Al Araby Al Jadeed

مسقط رأسك إذ يتعّرض للقصف

- زياد بركات

إذ تقصف غزة، وهذا يتكرر ويكاد يصبح مألوفًا، فإن طوفان الصور ال يكون على األرض، بل في السماء، فعليك أن تتابع الصواريخ إذا انطلقت و«القبة الحديدية» إذا تصدت أو أخفقت، ثم هناك الدخان الذي يتصاعد، ويكون أبيض ويحتاج وقتًا قبل أن يتبدد. وإذ يحدث هذا تنتقل الكاميرات إلى األرض، حيث دخان هائل يتصاعد من إحدى البنايات من دون أن ترى أثرًا للناس، فأين ذهبوا؟ هل يختبئون تحت طاوالت الطعام؟ وهل لديهم طاوالت طعام أصال؟ ثم إنك تسأل نفسك: ملاذا ال يبنون مالجئ لهم في تلك البقعة الصغيرة، املكتظة بالسكان، التي هي مسقط رأسك الذي تسقط عليه الصواريخ، فال تعرف كيف لسكانه أن ينجوا كل مرة، ويعودوا إلى حياتهم كأن شيئًا لم يحدث؟ ثم هناك سيارات اإلسعاف التي تنقل الشهداء، والوصف إذ يدخلهم الجنة، إال أنه يغض النظر عن أنهم قتلوا، وأن قاتلهم معروف، وقصفهم بصواريخ دقيقة لم يتوقف يومًا عن تطويرها لقتلهم بما يقلل من خسائره ويزيد من أعدادهم. وهم أهلك من يقتل هناك. لم يكونوا في نزهة على البحر فداهمهم تسونامي مدمر مسح أحياءهم عن وجه األرض، بل كانوا أطفاال وشبانًا وأمهات وآباء مثلنا، نحن الذين نعيش هنا بعيدًا عنهم هناك، حيث يقتلون ويشيعون موتاهم من دون أن يفقدوا إيمانهم بربهم الذي يقيمون له الصلوات في عاله. لقد داهمتهم الصواريخ وهـــم فــي بيوتهم فــي مــالبــس الــنــوم. فــي وطـنـهـم غـيـر بعيد عــن حقولهم ومقابر أسالفهم. بني أطفالهم ومعهم. لقد قتلوا، فجاءت سيارات اإلسعاف ونقلتهم إلى املستشفيات التي رأيناها في التغطيات التلفزيوني­ة، من دون أن نرى أحالمهم بموت مطمئن بني أوالدهم وأهلهم، وعلى أسّرتهم التي تركوها هناك. إنهم «هـنـاك»، حيث بالدنا تقصف على شاشة التلفزة، فتشيح بوجهك فال قدرة وال جلد لديك لرؤية أهلك وقد تحولوا إلى كيس املالكمة، يتدرب عليه كل سياسي يميني يصعد في إسرائيل. أهلك الذين ال يمثلون أولـويـة حتى لإلعالم املتعاطف معهم، فاألولوية هي ملديات الصواريخ التي استخدمت، ومقارنتها بالتي استخدمت في الحرب السابقة، تليها تصريحات السياسيني التي تشبع تحليال من متحدثني ال يعرف واحد منهم اسم آخر القتلى ما لم يكن قياديًا. كأن أهلك «هناك» مجرد فكرة، فمن هم الذين قتلوا؟ ومن هو هذا الذي يسقط رأسه على صدره من النعاس، ألنه لم ينم منذ ثماني عشرة ساعة خوفًا من القصف أو ترقبًا له؟ أهو فكرة ليس أكثر. ال نراه وال نراهم إال بعد أن تنتهي الحرب، ولكنهم أهلي، وأعرف أن ال وقت لديهم للحزن، فال دول مانحة تهب لنجدتهم، وال مشاريع إعمار لترميم بيوتهم وخياطة جروحهم املفتوحة، بل محللون ومراكز دراســات ّتتناسل لترصد صعود حركة الجهاد بعد الحرب على حساب حماس، وأخرى تحلل تنامي نفوذ اليمني الديني خالل القصف، وكيف أن حربًا تنشب وقتلى يشيعون وبيوتًا تدمر ألن نتنياهو ال يريد إغضاب وزيـره إيتمار بن غفير. وهم يعرفون ذلـك. أهلك الذين هناك يعرفون أيضًا أن على الحياة أن تستمر، وأن عليهم أن ينصبوا ما يشبه الخيام على أنقاض بيوتهم، ألن عليهم أن يناموا وأن يأكلوا وأن يبحثوا عن عمل لشراء سرير بدال من ذاك الذي دمر، ودفترًا للولد الذي عليه أن يذهب إلى املدرسة في نهاية املطاف. إنهم أهلك هناك، حيث مسقط الرأس الذي ال ينفك يسقط على الصدر مع كل قصف لتلك األرض الصغيرة، األكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. أهلك الذين يقتلون إذا كانوا ممن بقوا في غزة، ويهانون في العالم إذا كانوا ممن غادروها على معابر الجيران العرب، وال يعترف بهم إذا عاشوا في تلك الـــدول، فال يمنحون جـــوازات سفر، بل يقيمون في املؤقت، ويتنفسون في االستثناء، فال عمل إال باستثناء، وال دراسة جامعية إال باستثناء، وال عالج إال إذا تفضل محسن أو مدير مستوصف يشعر بالذنب واألسى. أهلك الذين كأن أحدًا في هذا العالم كله ال يراهم، وعليهم من قبل ومن بعد أن يؤمنوا بربهم، وهم يؤمنون به، ويقيمون له الصلوات، وهم يفعلون ذلك في كل وقت وحني.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar