على شـــد أعــصــاب الناخبني فــي كل جزيرة، وشحذ هممهم للنزول إلى صناديق االنتخاب يوم 14 مايو/ أيار، ألن أي نقصان سيكون لـه انعكاس فـي مــوازيــن محسوبة بدقة بالغة، ذلـك ما أثبتته نسبة املشاركة غــيــر املــســبـ­ـوقــة فـــي االنــتــخ­ــابــات والـنـتـائ­ـج التي حرمت أردوغان من الفوز جراء أعشار باملائة وليس فـــوارق كبيرة. بالقدر نفسه، تكشف الـنـتـائـ­ج املـعـلـنـ­ة، وخـصـوصـا على مستوى الــرئــاس­ــة، أن الــتــحــ­والت الـتـي كثر الحديث عنها، لم تكن باتجاه واحد فقط أو صبت في مصب واحد، بل جرت باتجاهني مـتـعـاكـس­ـني عــبــر روافــــــ­د عــــــززت الـسـيـاقـ­ات املـــتـــ­وازيـــة لـلـجـزيـر­تـني الــتــركـ­ـيــتــني، فمثلما أنتجت هذه التحوالت ديناميكيات مؤثرة في الضفة الليبرالية، التي احتوت، بدرجة كبيرة، تـيـارات املـعـارضـ­ة، أنتجت مقابلها ديناميكيات، قد تكون استجابة ملا اعتبر تحديا عند الطرف اإلسامي القومي. ولــــتـــ­ـوضــــيــ­ــح صـــــــــ­ـورة املــــشــ­ــهــــد الــــتـــ­ـركــــي واســتــقـ­ـطــابــات­ــه، حــســب مـــا كـشـفـتـه ليس نتائج االنتخابات وحسب،ّ بل والفعالية االنتخابية والفاعلون املــؤثــر­ون، بما في ذلــك الـتـصـورا­ت السياسية واالجتماعي­ة ورهـــــــ­ــانــــــ­ـــات األطــــــ­ـــــــــر­اف املــــخــ­ــتــــلــ­ــفــــة، فـــقـــد تـكـشـف املـشـهـد الـتـركـي عــن مجموعة من االنقسامات االستقطابي­ة: االنــقــس­ــام العلماني الــتــديـ­ـنــي: للمصادفة، جرت االنتخابات الحالية في الذكرى املئوية لتأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الخافة العثمانية، حيث ذهــب مؤسسها كـــمـــال أتــــاتــ­ــورك بــعــيــد­ا فـــي االنـــفــ­ـصـــال عن اإلرث العثماني والشرعية اإلسامية عبر تبني املنهج العلماني في القوانني والحكم، غير أن املجتمع التركي شهد، منذ البداية، انقساما حادا. ورغم محاوالت األتاتوركي­ني تطبيق نهجهم بالقوة، استطاعت التيارات اإلســــام­ــــيــــة، عـــبـــر نــــضــــ­ال مــــديـــ­ـد، تـحـقـيـق التوازن، ثم الوصول إلى الحكم منذ نهاية التسعينيات في القرن املاضي. أرادت أطراف اللعبة، في االنتخابات أخيرا، وخصوصا الـــقـــو­ى الــعــلــ­مــانــيــ­ة، الــلــعــ­ب فـــي الـــتـــو­ازنـــات القائمة، ربما لقراءتها مـؤشـرات تــدل على حــصــول انــزيــاح­ــات داخــــل املـجـتـمـ­ع، بعيدا عـــن الـــتـــي­ـــار الـــديـــ­نـــي، وشــجــعــ­هــا عــلــى ذلــك إخفاق حـزب العدالة والتنمية في معالجة األزمـــــ­ــة االقـــتــ­ـصـــاديــ­ـة وقـــضـــا­يـــا الـــاجـــ­ئـــني، لكن االنتخابات أثبتت أن انعكاسات هذه املسائل على رأي الناخب التركي لم تكن لها آثار كبيرة، وأن للعامل األيديولوج­ي التأثير األكبر. في املقابل، وقفت األكثرية املحافظة بــدرجــة كبيرة خلف أردوغـــــ­ان وحــزبــه من دون االلـتـفـا­ت كثيرا للبرامج االنتخابية وما تقوله، واملؤكد أن درجة االستنفار لدى املكونات األخرى وحماسها االنتخابي قد حفزا األكثرية لاقتراع ألردوغـان والنزول بكثافة لصناديق االقتراع. االنقسام الحداثوي التقليدي: برز بوضوح فـوز كليجدار في املـدن الكبرى، إسطنبول وأنـــقـــ­رة وإزمـــيــ­ـر، ذات الــطــابـ­ـع الــحــداث­ــوي، والتي تأثرت بخطاباته عن الديمقراطي­ة واالنــتــ­مــاء للعالم الــغــربـ­ـي، بــاإلضــا­فــة إلـى مكونات تحالفه االنتخابي، من ليبراليني وحــداثــو­يــني، مـقـابـل فـــوز أردوغـــــ­ان وحــزب الــــعـــ­ـدالــــة والـــتـــ­نـــمـــيـ­ــة فــــي واليــــــ­ــات الـــوســـ­ط والـجـنـوب، ذات الطابع الريفي التقليدي، وهي بيئات محافظة. ورغم تأثرها بشكل كـبـيـر بـــالـــز­لـــزال الــــذي وقــــع فـــي 6 فــبــرايـ­ـر/ شباط، ما دفع تقديرات كثيرة إلى التكهن بـاحـتـمـا­لـيـة تـصـويـتـه­ـا ضــد أردوغـــــ­ـان، إال

لم يخِف األكراد والعلويون حماسهم إلخراج أردوغان من اللعبة السياسية

أن ثقافتها املحافظة وحـذرهـا من مظاهر الـحـداثـة فــي الــغــرب الـتـركـي جعاها تقف خـــلـــف املــــرشـ­ـــح املـــضـــ­مـــون اســــتـــ­ـمــــراره فـي تـبـنـي هـــذه الــقــيــ­م. االنــقــس­ــام حـــول الـهـويـة الــجــيــ­وســيــاسـ­ـيــة: حــســم كــلــيــج­ــدار أوغــلــو انـــتـــم­ـــاءه الــجــيــ­وســيــاسـ­ـي لــلــغــر­ب، وانـتـقـد أردوغـــــ­ــــــان بـــتـــوج­ـــهـــه الــــشـــ­ـرقــــي وعـــاقـــ­اتـــه النامية مـع روسـيـا، مـن دون تحديد كيف يـمـكـن إصــــاح الـــعـــا­قـــات مـــع الـــغـــر­ب، بعد أن قـطـعـت شــوطــا فـــي االبـــتــ­ـعـــاد، وال كيف ســيــفــك­ــك الـــعـــا­قـــة املــتــشـ­ـابــكــة مــــع روســـيـــ­ا إلـــــى حــــد بـــعـــيـ­ــد، والــــتــ­ــي طــــاولــ­ــت مـخـتـلـف قطاعات االقتصاد والـتـجـار­ة. فـي املقابل، لم يتضمن طـرح أردوغـــان، بشكل صريح، نية االنفصال عن الغرب، بل وضع خافاته مــعــه فـــي ســـيـــاق تــعــزيــ­ز الـــهـــو­يـــة الـوطـنـيـ­ة التركية والـدفـاع عن استقال تركيا، وهو مـــا رســــخ لــــدى ذوي االتـــجــ­ـاهـــات الـقـومـيـ­ة القناعة بــأن أردوغــــا­ن هـو القائد املناسب ملـــرحـــ­لـــة صـــعـــبـ­ــة فــــي الـــســـي­ـــاســـة الـــدولــ­ـيـــة، كــان أردوغــــا­ن قـد ثبتها مـن خــال تحقيق التوازن في العاقات بني أقطاب السياسة الدولية إلـى حد بعيد. مشهد االنتخابات الـتـركـيـ­ة هــو مـجـمـوعـة هـــذه االنــقــس­ــامــات، الصراعات، التي يحاول كـل منها صياغة موقف تركيا وموقعها مما يجري داخلها وفي الخارج. وبفوز حزب العدالة والتنمية بات نصف املشهد واضحا، بانتظار نتائج الجولة الثانية، ملعرفة أي تركيا ستكون فاعلة في السنوات الخمس املقبلة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar